شتيوي الغيثي لعل البعض تابع النقاش الذي دار بين الشيخ سعد البريك، والكاتب قينان الغامدي حول الدولة الدينية والدولة المدنية على صفحات جريدة «الوطن» ، والاختلاف في وجهات النظر بين طرفي النقاش هو اختلاف، يستشكل، برأيي، في تحديد المفاهيم حول كثير من القضايا الدينية والمدنية، وحدود كل منها في الواقع الفعلي البشري، والاختلاف في المفاهيم يقود بالطبع إلى اختلاف في النظرة، وإن كان تباعد وجهات النظر فيما بين المتناقشين، حول كيانات سياسية قائمة حالياً ككيان الدولة السعودية أو حتى اختلافهما حول الدولة الطالبانية أو الحكومة الحماسية أو الفتحاوية في فلسطين، إلا أنه، برأيي، لا يبتعد كثيراً حول الاختلاف الجوهري في تحديد المفاهيم العديدة حول الدولة الدينية والدولة المدنية ومصطلحات جديدة من قبيل الديموقراطية وغيرها، وهو اختلافٌ يحدد نظرة أي طرف فكري حول أي قضية دينية أو مدنية ولا تقتصر في مفهوم الدولتين: الدينية والمدنية. وبعيداً عن الجدل الحاصل بين الاثنين، فإن تحديد مفهوم عام حول الدولة المدنية ومحدداتها والأهداف التي تقوم عليها من الدولة الدينية ومحدداتها كذلك، على اعتبار أن تحديد مثل هذه المواضيع، يجعل من الرؤية الذهنية والتصور الفكري بالنسبة لكلا الدولتين محدداً بشكل واضح وجلي ويرفع اللبس عن أي نظرية تحاول أن تقوم عليها هاتان الدولتان أو تحاول أن تحددهما نظرياً على الأقل. ولتحديد مفهوم الدولة الدينية من الدولة المدنية، يمكن القول إن الدولة الدينية هي تلك الدولة التي تعتمد في مجالها على الديني أكثر منه على المدني أي إنها تقوم على محاولة تمثل الديني في الشأن السياسي كأن تصبح أي قضية من القضايا السياسية لا تعتمد إلا عن طريق مرجعية دينية تبارك هذا العمل السياسي أو تحرمه من ذهنية دينية صرفة تعتمد في أصلها على قاعدة عريضة في الرأي الديني أو الفقهي، كمحاولات دولة طالبان تمثيل كل ذلك في شأنها السياسي، وكما كانت نظرية ولاية الفقيه في إيران التي جاء بها الخميني، وكأيام التسلط الكنسي البابوي على شؤون السياسية في عصور الانحطاط الأوروبي، فلا يمكن لأي ملك من ملوك فرنسا أو غيرها في ذلك العصر أن يصعد إلى سدة الحكم إلا بعد مباركات البابا أو الكنيسة، وكما هي حركة الخوارج في العصر الإسلامي بعد الراشدي، في حين أن الدولة المدنية تقوم على أخذ معطيات الواقع بكل أبعاده وممارسات العصر ومنطقه باعتماد المصلحة الوطنية والإنسانية قبل أي شيء آخر، ولا تتوانى الدولة المدنية من الاستفادة من كل منجزات وفلسفات العصر لتحقيق مصالحها في المجال الأول، واعتمادها أحياناً على المجال الديني في الممارسات المدنية، هو في رأيي من قبيل وضع خير على خير، ومن قبيل تقريب كافة الأطياف الفكرية إلى منطقة متقاربة وهي ممارسة مدنية ديموقراطية في الأصل كون المصلحة الوطنية فوق كافة هذه التيارات الفكرية والأطياف السياسية، وهذه الدولة هي دولة هذه المرحلة بلا منازع كون أكثر الدول الغربية وبعض الدول الإسلامية تعتمدها في مجالها السياسي، والاعتراف بأنها من منتجات العقل الغربي والتنويري بالذات لا يجعلها دولة غير ذات بعد سياسي صالح لمجتمع دون آخر، بما أنها تعتمد في أصلها البعد الواقعي البشري فإن هذا البعد يتشارك فيه الجنس البشري عامة ولا يخص دولة محددة أو مجتمعاً بعينه كما قلنا، خاصة في مثل هذا العصر المتعولم بغير إرادتنا، والمتقارب حد الاندماج، والمتواصل حد التداخل، مما يجعل المصلحة البشرية هي الفيصل الذي يمكن الاحتكام إليها، وما قضايا توقيع المعاهدات الدولية، وتوقيع الاتفاقات التجارية الدولية كمنظمة التجارة العالمية، إلا من هذا القبيل، والتي هي في الأخير مصلحة الدولة والمجتمع والجنس البشري بشكل عام. في السياق الإسلامي، كفكر وليس كدين، كممارسة سياسية وليس كعقيدة دينية، ربما كان من أكثر الإشكالات الدينية والمدنية هو هذا التداخل الكبير بين ما هو ديني وبين ما هو سياسي/مدني. بين أن ينظّر للحراك المدني على أنه ديني، أو أن ينظّر للحراك الديني على أنه مدني وسياسي، ومن هنا يصبح الإشكال إشكالاً جدلياً في كل أموره، ومن هنا أيضا تصبح القضايا المدنية خاصة مؤجلةً حتى إشعار آخر غير محدد، في الوقت الذي استطاع الآخرون فك هذا التداخل والارتباط الموهوم، ليصنعوا من الواقع المدني فعلاً حقيقياً يقود إلى الحضارة وتطوراتها، كالحضارة الغربية المتفوقة بكل أشكالها وليس هذا من قبيل الإعجاب والانبهار، كما سيحاول البعض قول ذلك، بقدر ما أنها حقيقة تاريخية لابد من الإقرار بها تحقيقا لمقتضى الآية القرآنية القائلة: "يا أيها الذين آمنوا لا يجرمنّكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله..". ولا أرى أن هناك مبالغة إذا قلنا: إن الحراك السياسي في العصر الإسلامي الأول كان أقرب إلى المدني الخالص منه إلى الديني الخالص، وإن لم يكن هناك فصل قطعي كون المرحلة تقتضي ذلك، ولكون الفاعل التاريخي في ذلك العصر كان دينياً بحكم طبيعة العصر، إلا أنه لم يكن متداخلاً حد التطابق فالمدني والديني في ذلك العصر كان بين شد ومد، ففي بعض الأحيان يكون الحراك مدنياً خالصاً، وفي بعضه الآخر دينياً خالصا، وفي أحايين أُخَر يكون بين هذا وذاك، مما يجعل اللبس في القضية المدنية لبساً كبيراً في المجال الإسلامي، إلا أن محاولات توضيح فصل ما هو مدني وما هو ديني في الخطاب النبوي تجعل من القضية واضحة للقليل من الباحثين في التفريق بينهما وهذا واضح من خلال "أنتم أعلم بأمور دنياكم.." و" إنما هو رأيٌ ارتأيتُه.." و"إنما أنا عبدالله ورسوله.."، وفي خطاب العهد الراشدي قال الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "هم رجال ونحن رجال.." وقال الخليفة علي رضي الله عنه:" إنما أعمل بما أراه.." أو "لا تجادلهم بالقرآن فإنما هو حمال أوجه.." أو كما قالوا. إن فك الاتصال بين الدولتين: الدينية والمدنية هو سمة عصرنا هذا، ولذا يجب ألا تشغلنا مثل هذه القضايا في حراكنا السياسي بقدر ما أنه لابد من أن تكون محفزاً لخطوات أمامية نحو فكرة التقدم التي يبدو أنها لم تأخذ نصيبها في نفوسنا حتى الآن فضلاً عن عقولنا، وبما أنه لا خطورة على الإسلام كدين من هذا الفصل فلماذا لا نتجاوز مثل هذه المراحل، خاصة إذا عرفنا أن الحراك المدني هو الحراك الأقرب للواقعية والمصلحة البشرية ولا تعارض بين الإسلام والدولة المدنية لأنهما ما وجدا إلا لأجل المصلحة البشرية في الأساس، ولذلك فإنه يكون من المفترض في الإسلام أن يستفيد من أي منجز بشري مادام يحقق المصلحة المشتركة، كما تحققت مصلحة المسلمين في أوروبا من خلال العلمانية.------------------------[c1] نقلا عن صحيفة "الوطن" السعودية
الدولة الدينية والدولة المدنية.. إلى أين؟
أخبار متعلقة