لو رجعنا قرناً الى الوراء، الى 1905 تحديداً، وحاولنا قراءة الأحداث السياسية للسنة المذكورة، لعدنا محمّلين بالملحميّ يسم التاريخ ويستولي عليه.فقد ابتدأ العام ذاك بهزيمة روسيا أمام اليابان واستسلام جيشها في بورت أرثر، بعد حرب طاحنة استغرقت معظم 1904، وقيل في وصفها إنها نصرت الآسيويين المتأوربين على الآسيويين الأقحاح. صحيح أن مثقفينا، أو بعضهم، أوّلوا الأمر انتصاراً لـ «الشرق» على «الغرب» فهللوا له. إلا أنهم كانوا، في ذلك، مخطئين الخطأ الذي دخلوا القرن العشرين على هديه. فالطلب على أوروبا هو ما كان عنوان العصر البازغ، وهو لم يبدُ أقل إلحاحاً في روسيا نفسها.فبعد المجزرة التي ارتكبتها القوات القيصرية، وقد هزمتها اليابان، أمام قصر الشتاء في سان بطرسبورغ، ولد السوفيات الذي حمل اسم المدينة وتتالت الأحداث التي باتت تُعرف بـ «ثورة 1905». وفي وقت لاحق، وباستعارة من لغة المسرح، وصف ليون تروتسكي، قائد السوفيات، الثورة المذكورة بأنها التمرين الأوّلي على اكتوبر 1917.أما أوروبا التي كان يكثر الطلب عليها، ولو تباينت الوسائل والطرق، فكان حدثها الأبرز إقدام الفرنسيين على فصل الدين عن الدولة - ذاك القرار المدوّي الذي توّج صراعات الجمهورية الثالثة ومسألة دريفوس، كما حسمها، بعدما أقامت أصوله البعيدة في الثورة الفرنسيّة الأمّ والاصطفاف المتشكّل حيالها.ومضت الملحميّة التي عرفتها مطالع القرن العشرين تشهد ذرى أخرى واحدتها تبزّ سابقتها، فكانت الحربان العالميتان، وبينهما كانت الثورة البلشفية ثم الستالينية، والفاشية الايطالية فالنازية الألمانية، وعلى مقربة منهما اندلاع الحرب الأهلية في اسبانيا.لقد تبلور قرن ايديولوجي بامتياز انطلاقاً من الأحداث التي جدّت عام 1905 والسنوات القليلة الواقعة على ضفافه. وهو ما نعود الى مطالعته، بعد قرن بالتمام، مع فوارق نوعيّة، لا تفوت البصر ويُستحسن ألاّ تفوت البصيرة. فـ «الايديولوجي» لا يزال حادّاً ومحتدماً، على رغم التبشير الذي صحب انتهاء الحرب الباردة عن موته وموت التاريخ معه. أما التكرار فليس ملهاة بقياس الأصل - المأساة، إذ الموت المتعاظم يحيل الكلام عن الملهاة في وصف زمننا، أقلّه العربي والمسلم، ملهاوياً وعديم الحساسيّة في وقت واحد.والحال أن الفارق الأبرز هو انعدام الملحميّة اليوم. وهو، في بعـــض الحالات، علامة متقدمة على الاتّعاظ بالزمن والانسياق وراء سائق الحياة والدمقرطة الطاردة للبطوليّ والـــخارق. لكنه، في حــالات أخرى، هي حالاتنا عموماً، عــلامـــة عـــلى فــوات تاريخـــي ومجـــانيّة فــي طلـــب المـــعنى وفي عرض الدم. وغني عن القول إنها مجانية تترتب على عبــث المــناطــحة المــسكونة بالانتحار طريقــاً الى ســـؤدد مكانه المقابر لا التاريخ.أما المتّعظون بالزمن، لا بوصفه تراكماً يُرصَف سنة فوق أخرى بل كدلالات وعِبَر، فيتصدّرهم الايرلنديون: ففي 1905، أسس أحد هؤلاء، أرثر غريفيث، حزب «شين فين»، الوطني والقومي، سعياً الى استقلال ايرلندا، شمالاً وجنوباً، عن التاج البريطاني. وكان للحدث هذا أن جدّد، وحدّث، النزاع الذي ما لبث أن انفجر دموياً، وتلاحقت أطواره، بين الايرلنديين الكاثوليك وبين البريطانيين وبروتستانت ايرلندا. لكنْ في 2005، قرر الأحفاد السياسيون لأرثر غريفيث، أي «الجيش الجمهوري الايرلندي»، إنهاء الصراع المسلّح الذي انطلق آخر دوراته في 1969، مُعملين المراحيض في سلاح كان من قبل «مقدّساً».لقد كان الايرلنديون حسّاسين للتاريخ، شأنهم شأن قارّتهم التي ترتبّت على بداياتها الملحميّة وجهة وقصد لم يُترك للعنف، ولا حتى للسياسة، تلخيصهما أو تطويعهما. فهم، عام انشائهم حركتهم الوطنية، كان النروجيّون يستقلّون عن المملكة السويديّة، ولم تكن الرياح القومية التي أطلقتها الوحدتان الايطالية والألمانية قد هدأت أو تراخت. كذلك جاء اصطباغ حركتهم الوطنية بلون اجتماعي ترجيعاً لما قررته الطبقة العاملة البريطانية حين اختارت، مع غرّة القرن الماضي، تشكيل حزبها السياسي الذي غدا يُعرف بـ «العمّال». وعندما تصاعدت حربهم في السبعينات، كان العالم تشقّه الحرب الباردة وتتناثر على خريطته بؤر كـ «التوباماروس» و»بادر - ماينهوف» و»الألوية الحمراء». لكن الأهم أن بعض هذا العالم كان يقاتل بعضه الآخر دولاً متكافئةً وأسلحةً تكاد تتكافأ، ما بين فيتنام وباكستان والشرق الأوسط وأنغولا، وصولاً الى أيدٍ مشدودة دوماً على الزناد في كوبا. بيد أن الايرلنديين حين سرّحوا حركتهم المسلّحة كانوا يرون، بأمّ العين، لا في أحلام بنلادنية ونجادية، نوع المصائر التي آل إليها العنف بعد الحرب الباردة. فقبل ايام على قرارهم كانت أربعة انفجارات ارهابيّة تهزّ لندن، المدينة العدوّ افتراضاً، وتودي بخمسين قتيلاً وقتيلة كلهم مدنيّون وبعضهم تلامذة.ومرتكبو العملية هذه فصيل من فصائل الفوات والمجانيّة التي تمادى عبثها في 2005. فقبل محنة العاصمة البريطانية في 7 تموز (يوليو) وبعدها، تلاحقت ضربات الإرهاب، عابرة البلدان والمدن موحّدةً أبرياء الشعوب في الموت. وكان، ولا يزال، دم وتدمير ذاتي وأذيّة للعالمين تكاد تصير صيتنا في الدنيا ومساهمتنا في حضارتها، لم ينقذنا من ذلك إلا لجنة نوبل بمنحها إحدى جوائزها لمحمد البرادعي. ذاك أن أخبارنا، في ما لو تُرك الأمر لنا، لما أفسحت لغير السياسيّ مكاناً، والسياسي عندنا يحتلّ القتل فيه مكانة السلطان في المجالس السلطانية.والراهن أن 2005 العربي لـ 1905 الأوروبي مثل الثفالة في أسفل الفنجان للقهوة التي كانت تملؤه. والثفالة لا تُشرب لأنها ثفالة، فكيف وقد عُتّقت فازدادت مرارةً ومزازةً وربما سماً للضيف والمضيف معاً.ولا يعني هذا أن ما شيء يُعترض عليه في عالمنا. لكن اعتراضات 2005، والأعوام القليلة التي سبقته، هي على العالم نفسه وعلى الحياة إيّاها. فما بين انتحاريين هنا، ورئيس كأحمدي نجاد هناك، يصير جورج بوشن في البيت الأبيض، بمثابة الدفّ لجماعات ترقص بلا دفّ. وهم يجمع بينهم أنهم غير سعداء في الكون كما استقرّ عليه، مرتدّون على حداثته إما بالدين أو بالسكين أو بسلاح دمار شامل وإلا فبخليط من هذه كلها. وقد أفضى بهم التسمّر في ماضٍ مُتوهّم الى إماتة حسّ الحياة والزمن، وتالياً التاريخ، فغدوا وغدونا معهم نهبط كلما أردنا الصعود، ويزداد جوعنا كلما أكلنا. وي تخلّع شامل كهذا، تسنده روابط الدم والمذهب نستغني بها عمّا عداها، لم يعد ثمة معنى لشيء، أو حق، أو سياسة. فإذا ما أُحرزت خطى توصف، مبدئياً، بالايجابيّة، كوصول زعيم معتدل الى سدّة فلسطين، أو اجراء انتخابات في عراقٍ حال صدّام بين بنيه وأنفاسهم، أو خروج جيش محتل ومخابرات مجرمة من لبنان، حملت الانجازات من مخاطر الارتداد عليها ما يفوق المكاسب التي تثمرها. فكأننا، والحال هذه، لا نستطيع البقاء في سفينة تغرق، ولا يسعنا القفز منها لأن الحيتان الجائعة تستحمّ حول السفينة. فكيف وأن البعض منا يحبّ الغرق وبعضنا يحبّ الحيتان!أما الأوروبيون، قبل قرن، فاقترن قتلهم وقتالهم، وهما كثيران، بإصلاح سفينتهم والتحديق في المرفأ الذي أدركوه بعد ذاك.ــــــــــــــــ عن / الحياة
2005 العربي على ضوء 1905 الأوروبي
أخبار متعلقة