في ذكرى رحيله الـسادسة عشرة 14 أكتوبر تفتح أرشيف الفنان الراحل محمد سعد صنعاني
[c1]* في اليمن خمسة ألوان غنائية تختلف باختلاف إيقاعاتها وأدبها[/c]في مقابلة أجرتها معه مجلة الفنون عام 1985م تحدث الأستاذ الفنان الراحل محمد سعد صنعاني عن تاريخ الأغنية اليمنية وكان حديثاً محيطاً بفنون الألحان وقواعدها ويعد مرجعاً للفنانين ومؤرخي الفن الغنائي.14 أكتوبر تعيد نشر اللقاء الصحفي لإحياء ذكرى الفنان الراحل وتعميماً للفائدة وفيما يلي نص اللقاء.ما يميز محمد سعد الصنعاني الفنان والملحن أنه كثير الاستماع إلى الموسيقى المحلية والعالمية، يطرب للجيد منها، يحللها ويجعلها أساس تفكيره وهمه في آن واحد.في الحوطة عاصمة مديرية تبن محافظة لحج يكاد منزل محمد سعد الصنعاني المتواضع أن يكون معروفاً لكل صغير وكبير وله وقع خاص عند كل من يقترب منه وهو صدوح الموسيقى العالمية من جهاز التسجيل يقبع في غرفة خاصة به، يستمع من خلاله ويسمع غيره، ويشرح لكل من يريد أن يعرف جودة تلك الألحان وسر عذوبتها وانتشارها عالمياً.إنه محيط بفنون الألحان وقواعد التلحين، وله في هذا المجال باع كبير، فهو مدرس للموسيقى في المركز الثقافي في المحافظة ومرشد للموسيقيين فيها ومرجع للفنانين ومؤرخي الفن الغنائي في اليمن بأنواعه وأشكاله المتعددة، حتى أصبح الصنعاني أحد كبار ملحني الأغنية اللحجية ذات الطابع المتميز والفريد بدون منازع منذ أكثر من 50 عاماً والصنعاني يغني ويلحن وهي في التلحين أكثر منه في الغناء وله أكثر من مائة لحن مقدم وما يقارب الأربعين أغنية مغناه بصوته ومسجلة على الأسطوانات وفي دار الإذاعة المركزية.لم يسجل على أشرطة الإذاعة سوى يسير، وأشهر ما غنى “ عيونك تسحر العشاق “ و “ جاهل زين “ و “ قل للذي بلحظة آمري “ وأشهر ما لحن من أغاني وغناها فنانون آخرون “ بالعيون السود “ “ التغريد “ و “ يا نجوم الليل “ و “ لوعتي “ و “ يا اللي وعدت القلب “ و “ هاتها باكله هات “ وهناك عشرات الألحان والقصائد والتي لم تعرف بها أحد سوى المقربين منه، فهو متواضع فيما يقدمه كتواضعه عند الحديث عن نفسه وببساطة أسلوبه في الحديث يشعر المرء أنه أمام رجل يدخل بأفكاره وآرائه إلى القلب، ويكبر الاحترام لهذا المبدع لأنه غير متكلف أو متصنعه في حياته الشخصية أو العامة.التاريخ الفني الطويل لمحمد سعد الصنعاني وإبداعه في التلحين والغناء والذي ما زال يتواصل دف ويدفع مقابله ضريبة نفسياً وجسدياً، لكن إيمانه بعمله وبمن حوله يجعله يقاوم المرض المزمن الذي ألم به دون خوف أو رهبة منه.مجلة “ الفنون “ التقت الفنان محمد سعد الصنعاني بعد خروجه من المستشفى والذي مكث فيه لأكثر من شهرين للعلاج، حاورته في العديد من القضايا الفنية وإرهاصات الأغنية اليمنية وتنوعها وأسباب الجهود في الأغنية حاضراً وفي الوجوه الجديدة الشابة وفي كل هذه الحوارات يعيدنا الصنعاني إلى المراحل السابقة للغناء منها يتعظ الفنانون والملحنون وتكون ذائعاً لإبداعاتهم.يستهل الصنعاني حواره بتميز واختلاف الأغنية اليمنية من منطقة لأخرى فيقول:وفي اليمن خمسة أنواع للغناء الصنعاني واليافعي اللحجي والعدني والحضرمي وتتميز عن بعضها باختلاف إيقاعاتها وتموجاتها وشعرها وأدبها وتختلف زمن ظهور كل نوع من هذه الأنواع. فالصنعاني ظهر قبل 1800م وبعد ظهر الغناء اليافعي ثم الحضرمي ثم اللحجي ثم العدني.يتوقف محمد سعد الصنعاني عن الحديث ويتبسم، وكان سر ابتسامته وتوقفه عن الحديث هو اندهاشي من أن الغناء العدني يأتي في نهاية مراحل ظهور الأنواع الأخرى من أنواع الأغنية اليمنية وما يمتاز به عن كل أشكال الأغنية اليمنية الأخرى.استرسل الفنان محمد سعد الصنعاني الحديث وببساطة شديدة وبدون مقدمات :بدأ الغناء اللحجي بتموجات الدان والركلة ولعبة الناشرية ويمتاز عن بقية أشكال الأغنية اليمنية بإيقاعاته العدة ولكل إيقاع رقصة خاصة به منها ما يتعلق بالرجال ومنها ما يجمع الرجال والنساء معاً. وهو بهذه الميزة يمتاز بشكله ووضعه عن جميع الأغاني. كما يمتاز بتموجاته الصوتية مع الإيقاعات ويعتمد على اللهجة الدارجة وبشكل خاص الشعر اليمني.ومرة أخرى يتوقف الفنان الصنعاني عن الحديث كمن ذكر شيئاً وبعد برهة وجيزة قال مسترسلاً في الحديث عن بدايات الأغنية اللحجية لقد ظهر ملحن جيد اسمه فضل ماطر في عام 1980م وأتى حينها بألحان جديدة مثل “ يا مرحبا بالهاشمي “ و “ ليش الشجن يا خاطري با يصلح الله كل شان “ ثم جاء ( البدو ) من منطقة العوالق العلياء والسفلى بأغاني بدوية وشرح وأغاني “ الهوب “ ثم أتت “ سلمى درينة “ بلحن “ أمان يا سيدي أمان “ وغناه سعد عبدالله صالح على أسطوانات ( جعفر فون ) عام 1901م ثم جاء آخر بلحن “ حنوا ونوحو معي يا أهل الغرام “ وغناه سعد عبدالله. ثم تفرغ أحمد فضل القمندان لجميع الألحان القديمة، وشكل قصائد جديدة شيقة لهذه الألحان، وشكل فرقة يتمتع جميع أفرادها بأصوات عذبة وجذابة، وعمل على صقل هذه الألحان معتمداً على الألحان الشعبية، وأضاف إليها إبداعاته شعراً ولحناً، وجمع الماضي بالحاضر وخاطب الناس في شعره باللهجة الدارجة الأمر الذي أدى إلى انتشار تلك الأغاني وسجلت على الأسطوانات ومنها “ يا بو زيد “ و “ صفا الجابري “ و “ كل ما جيت أشوفك جيت والباب مردود “ و “ روضا من السعودية “ وهناك أغاني تسجل على الأسطوانات نظراً لقيام الحرب العالمية الثانية.القمندان كان بالإضافة إلى اهتمامه بالزراعة وما خلفه من ثروة زراعية عمل على نشر الفن مضحياً بثروته في سبيل ازدهاره وهو بذلك خلف ثروتين زراعية وفنية والحديث هنا ما زال للصنعاني :وبعد موت القمندان نشأت ندوة الجنوب، وتضم شعراء وملحنين منهم صالح الفقيه وعبدالله هادي سبيت وصالح نصيب وفضل محمد اللحجي ومحسن بن أحمد مهدي وصالح مهدي بن علي، وظهرت عن هذه الندوة أغاني كثيرة منها “ باسم هذا التراب “ و “ كم يقول لي الليل توب “ و “ يا باهي الجبين “ و “ ليه يا هذا الجميل “ و “ يقولوا لي نسي حبه “ و “ سألت العين “ لمحمد صالح حمدون.كما ظهرت الندوة الموسيقية اللحجية، وممن تفهمهم صلاح ناصر كرد ومحمد سعد الصنعاني والأمير عبده عبد الكريم وعبد الكريم توفيق ( وكان حينها طفلاً ) وأخيراً فيصل علوي.حدث احتكاك وتنافس شديد بين الندوتين، وأثمر هذا التنافس ظهور أغاني جديدة منها “ بالعيون السود “ و “ لوعتي “ و “ ردد التغريد “ و “ يا شاكي غرامك “ وهي من ألحان الصنعاني، وانتشرت هذه الأغاني بين الناس.كما حدث تنافس كبير بين عبدالله هادي سبيت وفضل محمد لحجي ومحمد سعد الصنعاني وسعودي أحمد صالح، وظهرت لهم بهذا التنافس أغاني جديدة. وقد توقف البعض عن التلحين مثل عبدالله هادي سبيت، ووفاة محمد فضل لحجي وبقي سعودي محتفظاً بأكثر ألحانه ولم يظهر منها حتى الآن سوى القليل لانعدام الفنانين المتميزين لديه من وجهة نظره. ولا زال محمد سعد الصنعاني يواصل التلحين مقدماً ما لديه منها ومحتفظاً بألحان أخرى ينوي تقديمها قريباً بأصوات فنانين ناشئين كأمل كعدل وسعيد سيلان، وأخرى ستقدم للفنانة الكبيرة فتحية الصغيرة ولفرقة الإنشاد في محافظة لحج.الفنان محمد سعد الصنعاني يرى أنه لا يوجد حالياًُ ركود في الأغنية اللحجية، ويقول :الفن اللحجي يشهد حالياً عملية تطور تنسجم وأصالته فقد ظهر ملحنون جدد منهم محسن عبد الكريم عطا وأحمد عباد ولديهم ألحان جديدة وشيقة، كما ظهر شعراء جدد كسالم حجيري، وليس صحيحاً أن الأغنية اللحجة لا زالت تدور في إطار ما قدمه القمندان، فلقد تطورت الأغنية شأنها شأن تطور القصيدة، وتختلف من حيث التموجات الصوتية مع الاحتفاظ بالطابع اللحجي ولوازمه نضرب أمثلة على ذلك بأغاني “ يقولوا لي الهوى قسمة “ لسعودي أحمد صالح، وأغنية “ صحيني “ لحني و “ باحلف بسحر العيون “ لي أيضاً، وأخيراً لحنت “ أوبريت “ سيقدم يحتوي على خمس أغاني جديدة ألحان محمد سعد الصنعاني ومثلها أغنية “حبيبي يوم لاقيته “ .يرى البعض أن الأغنية العدنية لا تتمتع بأصالة أو جذور، وليس لها تراث، بل وينفي البعض شيئاً اسمه الأغنية العدنية، وبحسن نية أو عن عمد أو القصر في الرؤية يحاول البعض طمس معالم العدنية من أصول الأغنية، الفنان محمد سعد الصنعاني يدحض كل تلك الادعاءات قائلاً :“ كان الصيادون في عدن قبل الاحتلال بعدن يقدمون أغاني مطرب، ولأن غناؤهم يغنى مع الاصطياد في البحر وحين ترمى الأشباك، وهناك أشعار تغنى عن البحر وعن الأشباك وعن الحب والهوى في الحدود المنظورة والتي كانوا يتعاطونها.لقد بدأت ملامح الغناء العدني تتحد ابتداءً من 1912م على أيدي فنانين وشعراء وأدباء من عدن نفسها.. وهذا يعني أن للفن العدني جذوراً بدأت من حفرات (السادية والأحمدية). ومن بعض قصائد العيدروس قصيدة “ ليت تعلم ما بقلبي يا حبيبي “ و “ ذا نسيم القرب نسنس “ و “ أشرقت بهجة “ و “ عليك بالله تكلمني” من شعر العيدروس وألحان عدنية. وللزيادة في التأكيد سجلت أغاني عدنية على أسطوانات ( بولزن ) بلحن فضل ماطر منها “ عليك بالله تكلمني “ ، ومن التراث العدني أيضاً غنى فضل ماطر عقربي “ على الحسيني سلام “ و “ يا شهر يا سامر الليلة مت با تغيب “ و “ ليل يا ذي الغوافي “ و “ اسرى نصيف الليل من غير عزيمة.. يا سيمو ه”.والحديث لا زال للصنعاني : كانت اسطوانات هذه الأغاني تباع بنصف شلن للاسطوانة الواحدة، تحتوي على على تراث عدني صحيح يتميز بإيقاعاته وغنائه العدني المختلف عن باقي الإيقاعات. كما لا صحة لما يقال بأن الإيقاعات العدنية مأخوذة من الإيقاعات المصرية.. فذلك لم يكن موجوداً في ذلك الوقت.أما في الوقت الحالي فقد عمد البعض إلى مزج إيقاعات عدنية بإيقاعات مصرية، الأمر الذي يسيء إلى الإيقاع والتراث العدني، وهذا يعود إلى عدم عناية الفنانين العدنيين بتراثهم واهتمامهم به، وواجب عليهم أن يقتدوا بالفنان أحمد فضل القمندان الذي جمع التراث ودرسه، وكون فرقة خاصة به صقل من خلالها هذا التراث وأخرجه إلى عامة الناس بثوب جديد وقشيب عمل البحث عن الطموحات الخاصة على حساب التراث.الفنان محمد سعد الصنعاني عدد هنا مسئوليات الفنانين الكبار أمام مسألتي رفع الوعي والذوق الفني للعامة من الناس وصقل المواهب الجديدة، فيقول :احترام الفنان لفنه يؤدي إلى الإبداع الجيد لحناً وغناءً، وانعدام الإبداع الجيد للفنانين الكبار يؤدي إلى خلو الساحة منهم لفنانين أقل شأناً، وفي ظل انعدام التوجيه والصقل للمواهب الشابة الجديدة تبرز الأغاني الضعيفة في مستواها، وهذا بدوره يؤثر على مستوى الوعي الفني لدى عامة الناس بشكل سلبي وهنا الخطورة تكمن في إحداث تدن في الذوق والمعرفة الفنية.إن ما هو مطلوب من فنانينا الكبار أن يقفوا أمام مسئولياتهم في هذا الجانب، ويعملوا على الخروج من صحة التقوقع التي يعيشها البعض منهم. وهنا أمامهم مسئوليات أمام المجتمع، وهما قضية إبداع وخلق الجديد شكلاً ومضموناً والاهتمام بالمواهب وصقلها وتوجيهها الوجه الصحيح،إذا كانت الدولة تلعب دوراً في هذا الجانب من خلال إنشاء المعاهد المتخصصة والاهتمام بالمراكز الثقافية والتي تحتوي على فرق فنية، فإن ذلك لا يعفي الفنانين من مسؤولياتهم من أجل رفع مستوى الوعي والذوق للعامة من الناس.والعمل مع باقي وسائل الإعلام الأخرى على تشكيل الرأي العام وفق التوجه العام الذي نهدفه.ذلك واجبنا جميعاً ملحنين ومغنيين وشعراء.الفنان محمد سعد الصنعاني يرفع يده ويبتسم لي.. إنها إشارة لإنهاء الحديث أو التوقف عند هذه النقطة، وإن كنا على موعد آخر معه يقف على قدميه ويتجه صوب جهاز التسجيل، يفتحه ليتصدح أنغام شرقية موسيقية لتشذوا أم كلثوم “شمس الأصيل”.