هذا المشهد مثل محاولة الخروج والانزياح عن المحافظة والتقليد الذي لازم الكتابة الشعرية منذ سنوات القرن الأولى وسعى شعراء هذا الجيل إلى مواكبة ما يجري من تطور للأدب في البلدان العربية الأخرى والمهجر نذكر من شعراء هذا الجيل الذي مهد للحداثة الشعراء: حمزة شحاتة، طاهر زمخشري.. حسن عبدالله القرشي ومحمد حسن عواد .. واستفاد شعراء السبعينيات والثمانينيات من منجزات هؤلاء فنيـا على مستوى البناء والتشكيل، رافق كل ذلك ما شهدته البلاد من قفزة نوعية نحو الحداثة المادية بفعل الرخاء الاقتصادي من جراء العوائد النفطية أحدث خلخلة كبرى في بنية المجتمع والنظام التربوي وشكل تلقي الثقافة وطريقة التعبير عنها، هذه الخلخلة أفند ـأثيرها إلى النشاط الثقافي الإبداعي والأدبي لجيل السبعينيات والثمانينيات الذين لم ينأوا عن أزمات الوطن العربي الكبر (نكسة 67) في وسم الغربة : غربة الوطن الإنسان في ظل الاستهلاك الثقافي وغربة البحث عن الهوية العربية في ظل هزائم متتالية فاستعادوا صوت السلالة من ذاكرة التراب ووظف هؤلاء الشعراء في حظائرهم الرموز التاريخية والشعبية والأساطير المحلية وحقنوا قلقهم الوجودي بمصل الأنا الجماعية كما تقول الديباجة (شعريات سعودية، 9)، يغذي هذا الإحساس فنيـا وأسلوبيـا الأثر الثقافي الذين تركته اتجاهات الحداثة الشعرية وبالأخص تجربة شعراء مجلة شعر، يمثل هذا الجيل الشعراء : محمد العلي وعلي الدميني ومحمد التبيني ومحمد جبر الحربي وعبدالله الضحيان وفوزية أبو خالد وسعد الحميدني، الذين صوروا عن إحساس مشترك رغم تباين التوظيف وزاوية النظر. أما شعراء السبعينيات فهم أشبه بالعاصفة نمت تجاربهم في غفلة من صراع التيارات الثقافية والأدبية التي طوقت عنق الأجيال الشعرية السابقة.لقد ذهبنا إلى الشعر متخففين من سلطة الآباء (شعريات سعودية، 10).إن هناك إجماعـاً بين شعراء الحداثة السعودية على أن محمد العلي هو الشاعر المؤسس للكتابة الشعرية الحديثة.. وفي المتن الذي بين يدينا هو الشاعر الأقدم ميلادا (1932) وعلى الرغم من انشغال العلي بالكتابة الإبداعية والنقدية والاجتماعية لم يصدر حتى عام 2007م عام صدور هذه الشعريات كتابـاً، وقد جمعت الكاتبة المغربية عزيزة فتح الله مختارات من كتاباته وشهادات عنه ومقالات صورت في كتابين عام 2005.. وقد أوردت له مختارات (شعريات سعودية) نصين هما : (لا ماء في الماء) و(العيد في الخليج).. وبعد عامين .. اختير عنوان القصيدة الأولى عنوانـا لديوانه الذي صدر عام 2009م عن نادي المنطقة الشرقية الأدبي.. أثر الرواد في الشعر العربي الجديد واضح.. فإيقاع التفعيلة يتسرب من نسيج قصائده التي يفتتح بها قصيدته الحداثة بعد أن تخفف من سطوة البنية وخطابيته كما ظهرت في قصائده المبكرة يقول : في مقطع من قصيدة (لا ماء في الماء) :ما الذي سوف يبقىإذا رمت أنزع عنك الأساطير أرمي المحار الذي في الخيال إلى الوحلماذا سأضع بالأرق العذببالجارحات الأنيقاتإما تعيش دون الضباب الجميل..ومرة أخرى يعاودنا أتباع التفعيلة في قصيدته (العيد والخليج).. تنضح بمقاطع الوافر الخليلية.. التي تتدفق في إطار تقنية التضمين والتدوير بمفهومها الجمالي الحديث مع نزوع غنائي طافح يتخطاه الشاعر في مرحلة لاحقة حيث تخرج قصائد العلي من غنائيتها التقليدية ونزوعها الرومانسي إلى أفق نذير ينبني على امتزاج الخاص بالعام والذاتي بالموضوعي والفردي بالجماعي وهي رؤية سادت عند شعراء جيله : البيتي، الحربي، الضحيان والدميني... وفي حين أمعن هؤلاء في خلق لغة أكثر كثافة وأقل صخبـا.. ظلت قصائد العلي تحتفظ بإيقاع عالي النبرة متصاديـاً مع ما يتسرب في الشعر العربي من بنى شفوية الشعر وخطابيته القديمة، ما يلبث أن يكسرها أحيانـا بإنتاج نص تنمو جمله الشعرية وفق مسار التوالي والتنامي مع خلق للصور الشعرية المفارقة المألوف والعادي (الدميني، الجزيرة).ولعل شهادة الشاعر على الدميني عن ريادة العلي من شهادة عن الحداثة إجمالا وعن ريادة العلي في أنزمبات مسيرته : المكانية من الإحساء إلى النجف.. الدمام .. بيروت، والفكرية من التقليدية السلفية الشيعية إلى الحداثة الفكرية والإبداعية من الكلاسيكية إلى فضاء شعرية الحداثة (الدميني، ص 11). هذا التأسيس هيأ لمناخ شعري جديد تكشف عنه قصائد (شعريات سعودية)، فالنص الأول من هذه الانطولوجيا لإبراهيم الحسن (ذهب الرعاة) يتخذ شكلا عراميكيـا بصريـا مغايرا للشكل الكتابي للقصيدة البيتية والسطرية دون أن يتجلى عن توظيف اللغة توظيفـا جماليـا عاليـا، إنـها قصيدة الجملة.. دون التدوير.. قصيدة النثر المشحون بالإيقاع خارج فضاء العروض الموروث ولكنها ذات إيقاع متفش يصعب الإمساك به بمعيار قواعد الوزن.كما تجتزي المختارات مطولة لتقدم مقطعـا للشاعر سعد الحميدني بعنوان (مباخر الكلام) يعلن فيه الشاعر استنفاذ كل القوالب الموروثة لطاقتها واستنفاذ كثير من الألفاظ لكثافتها وحرارتها.. نستدل من هذا الاختيار.. على على اتجاه الشاعر إلى المطولة نفسـا وبناء مركبـا.. وإلى قلق لا يهدأ بحثـا عن لغة الدهشة والمفاجأة.. وتلك هي الشعرية كما رآها الشكلانيون مبكرا من خلال مفهوم (الغرابة) الذي رسم الرؤية الشعرية لغة وتشكيلا ورؤية.. تقدم المختارات.. أصواتـا شعرية نسوية حداثية : تريا العريفي، خديجة العمري، فوزية أبو خالد، هدى الدغفق، هيا الديني، هيلدا إسماعيل، نص (تناهيد) لهيلدا إسماعيل، تجريب لكتابة شعرية مغاير، تقطيع لأصوات الفردة، تقنية البياض.. علامات سيميائية تمثل في بلاغة التشكيل الكتابي، ومن كل ذلك يتخلق المعنى، ويتم إنتاجه، أشجان هندي (ص 48) شاعرة تنضح قصائدها بإيقاع سطري متدفق نجده في قصيدتيها (خشب) و(ضمائر) ثريا العريفي ( ص 54) توظف في نصها (سيدة الأوتار) الرموز التاريخية والأسطورية في إطار غنائي، خديجة العمري (ص 88) تتوسل في نصها (سارة) باللغة الكثيفة التي تخبئ وعيـا وجوديـا حادا، هيا العريني (ص 320) تنضح قصائدها بغنائية عالية.. وبعد أن تخلصت من قناع التخفي (غيداء) أصبحت أكثر جسارة وقدرة على الإعلان والبوح كما في قصيدتها (عاشقة).أعترف الآن بأني أجبتك أكثر من جرحي اعترف الآن بأني أجبتك أرضـاهزتني حواسمها الرحبةفوزية أبو خالد (212) في نصوصها المختارة تجنح إلى اللقطة.. وكثافة الرؤية تقول في نصها كتاب :على رف مشتركتركونيوراحوا يقترفون غير لو أن أيا منهميقرأ ما بعد الصفحة الأخيرةفي الكتاب لعادوا طالبين الصفحأو مقترفين خطايا أشد فداحةإلا أنهم لن يكونواكما كانواالقصيدة النسوية خرجت إلى فضاء البوح الجريء في مواجهة قوة غامضة قاهرة لتعلن الانتماء إلى الحياة وأشيائها وحميميتها.. إذا تذكرنا أن نص المرأة السعودية السردي المبكر تخفي وراء اسم مستعار هو (سميرة بنت الجزيرة) 1963م وتخفف السرد النسوي مبكرا من هذا القناع مع نصوص فوزية البكر (السباحة في بحيرة العدم) 1979م وقبل ذلك فوزية أبو خالد في (إلى من يختطفونك ليلة العرس) 1973م وخيرية السقاف (قصة الواقع) 1979.. ومع هذه المختارات النسوية يتكشف للمتلقي إعلان الذات المبدعة عن صوتها ومواجيدها.. بوعي فني عال.محمد الحرز .. شاعر.. واحد اثنين أنجزوا هذه المختارات كتب نصه (أنا الذي ترج رأسه العاصفة)، منحازا إلى قصيدة النثر بأدوات الشعر.. كانت تلك إحالات لم تجد متسعـا للوقوف عند الذين شكلوا بنضج معالج التجربة الشعرية الحديثة في السعودية : الحربي - الدميني (محمد وعلي) الضيخان .. بافقيه.. البتيني ....... وأخيراً، ألم يستطع هذا الكتيب من خلال المختارات الشعرية المقدمة أن يكشف عن وعي فني عال بما يؤكد حداثة النص الشعري السعودي وممثليه؟.