اللون في شعر "عبدالله بن المعتز".. 247هـ/296هـ
توطئة: يعد(ابن المعتز) الحلقة الأخيرة في سلسلة تجديد الشعر العربي في العصر العباسي الثاني، فعلى يده تحول الوصف إلى صور فنية،لتجعل منه أستاذ(مدرسة الصورة)..حيث شغل النقاد بصوره الأرستقراطية، التي هي صدى لتكوينه ونشأته، ففتح بذلك للشعراء أفاقاً جمالية ، ظلت مثار اهتمام،وباعث اقتداءٍ ، لما حوته من قمته..وقد شكل اللون قوام تلك الصورة ، التي مثلت لوحات فنية خلابة،في خمائل الشعر العربي...في الاستعارة ، تتجسد النزعة الإنسانية التشخيصية،التي تمثل في الفن تعبيراً راقياً عن تفاعل الذات ،وعلاقتها النوعية ، وحساسيتها الخاصة بعالمها المادي ، فيتشخص الجامد وغير الإنساني من الكائنات الحية،ويتجسد المعنوي ليكتسب خصالاً إنسانية:وسارية لا تمثل البكا [c1] *** [/c]جرى دمعها في خدود الثرىسرت تقدح الصبح في ليلها [c1] *** [/c]ببرق كهندية تنتضى فمازال مدمعها باكياً [c1] *** [/c]على الترب حتى اكتسى ما اكتسىفاضحت سواء وجوه البلاد [c1] *** [/c] وجن النبات بها،والتقى(1)يصور(ابن المعتز)في أبياته السابقة (سحابة تسري) وتكسب ماءها،لتبعث في الأرض حياة..وفي تصويره هذا،إنما هو يستدعي صوراً أخرى أكثر إيحاء وجمالاً...فالسحابة:(إنسان يبكي)..و(يسري ليلاً)..و(يشعل ناراً)..و(يستل سيفاً)..وللثرى(خدود)..والترب(يكتسي)..والنبات(يجن ويلتقي)...فابن المعتز يصور حركة السحابة،من لحظة سيرها ليلاً إلى لحظة مخاضها ومولد المطر،من خلال مؤثرات ضوئية شكلت المحتوى اللوني،لصورة تمتزج فيها الأضواء اللامعة(تقدح الصبح ببرق)و(كهندية تنتضى)باللون الأسود(ليلها)..إن تلك الصورة(الضوئية اللونية)ليست صورة وصيغية،وإنما هي صورة حركية مفعمة بالحيوية..دائمة فعل..فقول ابن المعتز: (قدح ببرق)إنما هو من باب التمثيل،حيث أراد أن البرق أضاء جنبات الليل،وكأن ضوء الصبح تجلى في ظلمة الليل....ومن هذا التناغم بين التشخيص،الذي مبعثه تفاعل الذات مع الطبيعة،والإحساس المرهف بجمالية اللون،ودلالته الفعلية والإيحائية،كانت صور(ابن المعتز)الرائعة،الزاخرة بالحركة والتشبيهات والاستعارات الحية،التي تستمد كيانها وحيويتها،من رؤى فنية،تبتكرها صياغة،وتجددها تقديماً "..حتى ليحس من يقرأ ديوانه كأنه يعيش في دار من دور الصور المتحركة.."(2)فلم يعد الوصف محاكاة،ونقلاً حرفياً لمحتويات العالم،بل أصبح صوراً فنية،تتخطى بإيحاءاتها حدود النص الشعري،عبر إشاراتها،وتداخل دلالاتها،وتجسيداتها اللونية،مما يثير في ذهن المتلقي تداعيات لا يحتويها النص:وغيث خصيب الترب تندى بقاعه [c1] *** [/c] بهيم الذرى،أثواب قيعانه خضر رحيب كموج البحر يلتهم الربى[c1] *** [/c] ويغرق في أكلاثه النعم الدثرألحت عليه كل طخياء ديمة [c1] *** [/c] إذا ما بكت أجفانها ضحك الزهر (الديوان ص 172)إذا ما كان تصوير(ابن المعتز)يقوم في الأساس على التشبيه،خلال الكشف عن مواطن التناسب بين المرئيات المتنافرة في الطبيعة،وإظهار علاقاتها الخفية،وتقديمها تقديماً حسياً عبر صور بصرية،فإنما ذلك لتأكيد تناغم الطبيعة،ووحدتها في دورة الحياة،التي لا يستطيع كشفها إلا من امتلك إحساساً عالياً بالأشياء،وقدرة على تأملها،والنفاذ في تفاصيلها الصغيرة ومن ضمنها اللون،الذي شكل مادة لشعر ابن المعتز:وياسمين في ذرى الأغصان[c1] *** [/c]منتظماً كقطع العيقان(الديوان ص 396)أو في قوله:وجلنار مثل جمر الخد[c1] *** [/c]والأقحوان كالثنايا الغرأو مثل أعراف ديوك الهند[c1] *** [/c] قد صقلت نوارها بالقطر(الديوان ص 396)وعلى الرغم من اعتماد(ابن المعتز)على نوع بلاغي معين هو التشبيه،في صياغة صوره الفنية حتى قيل عنه"..انحاز إلى التشبيه"(3)إلا أن تشبيهاته كانت بارعة في تحقيق التوافق أو التناسب المنطقي بين مكونات الصورة،الأمر الذي جعل صوره في أغلب الأحيان متجددة متحركة:غدت منكرة للمزن فاحتجبت[c1] *** [/c]شمس النهار،ولم نعرف لها خبراً حتى إذا ثقلت حملاً وما بقيت [c1] *** [/c] أرض ببغداد إلا ترتجي مطراًوأغر ورقت لانسكاب الماء مقلتها[c1] *** [/c] جاءت بثلج كورد أبيض نثراً (الديوان ص 198)فابن المعتز في أبياته السابقة يصور مولد الثلج من سحابة مثقلة بجنين من المطر(..أثقلت حملاً..)ويشبه الثلج بالورد الأبيض،وهو تشبيه قائم على العلاقة اللونية المشتركة بين الثلج والورد(..بثلج كورد أبيض نثراً)...أجاد(ابن المعتز)هذا النوع من الخيال الحركي،الذي تقوم فيه الإحساسات البصرية بعملية تأليف الصورة،وتقديم المعنى،إضافة إلى وظيفتها في التأثير في الملتقى عبر ما تقدمه من تجسيمات لونية:-بيضاء إن لبست بياضاً خلتها [c1] *** [/c]كالياسمين منضداً في مجلس وإذا بدت في حمرة فكأنها [c1] *** [/c] ورد من الداري حسناً مكتسي وإذا بدت في صفرة فكأنها [c1] *** [/c]نسرين بستان كريم المغرسوإذا بدت في خضرة في صفرة[c1] *** [/c]فكأنها للحسن طاقة نرجس(الديوان ص 230) في الأبيات السابقة يحشد(ابن المعتز)كماً من التشبيهات الطريفة،واصفاً بين جارية.وفيها تلعب الألوان(أبيض/أحمر/أخضر/أصفر)دوراً هاماً في عملية بناء الصور الشعرية،حيث نجد في كل بيت صوره بصرية لونية،فالشاعر اعتمد في تصويره على أساس من المؤثرات اللونية المشتركة بين الألوان والأزهار..وهكذا،يمضي(ابن المعتز)في تركيب وصياغة صوره الشعرية،جاعلاً من ألوان الطبيعة وطاقتها المرئية مادة لشعره..وقد ساعده في ذلك إحساسه المادي بالأشياء،فأجاد في وصف الطبيعة،وأنشأ شعراً جميلاً من حيث المعنى والصورة"..في وصف البساتين والرياحين والسحاب والمطر والجداول والبرك والسماء والكواكب والنجوم والقمر،فجاء بالتشبيهات الفريدة المتميزة.."(4)إن اعتماد(ابن المعتز)على التشبيه والتمثيل والاستعارة في خلق صوره الفنية،إنما يرجع إلى شغفه العجيب باللون..فهو في صورة الحسية،حريص على إبراز العلاقة اللونية المشتركة(وجه التشبيه)بين طرفي(المشبه والمشبه به)..كما أن اللون بالإضافة إلى فاعليته في بناء عناصر الصور الشعرية،يقوم بوظيفة تفعيل العلاقة بين مثيرات الطبيعة والاستجابة الإنسانية،إذ إن طاقة اللون في الفن "..غالباً ما توجه من اجل تحقيق المتعة أو السرور" (5)عبر ما تثيره الألوان من صور في النص الشعري وفي ذهن المتلقي معاً:جلا لنا وجه الثرى عن منظر[c1] *** [/c]كالعصب أو كالوشي أو كالدهر من أبيض وأحمر وأصفر [c1] *** [/c]وطارف أجفانه لم ينظرتخاله العين فما لم يفغر[c1] *** [/c]وفاتق كاد ولم ينور(الديوان ص 192)صور(ابن المعتز)البصرية(اللونية)في طبيعتها إنما تتشكل بناء على مدركاته الحسية لما حوله من موجودات حسية عينية،ومن طبيعة لغته بما تنتظم فيها الألفاظ في علاقات،تقدم المعنى تقديماً حسياً،من خلال ما تجسمه من ألوان وصور وروائح وأصوات وملامس.لذلك كانت تلك الصور البصرية اللونية تتميز(بطبيعتها)بقدرتها على مخاطبة المتلقي واستمالته،وبفعاليتها على إثارة مخيلته وتهيئتها لتلقي صورها في أشكال محسوسة:-كأنما النارنج لما بدت [c1] *** [/c] صفرته في حمرة كاللهيب وجنة معشوق رأى عاشقا [c1] *** [/c] فاصفر ثم احمر خوف الرقيب(الديوان ص 84)يقدم لنا(ابن المعتز)في البيتين السابقين صورة لونية طريفة لثمرة النارنج(الليمون)ارتبطت من خلال التشبيه،بصورة أخرى غزيية جميلة،في نطاق من الألفاظ الرقيقة،وفيها نرى كيف كان اللون محوراً ومرتكزاً للصورتين،حتى نكاد لا نتخيل تلك الصور دون وجود اللون..ويبدو أن(ابن المعتز)شديد الغرام بثمرة النارنج،يصفها بوحي من نشأته الملوكية،وخياله المترف:وأشجار نارنج كأن ثمارها [c1] *** [/c]حقاق عقيق قد ملئن م الدرمطالعها بين الغصون كأنها[c1] *** [/c] خدود عذارى في ملاحفها الخضر(الديوان ص 198)ويتحفنا(ابن المعتز)بصورة لونية أخرى واصفاً فيها البدر:-والبدر في أفق السماء كدرهم [c1] *** [/c] ملقى على ديباجه زرقاء(الديوان ص 23)إن الشاعر يرسم لوحة ليلية ساحرة،من خلال التناغم الهرموني بين الألوان،مشبهاً فيها البدر بضوئه(الفضي)على امتداد(زرقة)السماء،بدرهم من(فضة)ألقى على ديباجة(زرقاء)..(ابن المعتز)في هذه الصورة الليلية الحالمة،إنما يظهر لنا براعته،وشاعريته في استشفاف ألوان الموجودات،وإبراز تماثلها اللوني وتجسيدها عن طريق التحايل الحسي:فاشرب على زهر الرياض يشوبه [c1] *** [/c]زهر الخدود وزهرة الصهباء(الديوان ص 23)ففي البيت السابق يجري(ابن المعتز)مماثلة لونية بين أنواع من الأزهار:(زهرة الرياض)و(زهرة الخدود)و(زهرة الخمر)...ألوان(ابن المعتز)تمتاز بأنها حية محسوسة،ذات قدرات تجسيمية وطبيعة مترفة..وهي ألوان لا تقف عند هويتها اللونية،وإنما تتخطى طبيعتها المعتادة،لتشكل عالماً سحرياً بديعاً،يشكل باطراد متجدد خلاب..فابن المعتز بتكوينه الفني،وبإحساسه وخبرته الجمالية يمنع الألوان دلالات جمالية،تنقلها من طبيعتها ومن الواقع المادي،إلى آفاق من التخيل والجمال،وكأنه رسام يهتم باللون يستشفه ويتعمقه ويحدد لكل لون موضعه،ثم يبدأ برسم لوحاته..ليصبح اللون أساس إبداعه وموضوع ومادة لوحته الشعرية:بيضاء مقمرة لقيها صبحها [c1] *** [/c] وثيابها في ظلمة لم تدنس وتوقد المريخ بين نجومها [c1] *** [/c] كبهارة في روضة من نرجس(الديوان ص 229)وبذلك نرى كيف استطاع(ابن المعتز)أن يجعل للصورة الشعرية تجسيدات،وإيحاءات،وخلفيات لونية مبتكرة.فإذا باللون يجسد ما لم تستطع الألفاظ تجسيده ويثير في مخيلتنا ما لم تقدر عليه اللغة،من صور وإحساسات جمالية..فإذا باللون أداة تصويرية بليغة،تمنح الصورة الشعرية إثارة وجمالاً وتألقاً...فلا عجب إذاً في أن يكون(ابن المعتز)شاعر الألوان في تراثنا الأدبي،بلا منازع:تغتر عن مقلة حمراء موقدة [c1] *** [/c] تكاد لولا دموع العين تحترق كأنها،حين تبدو من مجاسدها [c1] *** [/c] بدر تمزق في أركانه الغسقالديوان ص 282)[c1]المصادر والمراجع :[/c]1ديوان عبدالله بن المعتز:تحقيق وضبط وتقديم:(د.عمر فاروق الطباع)-دار الأرقم-بيروت-ص(30-31)..2د.شوقي ضيف:الفن ومذاهبه في الشعر العربي-دار المعارف-مصر-الطبعة التاسعة-1976م-ص(271).. 3د.شوقي ضيف:المرجع السابق-ص(270)..4د.مصطفى الشكعة:الشعر والشعراء في العصر العباسي-دار العلم للملايين-بيروت-الطبعة الثالثة-1979م-ص(769)..5د.شاكر عبد الحميد:التفضيل الجمالي(دراسة في سيكولوجية التذوق الفني)-(عالم المعرفة)-الكويت-العدد(267)-مارس 2001- ص(273)..