مع الأحداث
يعاني العالم هذه الأيام من أزمة مالية كاسِحة لم يشهد نظيراً لها منذ مدّة طويلة من الزمن . تفجّرت الأزمة في الولايات المتحدة الأمريكية بتعثّر أحد المصارف الكبيرة وامتدّت للتو إلى سائر أرجاء العالم . أظهرت الأزمة حقائق لم تكن مكشوفة، منها:أولاً: إن الدولة العظمى، أمريكا، لا تقف على أرض صلبة من الاستقرار كما كان الانطباع السائد . درجت أمريكا على اعتماد نظام السوق الحرّة بأبعد معانيها، وتبشر بحسنات ومزايا النظام الليبرالي المطلق في سائر أرجاء العالم وتعتبره مفتاح الاستقرار والنمو والازدهار . فإذا بالأزمة تكشف أن دولة الليبرالية المتقدمة لا تسيطر على أوضاعها المالية على الوجه الذي يمكّنها من تحاشي الأزمات الحادّة التي تهدّد المصير . فأين هي الرقابة على المصارف التي كان يفترض أن تكون فاعلة والدولة العظمى ذات تجربة عريقة في هذا المضمار؟ وأين هي شبكة النظام الاحتياطي الفدرالي، التي تقوم مقام المصرف المركزي في الولايات المتحدة؟ وما الدور الذي قامت به لتدارُك أزمة السيولة، التي أودت بأحد المصارف الكبرى؟ ثانياً، كشفت الأزمة الأمريكية ركاكة النظام الاقتصادي العالمي . كان الاعتقاد السائد أن أوروبا تطورت فاكتسبت كياناً اقتصادياً متميزاً ينافس الاقتصاد الأمريكي، فإذا بالسوق الأوروبية مكشوفة كلياً على تداعيات الأزمة الأمريكية . وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى الصين واليابان وسائر دول العالم . كانت السوق الأمريكية، ومعها العملة الأمريكية، ملاذاً للأموال الباحثة عن فرص للاستثمار أو الأمان، فإذا بهذا الملاذ يتداعى فجأة، من دون مقدمات، ولا يحل محلّه ملاذ آخر . لذا كانت الظاهرة العجيبة إذ أخذ الدولار الأمريكي في لحظات معينة يرتفع في السوق في مقابل اليورو وبعض العملات الأخرى في الوقت الذي كانت فيه أمريكا محور الأزمة الناشبة . لم يكن ذلك بسبب الإقبال على الدولار بقدر ما كان بسبب الانصراف عن عملات عالمية أخرى . وليس سراً أن الخليج العربي دفع ثمناً باهظاً من جراء الأزمة العالمية بسبب وجود ودائع ضخمة في مصارف الغرب وتوظيفات هائلة في الأسواق المالية الغربية . وقد انعكس ذلك سلباً على الأسواق المحلية في سائر دول الخليج العربي . ثالثاً: لبنان كان لحسن الحظّ من الدول القليلة جداً التي لم تتأثّر سلباً على نحو ملحوظ بتطورات الأزمة المالية العالمية . فبقيت مصارفه محافظة على سلامة أوضاعها في وجه العاصفة . والفضل في ذلك يعود للسياسة الحكيمة التي انتهجها مصرف لبنان بقيادة حاكمه إذ حال دون لجوء المصارف اللبنانية إلى توظيف أموالها على وجه كثيف في السوق الأمريكية، فكان مصرف لبنان يتقبل الإيداعات من المصارف التجارية في مقابل عائدات تتميّز عن تلك التي كان يمكن أن تحصل عليها من السوق الأمريكية. والفضل في هذا الواقع يعود أيضاً للجنة الرقابة على المصارف التي ساهمت في ضبط أوضاع المصارف عبر المراقبة التي تمارسها على حسابات المصارف وتوظيفاتها وأوضاعها العامة . يضاف إلى ذلك السياسة الرائدة التي سلكها مصرف لبنان خلال السنوات الأخيرة في حماية المودعين من أية خسائر يمنون بها من جراء تعثّر أي مصرف . والمعروف أن عدداً من المصارف أُصيب بالعسر خلال السنوات الماضية، فالتزم مصرف لبنان سياسة جريئَة ضمنت حقوق المودعين كلياً في جميع الحالات، الأمر الذي عزّز الثقة بسلامة القطاع المصرفي . ولبنان لم يبقَ إلى حدٍ ملموس بمنأى عن تداعيات الأزمة المالية العالمية فحسب بل بدا في لحظات معينة أنه أفاد منها، إذ توجهت إلى لبنان بعض الأموال العربية التي تبحث عن أبواب للإيداع والتوظيف فوجدت في لبنان مجالاً، وقد ظهر ذلك في استقرار العملة اللبنانية لا بل وفي ارتفاع احتياطات لبنان من العملات الأجنبية خلال الفترة الأخيرة. هذا مع العلم أن استقرار الليرة اللبنانية هو في واقع الحال نظري أكثر منه عملياً، ذلك لأن الليرة مرتبطة، بقرار من مصرف لبنان المركزي، بالدولار الأمريكي، فهي تسير في الاتجاه الذي يتحكّم بالعملة الأمريكية . وعند تراجع الدولار الأمريكي في الأسواق العالمية خلال الأشهر الأخيرة، كانت الليرة اللبنانية ملازمة له فانحدرت بطبيعة الحال معه حيال العملات الأخرى . هذا التلازُم في السوق بين العملة اللبنانية والعملة الأمريكية يطرح سؤالاً حول مستقبل العملة اللبنانية في حال تفاقُم الأزمة المالية الأمريكية. رابعاً: يبدو محتماً أن الواقع المالي في الدولة العظمى أمريكا كما في سائر أقطار العالم لن يبقى بعد الأزمة كما كان قبلها . الأمور لن تبقى على ما كانت عليه . فالثقة بأمريكا، وبالتالي الرهان عليها اقتصادياً ومالياً، أُصيبت بالتصدّع، والثقة لا تُستعاد بسهولة . وهذا يستتبع أن العالم سيسعى إلى البحث عن بديل للنظام الذي كان فيه الدولار العملة الاحتياطية، العملة الملاذ، المركزية . والعالم سيكون في صدد البحث عن نظام مالي اقتصادي معدل حتى لا نقول بديلاً . فلقد سارعت بعض الدول إلى اعتماد أنظمة مبتدعة على عجل لضمان الودائع المصرفية على أرضها، في محاولة لاحتواء تداعيات الأزمة العالمية . وهذا التوجه مقدّر له أن يكون منهجياً ومعمماً في مقبل الأيام . كما أن الرقابة المصرفية مكتوب لها أن تزداد صرامة في شتى أرجاء الدنيا . أما النظام الذي تتبنّاه أمريكا وتبشر به في العالم أجمع محاولة نشره وأحياناً فرضه، فقد ظهر عقمه بثمن غالٍ جداً، وهم العالم في المرحلة المقبلة البحث عن نظام معدل أو بديل، ومن المنتظر ان يكون الشاغل الأكبر في العالم أجمع خلال المرحلة المقبلة العمل على تطوير النظام المالي العالمي على الوجه الذي يضمن الحؤول دون الوقوع في مثل المحظور الذي وقع فيه العالم في ظل النظام السابق . ولسوف يكون التشديد على مقوّمين على الأقل من مقوّمات ضمان السلامة المالية وهما الرقابة المصرفية وضمان الودائع . ولسوف تكون القاعدة التخلّي عن مبدأ الالتزام المطلق بنظام الليبرالية غير المنقوصة حتى في أمريكا، وسيكون التركيز متزايداً على دور الدولة في حفظ الاستقرار العام وحماية حقوق الأفراد .وسيكون ثمة بحث جدّي في إعادة النظر في صندوق النقد الدولي الذي أثبتت الأزمة العالمية عدم جدواه في الملمات، وسيكون التوجه نحو استحداث آلية جديدة للتنسيق الدولي في الإطار المالي الاقتصادي على مستوى أوسع نطاقاً مما كان يوفره صندوق النقد الدولي أما في لبنان فلا بد من تشجيع المصرف المركزي على مواصلة سياسته المتحفّظة، من جهة بالحؤول دون الانفلاش المصرفي المفرط في الخارج، ومن جهة ثانية بالتركيز على دور الرقابة المصرفية وضمان الودائع المصرفية . وفي الوقت عينه لا بد من التزام جانب الحيطَة والحذر في سياسة ربط العملة اللبنانية بأية عملة أجنبية معينة مهما بلغ شأوها إلى ذلك لا بد من بذل جهود مجددة في سبيل تنمية القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد الوطني سعياً وراء المزيد من التوازن الاقتصادي . فاستمرار الاعتماد المفرط على القطاع المصرفي في الاقتصاد الوطني لم يعد جائزاً، والإنماء المتوازن هو الردّ المناسب على هذا التحدّي . ونتساءل في الختام: هل كانت ذروة العولمة انهيارها أم أن الحصيلة ستكون إعادة تفصيل ثوب العولمة في ضوء الكارثة التي وقعت؟ وكيف سيكون هذا الثوب؟ [c1]* صحيفة (الخليج) الإماراتية[/c]