القاهرة / متابعات :يطل الكنفاني بجسده النحيل، يتلوى بسرعة وخفة فوق فرنه البلدي، وبلفات محسوبة وآنية العجين السائل في يده، ينسج خيوطا رفيعة دائرية على صاجة الفرن، وما أن تطلها حرارته، حتى تصبح سلاسل من الفضة البيضاء اللينة، التي تشتريها ربات البيوت وتكمل طهيها، أو يتولى هو المهمة بالكامل، فيحيل بياض العجين إلى سلاسل مسبوكة من الذهب في بريقها ولمعانها، أما طعم الكنافة بعد تحميرها فهو عنوان موائد رمضان وزينتها وسر حلاوتها.كنفاني رمضان، ليس هو ذلك الرجل القابع في محال الحلوى الكبرى طوال العام، وإنما أولئك الذين ينتظرون مجيء شهر رمضان المبارك من العام للعام، حتى ينضموا لفريق عمل الكنافة بنواصي الشوارع والميادين في الأحياء الشعبية والقرى، أولئك الذين ينضمون للعمل بالمحلات الشهيرة في الشهر وأبرزها وأشهرها عرفة الكنفاني أحد معالم حي السيدة زينب. أسرار الكنافة يبوح بها التاريخ، ولا تزال الراويات الخاصة بالتأريخ لهذه المهنة متضاربة، فبينما ينسبها البعض إلى معاوية ابن أبى سفيان، فإن كثيرين يؤرخون لها بالعصر الفاطمي، وزمن المعز لدين الله الفاطمي، مؤسس مصر الإسلامية وقاهرتها.سلوى محمد الباحثة المتخصصة في دارسة التاريخ والآثار وأستاذة الإرشاد السياحي بجامعة حلوان قالت لموقع ( العربية نت ) إن صناع الحلويات في الشام صنعوها لتقديمها إلى معاوية بن أبي سفيان عندما كان واليا على الشام، وذلك حتى يأكلها كطعام للسحور، فتمنع عنه الجوع الذي كان يشعر به أثناء الصيام، وقد ارتبط اسمها باسمه، حتى إنها سميت “كنافة معاوية” لفترة طويلة .أساتذة التاريخ الإسلامي ومنهم الدكتور محمد عرفة يذهبون إلى أن تاريخ الكنافة يعود إلى العصر الفاطمي، وقد عرفها المصريون قبل أهل بلاد الشام، وذلك عندما تصادف دخول الخليفة المعز لدين الله الفاطمي القاهرة، وكان ذلك في شهر رمضان، فاستقبله الأهالي بعد الإفطار وهم يحملون الهدايا، ومن بينها الكنافة بالمكسرات، كمظهر من مظاهر الكرم. ثم اكتسبت الكنافة مكانتها بين أنواع الحلوى التي ابتدعها الفاطميون، ومن لا يأكلها في الأيام العادية، لابد أن يتناولها خلال رمضان في البيوت أو المطاعم. إبراهيم مختار الشهير بإبراهيم حلاوة، كنفاني رمضاني جداً، له مكانه الذي يطل فيه على جماهيره وأحبائه كل عام قرب منزله في أقدم أحياء قاهرة المعز، يقول إن والده كان يعمل في المهنة نفسها، وكان يذهب معه ويتعلم منه الصنعة شيئا فشيئا إلى أن توفاه الله، فعملت مكانه لكن العمل بالمحل شيء وفي الشارع شيء آخر، “نحن في المحل نعمل طوال العام أما نصبة الكنافة الرمضانية فلا تستمر سوى في الشهر الكريم فقط، وأعتقد أنها تكون فرصة لي لتوسيع الرزق وأخذ راحة من المحل الذي تركته منذ فترة وعملت بوسط البلد”.وعن أدواته واستعداده لاستقبال رمضان قال “نعد العدة لهذا الغرض حيث نبني فرنا خاصا لتسوية الكنافة قبل رمضان، وهو دائري الشكل يرتفع عن الأرض قرب متر ونصف، وله فتحة لإشعال النار، وفوقه صاجة أو صينية مستديرة يطلق عليها حجر زهر، ويستخدم مع الفرن إناء ذو ثقوب تكون صفاً واحدا، كما نستخدم حلة للعجين ومصفاة لتصفيته ومغرفة أو كبشة كبيرة لغرف العجين السائل من الحلة إلى الإناء المثقوب”.ويتناول الصنايعي المغرفة بخفة أثناء اشتعال النار وبحركة دائرية يلف يده بإناء العجين المثقوب فوق الصينية، مع تحكمه في ثقوب الإناء ليهبط منها العجين على هيئة دوائر في الصينية ومع الوقت تتم تسوية وإعداد العجينة الأولى لصناعة الكنافة التي قد تحشى فيما بعد بالمكسرات والحلوى أو بالجبن وغيرها تمهيدا للتحمير والتسوية النهائية.ورغم حب الكثيرين للكنافة اليدوي إلا أن التطور سنة الحياة، فقد تحول إناء العجين المثقوب إلى وعاء كبير متحرك ومثقوب تلفه الآلة، بينما يقف الصنايعي اليوم ويزودها بالمقادير ويتحكم في سرعة دورانها وفي كمية العجين التي تنزل من الثقوب إلى الصينية الدائرية. استخدام الماكينة الآلية في صنع الكنافة بدلاً من الكوب المخرم، توفيراً للجهد والوقت وتيسيرا للإنتاج الغزير، ومن هنا عرف الناس الكنافة الآلي، وانتشرت بشكل كثيف خاصة في الأحياء الراقية. “عرفة الكنفاني” أشهر وأقدم محلّ كنفاني في مصر، هو بالفعل أحد معالم ميدان السيدة زينب، اسم له تاريخه في هذه المهنة التي تورثها عن الأجداد ليمثل الابن الحالي الجيل الرابع من عائلة عرفة الذي تشرب الصنعة ولقنها لأبنائه من بعده، متحديا بإنتاجه الكنافة الشامية ومتحفظا في الوقت نفسه على كنفاني الشوارع الرمضاني.يقول الحاج عرفة :مع مجيء شهر رمضان تشهد بعض الأحياء والساحات والميادين نصبة الكنافة “اليدوي”، والتي يقوم على صناعتها غير المختصين، حيث تكتظ الأحياء الفقيرة والشعبية ببشر لا علاقة لهم بالصنعة ولم يعملوا بها من قبل، وأخذوها بالفهلوة، حيث يقومون بنصب العدة؛ من فرن وصواني وبناء ونار وغيرها دون احتراف حقيقي ودون النظر إلى التطور الذي طرأ على الصنعة وأوصلنا لأنواع شتى من الكنافة التي تنتجها الآلة بكثافة إنتاجية واسعة.الكنافة ستبقى نجم شباك رمضان الذي انتصف خاصة وأن الكثيرين العائدين من الدول العربية لتمضية باقي رمضان وقضاء العيد في مصر لا يزالون يقبلون على شراء زينة الموائد.
|
رمضانيات
الكنافة من “الأمويين” إلى “الفاطميين” تاريخ حلو المذاق
أخبار متعلقة