الإيبستمولوجية هي النقد الذي يوجه للعلم ، وعليه فإنها تبيح لنفسها نقد المنظومات المعرفية بحثاً عن العقبات التي تمنع تطورها وبحثاً عما ليس مفكراً به ، ومن هنا تأتي المشروعية الفلسفية للتداخل الإيبستمولوجي في الإيديولوجية:على الرغم من التداول الشائع "إيديولوجيا" إلا أن هذا المفهوم لم يكن موضع اتفاق أو مواصفة فهي تختلف من استعمال إلى آخر، بل إن المصلح لم يحتفظ بمضمونه طويلاً. وهو أقل المفاهيم إثارة للجدل، وأقلها ثباتاً. بل إن الإيديولوجية لكونها اجتماعية وتاريخية، فهي صنيع ثقافي، وهي من هذا المنظور تشبه الأسطورة.ففي تاريخ المصطلح، فإن الإيديولوجية قد ظهرت لأول مرة عام 1801 على يد المفكر الفرنسي دستوت دوتراسيDe trace) ) حيث استعمله في كتابه"تخطيط لعناصر الإيديولوجية"؛ وذلك في محاولة للدلالة على العلم الذي يدرس الأفكار بمعناها العام؛ أي كعلم للأفكار ( Idea logie) معتبراً أن كل المعرفة الإنسانية هي معرفة أفكار .وعندما استعار الألمان الكلمة ضمنوها معنى آخر،وما لبثت أن رجعت إلى الفرنسية كدخيلة عليها، فبعد أن تبنتها النزعة الحسية أو المادية التي ظهرت في فرنسا خلال القرن التاسع عشر؛ باعتبارها "المنهج العلمي" الذي يستبعد الميتافيزيقا، واستخدمت سياسياً لدى نابليون للدلالة على التفكير الذهني البعيد عن الواقع الذي مثله أولئك الفلاسفة الذين عارضوا طموحاته الإمبراطورية ، أي عبر المذهب اللاواقعي الذي تكذبه شهادة الوجود الخارجي، فإنها غدت عند الألمان تعني: المنظومة الفكرية، والعقيدة، والذهنية، والوعي الزائف، والقناع، والرؤية الكونية، والمعرفة.ونعلم أن القرن التاسع عشر قد اعتبر عصر الإيديولوجية؛ وذلك لم يكن بسبب أن الكلمة كانت شائعة الاستخدام، إنما بسبب أن الكثير من الأفكار قد مُيزت عن الأفكار التي جاءت في قرون سابقة والتي غدت لدى المحدثين "إيديولوجية".وإلى يومنا هذا لا تزال كلمة إيديولوجية موضع تعريف وخلاف، فرون آرون يقول إنها تصورات ذاتية تأتي إلى الواقع من الخارج . بل ويذهب مع نهايات الستينيات والثورة النقدية التي رافقت تلك المرحلة، إلى اعتبار أن الإيديولوجية هي أفيون المثقفين باعتبارها منظومة لتفسير العالم الاجتماعي تنطوي على نظام من القيم المقبولة وتقترح إصلاحات ينبغي إنجازها وانقلاباً يخشاه الناس أو يأملونه، ولكن هذا التعريف يخفي النزعة التبريرية التي قد تحملها بعض الإيديولوجيات، وصولا إلى اعتباره أنها (فكرة عدوي).فلكي نحدد المعيار الدقيق المعاصر للحقيقة الذي حل محل الحقيقة الدينية المتعالية فإننا يجب علينا أن نخضع معنى كلمة إيديولوجية لتحليل تاريخي أكثر دقة. فإذا بدأنا بكلمة إيديولوجية نجد أنه ليس لها في الأصل أهمية أنطولوجية إذ أنها لم تكن تحتوي بالأصل ككلمة وكمفهوم باعتبارها علماً للأفكار على أي قرار بخصوص المجالات المختلفة في واقع الحياة لأنها في الأصل لا تدل إلا على نظرية في الأفكار فقد كان الإيديولوجيون أعضاء في جمعية فلسفية في فرنسا كانت حسب تعاليم كوندياك ترفض الميتافيزيقا وتعتبرها لا معنى لها، وتسعى أن تقيم العلوم الثقافية على أسس أنتروبولوجية.وقد ولد التصور الحديث للإيديولوجية عندما اكتشف نابليون أن هذه الجماعة من الفلاسفة تعارض طموحاته الإمبراطورية فأطلق عليها باحتقار شديد اسم جماعة الإيديولوجيين أي أخذت معنى تحقيرياً بعد أن كانت بالنسبة للإيديولوجيين الأوائل تعني علماً للأفكار منافياً ومجافياً للميتافيزيقا ومن هنا فإن كل فكر يضيف تحت باب الإيديولوجيا يعتبر فكراً عقيماً حتى يصل للممارسة الفعلية ويصبح النشاط العملي و الطريق الوحيد و هو المنهج الأول المقارن الموثوق الذي يجب ن نسعى غليه كي يوصلنا إلى الواقع وحين يقاس التفكير والتأمل في وضع ما بمقياس السلوك العملي يتبين أنهما تافهان.وهكذا يتضح أثر المعنى الجديد لكلمة إيديولوجية هنا فقد برز باعتباره يحمل طابع مركزي إشعاعي أي رجالات العمل السياسي فالكلمة هنا تقرر وتدعم خبرة السياسي المحدودة بالأمكر الواقع كما تدعم تلك اللامعقولية العملية الواقعية التي لا تقيم وزناً للفكر باعتباره أداة للتمكن من فهم الواقع.وانتشرت كلمة إيديولوجية بهذا المعنى في القرن التاسع عشر بمعنى تفوق السياسي تجاه الأمر الواقع على أنماط الفكر والحياة التأملية المدرسية (السيكولاستيكية) وحلت محلها ومنذ ذلك الحين لم تختف المشكلة الكامنة في كلمة إيديولوجية أي مشكلة ما هو الحقيقي فعلاً وهنا عندما تم إعادة تشكيل كلمة الإيديولوجية على يد السياسي في ظل خبراته واتصاله بالواقع والمتحولات فإنها دلت على تحول حاسم في صياغة المشكلة الخاصة بطبيعة الحقيقة وطبيعة الواقع أي إذا كنا نريد الارتفاع فوق ما هو إيديولوجي، فإن علينا ومن تلك المنظومة، أن نجعل التاريخ السوسيولوجي للأفكار يهتم بالفكر الفعلي وليس بمجرد منظومات الأفكار التي تحافظ على استمرار وجوده.فمع توسع وانتشار المدخل الإيديولوجي وصلنا إلى مرحلة فيها على وجهة نظر واحدة أن تواجه غيرها وتتهمها بتهمة الإيديولوجية دون أن تضع نفسها في مركز يجعلها تواجه ذلك التحدي وتتهم نفسها بهذه التهمة وبالتالي يعتبر كارل مانهايم بأننا وصلنا إلى حد نحتاج إلى مرحلة منهجية جديدة في تحليل الفكر بصورة عامة.فقد كانت النظرية الماركسية أول من جمع بين التصور الجزئي والتصور الكلي للإيديولوجية مانحة الطبقات مركزاً مهماً في تطور الفكر ولأن جذور الماركسية كانت موجودة في الهيغيلية فقد استطاعت الماركسية أن تتجاوز المستوى السيكولوجي في التحليل وأن تضع المشكلة في سياق فلسفي أشمل وبهذا اكتسبت فكرة الوعي الزائف معنى جديد عند ماركس ولأول مرة يظهر اتصال بين الإيديولوجية وبين الوعي الزائف ووضع ماركس معيايراً نهائياً لفصل العناصر الإيديولوجية في الفكر عن العناصر ذات الصلة بالواقع بمعيارين هما الممارسة السياسية والتغيير الاقتصادي ولكن تم تجاوز هذه المرحلة الماركسية أيضاً فلم يعد تعقب الفكر البرجوازي وأساسه الإيديولوجي وإضعاف الثقة به امتيازاً مقتصراً على المفكرين الاشتراكيين ففي نهايات القرن العشرين أصبحت كل جماعة تستعمل هذا السلاح ضد جماعات أخرى مدخلة فكرة الإيديولوجية في حقبة اجتماعية وفكرية جديدة فقد ظهرت الاتجاهات الأولى على يد ماكس فيبر وسوم بارت وتروولج، حيث يعتبر ماكس فيبر أن ليس التطور المادي للتاريخ سيارة أجرة يدخلها المرء ويخرج كما يشاء معتبراً أن من يدخلها(أي التصور المادي تصور ماركس) يفقد حريته في مغادرتها حتى ولو كان ثورياً. وفي واقع الحال فإن رصد سيرورة المفهوم تعطينا انطباعاً واضحاً عن تفاوتات استخدامه فإذا ما تتبعنا تمييز العروي للإيديولوجية فإننا نجده قد قسمها إلى ثلاثة مجالات ومعان كبرى للمفهوم: ففي مجال الصراع السياسي فإن الإيديولوجية تعني كل تفكير مخادع أو تضليلي ولهذا فهي قناع أما في مجال الاجتماع البشري فهي تعني مجموعة الأفكار والقيم والمثل التي تتبناها جماعة ما والتي تحدد لها رؤيتها للواقع الاجتماعي وللتاريخ؛ ولهذا فهي رؤية كونية. وفي مجال نظرية المعرفة فإن الإيديولوجية تعني المعرفة الظاهرية السطحية ولهذا وقبل أن نعين الإيديولوجية يجب أن نحدد الحقل الذي تعمل فيه ولا بد في نهاية الأمر أن نؤكد على الطابع الشامل لهذا المفهوم باعتبار الإيديولوجية ظاهرة اجتماعية وسياسية وثقافية ونفسية ومعرفية.المناحي الثلاث للإيديولوجيةمع التقسيم سابق الذكر نعرض للنماذج الثلاث النقدية والمختلفة للإيديولوجية معتمدين في هذا على تقسيم عبد الله العروي. الإيديولوجية كقناع : المقصود هنا الاستناد إلى ثنائية (الظاهر/ الباطن)، المستمدة من الفكر النقدي الذي لا يرى الحقيقة في ظاهر الأمور الحقيقة، ويخضع الأفكار لعملية التأكد من الصدقية. وعليه فإن هذا التوجه الذي عززته فلسفة عصر الأنوار يبحث في المخفي وغير الظاهر ويعتبره معياراً أو كنهاً للحقيقة.وهذا النموذج يعكس فعلياً الفلسفة النسبوية التي تتجلى في مجال السياسة في كل تفكير مخادع ومضلل، وفي مجال الاجتماع البشري في مجموعة القيم والأفكار التي تتبناها جماعة ما وتحجب عنها رؤية الواقع كما هي وفي مجال المعرفة بالاعتماد على المعرفة السطحية والظاهرة. وهنالك نماذج في التاريخ الفلسفي لهذا النوع من الإيديولوجية لدى الفلاسفة:أولاً : فرويد والحقيقة الكامنة في اللاوعي:يعتبر فرويد أن الغريزة الجنسية هي التي تحكم السلوك الإنساني، وبالتالي فهي الباطن الذي يعكس الظاهر؛(الفكر والسلوك الإنساني العرَضي). فالحياة الإنسانية وبالتالي الفكر، تحكمهما غريزتا الموت والحياة (الليبيدو). ولهذا فالعقل كغيره من الموجودات العضوية تحكمه الغريزة.ولهذا يطالبنا بالبحث عن الحقيقة خارج العقل، إذ أننا لايمكننا فهم الأفكار والأنظمة الاجتماعية خارج إطار الرغبات وبمجرد الاستناد إلى القواعد العقلية التي أنشأها الإنسان، فهي قواعد زائفة ومخادعة. وعلى هذا فإنه يطالب بتأويل الأخلاق والأساطير والأعمال الفنية والأنظمة الاجتماعية والأخطاء العفوية وزلات اللسان ... باعتبارها رموزاً(ظاهرة) تشير إلى / وتعكس أحداثاً غريزية ورغبة مكبوتة.فالتاريخ الحضاري والوعي الإنساني عند فرويد ليس طويلاً جداً، وبالتالي فإن الدوافع المكبوتة لم تنزل إلى اللاشعور تماماً ولم تغلق الباب وراءها ، إنما هي قريبة من منطقة الوعي (بعضها في منطقة ما قبل الوعي)، حيث يستطيع الوعي أن يستدعيها بسهولة نسبية، وكذلك الأفكار التي لا تعكس الحقيقة إنما تشكل رموزها الظاهرة.إن العقل، كغيره من الموجودات حسب فرويد تبقى، تحت تصرف الرغبة. والتركيبات الذهنية، ليست سوى أقنعة تخفي ما وراءها. وبما أن التاريخ الحضاري أو الواعي للإنسان، قصير جداً بالنسبة إلى ماضي الحياة، فإن الدوافع المكبوتة لم تغرق في بحر النسيان. إنها قريبة جداً من سطح الوعي حيث يعمل العقل، وليس من الصعب استحضارها بتأويل بسيط للمعقولات.ثانياً : نيتشه وغل المستضعفين :يتم تبخيس العقل - حسب نيتشه - إلى مستوى الأداة الطيعة في خدمة أهداف مسبقة خفيه وغير ظاهرة في منطوق تلك الثقافة المعلنة؛ فالثقافة الأوروبية في رأي نيتشه، منذ ألفي سنة،هي ثقافة المستضعفين الذين أبدعوا قيم العدل والمساواة والخير والضمير المسؤول، وهنا تتجلى ثنائية (الظاهر / الباطن) لديه عندما يبحث في اشتقاق الكلمات المستعملة في القاموس الأخلاقي، ليكتشف أن الصالح يعني في مبادئ اللغات القوي النبيل، وأن الفاسد يعني الضعيف المغلوب العامي. وعليه فإنه يستنتج أن الأخلاق الصالحة هي أخلاق الأشراف، أسياد الحرب الذين يطيعون بدون تردد نزوات الجسم الطبيعية. حيث في الواقع فإن الغريزة هي التي تعمل من خلال فعل الفرد القوي وانفعال الفرد الضعيف.ويبني على ذلك ما هو باطن في الفكر ليرى بأن هدف الأخلاق والثقافة، كان الانتقام من تصرفات القوي، وبالتالي من مجرى الحياة،لأنها بلا مبرر.وعندما يتصفح نيتشته أخبار التاريخ يرى فيها حرباً دائمة بين القوي والضعيف، بين الصحيح والمريض، بين السيد والمستضعف. ويستنتج هنا أن الثقافة الحقيقية (أي الباطن)؛هي تلك التي تخضع للحياة، وتخدم قانونها الأساسي؛ قانون الاستمرار. أما ما يسمى بالثقافة منذ ألفي سنة، فهي فاسدة خادعة لأنها لم تفتأ تتنكر لقانون الحياة : قانون القوة.وعليه فالعقل عاجز عن خلق أية قيمة إذا لم يرتبط بالحياة. كلما عادى الحياة لجأ إلى قيم زائفة وهمية كالأخلاق.إن ما يهمنا في نظرية نيتشة أنها تنفي استقلال الإنتاج الفكري وتعتبر أنه مجرد قناع يستر هدفاً أعمق وأعم من المصلحة الفردية أو الطبقية. أما الشيء المستور(الباطن) وراء الإيديولوجية عند نيتشه فهو غل المستضعفين، ذلك الغلّ الذي خلق عالماً أعلى، عالماً وهمياً، بجانب العالم الأسفل، الحقيقي، الوحيد الذي نعيش فيه، لأنه يعادي الطبيعة جميعها، والذي اخترع الثقافة والحضارة لأنه يعادي الأسياد أولياء الحياة، والذي اختلق التربية لأنه يعادي ميول النفس الطبيعية.ماركس والمصلحة الطبقيةاستعمل ماركس كلمة الإيديولوجية كما هو حال المفردة نفسها باعتبارها إشكالية بصور متعددة الأوجه .فقد استخدمها كما لاحظ العروي وفقاً للمفهوم الرائج في الأوساط الاشتراكية الباريسية حيث اعتبرت الإيديولوجية مصطلحاً يعني التفكير غير العقلاني و غير النقدي و موروثاً عن عهد الاستبداد. إلا أن ماركس في الفترة الفاصلة بين 1830 و 1848، أي الفترة التي تكوّن فيها ماركس فكرياً، وتحديداً في كتابه الأيديولوجية الألمانية فند أعمال ثلاثة مفكرين ليميّز بين الفلسفة، التي رغم أنها لا تعبر عن وعي تام بحقيقة التاريخ، تدرك بعض الحقائق، على الأقل منهجياً، وبين الإيديولوجية الألمانية، التي تعوق المرء عن إدراك أي جزء من أجزاء الواقع التاريخي.لقد كان نقد ماركس نقداً مضاعفاً. لأنه ينقد أقوالاً كانت ذاتها نقداً لأقوال أخرى. فقد نقد فيورباخ هيغل اعتماداً على المادية الطبيعية؛ مادية القرن الثامن عشر، وورثة فيورباخ، في اليسار الهيغلي، كانوا ينقدون النظام الفكري القائم في ألمانيا،، انطلاقاً من فرضيات العقل البديهي. وهنا كان ماركس يوجه نقده بالصورة التالية:"ماهو الشيء الذي يبرر ادعاءكم أن فكركم يعكس وحده الحقيقة المطلقة؟ فأنتم تفسرون أوهام الآخرين بحب السيطرة والتقليد والتربية الفاسدة، فكيف تفسرون نشوء فكركم النقدي؟ إنكم تقفون على أرضية فلسفة الأنوار وتستعيرون ماديتها وعقلانيتها، لكن ما كان جائزاً في القرن الماضي لم يعد جائزاً في عهدكم. حين تُحيون في ألمانيا فلسفة الأنوار ونقدها للأوضاع، فإنكم تُلغون التاريخ الواقعي، وبإلغائكم إياه تملؤون أذهانكم بالأوهام وتعرضون عن معرفة الواقع. فكركم إذن أيديولوجي، غير علمي".فمحور النقد المضاعف هنا أن هؤلاء يضعون أنفسهم موضع فلاسفة الأنوار ويضعون ألمانيا في موضع فرنسا كأنه لم يقع شيء منذ أن هاجم الماديون الفرنسيون الكنيسة الكاثوليكية. إن الماركسية تقرر أن الإيديولوجيات كلها طبقية ، وبالتالي فهي قناع يخفي حقيقة الاستغلال الطبقي؛ فكل إيديولوجية هي تبرير لاستغلال طبقة لأخرى، أو لاستمرار طبقة في وضعها السائد.الإيديولوجية كرؤية كونية 1- هيغل وروح العصر:إذ حكم فلاسفة عصر الأنوار التجارب الحضرية السابقة والموجودة في عصرهم من خلال مقاييس العقل الغربي أو الأوروبي حصراً، فإن هذا ما أحدث تناقضاً كبيراً، الأمر الذي جعل هيردر يستحدث مفهوماً جديداً للتاريخ انطلاقاً من فكرة تقول:إن لكل تاريخ خصائصه ولكل ثقافة خصائصها، رابطاً بين الأخلاق العامة لشعب ما وروح قوانينه ونظامه بالمحيط الجغرافي الذي يعيش فيه هذا الشعب، فيقول "من الحماقة أن نقتلع فضيلة من الفضائل من أرضها وزمنها"،مدللا على ذلك بالحضارة المصرية، ومطالباً بأن نقرأ كل ثقافة بعقل تلك المرحلة.هنا يطلب هيردر من المؤرخ أن ينطلق بذهنه إلى وسط الثقافة التي يدرسها عوضاً أن يترجم كلام تلك الثقافة إلى منطق زمانه، وهذه أولى المحاولات للانطلاق والتحرر من عقل مطلق حاولت أن تفرضه فلاسفة عصر الأنوار على التاريخ؛أي كل عقل يحاول أن يفرض منطقه على الآخرين بمعنى كل تشكيل معرفي يظن أنه يمتلك الحقيقة.هيغل يتمم ما جاء به هيردر ويقول: إن دعوة فلسفة عصر الأنوار إلى العقل كانت ضرورية، إلا أن العقل في مفهومها مجرد وفارغ من كل مضمون وهو صحيح صحة تامة ما دام مجرداً،أما إذا ما ُطبق على الواقع، فإنه يعطي الدليل الفوري على عجزه لأن المجرد لا يعطي مقياساً للتعامل مع الواقع، ويتهم بالتالي فلسفة عصر الأنوار بأنها إرهاب وسمتها الأساس ارتطام العقل المجرد بالواقع الملموس.والسؤال الآن: لماذا تشكل فلسفة عصر الأنوار رؤية كونية ولماذا نقدها هيغل وهيردر؟ّلأنها جعلت العقلانية أداة لقياس كل شيء آخر.. وقد نقدها هيغل انطلاقاً من أن لكل شعب خصوصيته، وبالتالي فقد ميز هيغل بين عقل مجرد قياسي صوري يصلح للفهم فقط وبين عقل مشخص تركيبي موضوعي مبطن في الأشياء.ولهذا فإن فلسفة عصر الأنوار- حسب هيغل- لم تفهم التقاليد التي تعيشها بعض المجتمعات؛ لأنها نقدتها انطلاقاً من العقل المجرد. وعليه فهو يؤكد على أن العقل النقدي لا يستطيع فهم الماضي. ولهذا يطالبنا بأن نفهم روح الدول والحضارات والقوانين معتبراً أن الدول والحضارات والقوانين والأعمال الفنية لها روح موضوعية، هذه الروح هي التي يجب أن ندرسها، وبالتالي ندرسها بنبذ العقل النقدي بالمعنى الانتقادي للكلمة التي يحاول أن يفرض قواعده على موضوعات دون تمثل روحها. هذه الروح هي الإيديولوجية كرؤية كونية:يعتبر هيغل أن روح التاريخ واحدة ، فكل ثقافة وكل روح في مرحلة من المراحل هي روح مطلقة لدى هذا الشعب وتلك الثقافة.. لكنها بالنظر إلى سياق التاريخ العام روح ناقصة (هذه الروح كاملة بالنسبة لمرحلتها لكنها ناقصة بالقياس إلى روح التاريخ) بالسياق إلى المقارنة مع التاريخ العام.هنا يؤسس هيغل لرؤية كونية تقول أن التاريخ كله يحكمه روح واحدة هي عقل التاريخ الذي ينزع نحو الحرية.فمرحلة الرق كانت لها روحها وعقلها.. ولهذا يرى هيغل أنه كان مبرراً بناء الحضارات بأخذ اليد العاملة الرخيصة وبناء الأهرامات.. ففي وقت يرى فيه فلاسفة عصر الأنوار أن هذا كان شيئاً سلبياً في الحضارة الفرعونية، فإن هيغل يعتبره إنجازاً من العقل لتاريخه، وهو عقل كان مطلقاً في ذلك الوقت وناقصاً إزاء التاريخ بأكمله.
نقد الإيديولوجيا
أخبار متعلقة