ملاحظات نقدية
[c1]محمد فارع الشيباني[/c](66) شمعة تتلالأ في حياة المبدع الكبير حسين السيد تلمع فيسماء الثقافة فنون المسرح والإبداع لتكشف مسار طريق رسمة لنا وللثقافة مزهوً بالتقاطات لم تمتد إليها إلا يد مبدع محترف احترق في الحياة الداخلية للناس والمجتمع الخفي.. 66 عاماً من العطاء نجسده في هذه الاحتفائية بمبدع كبير هو حسين السيد." كن لصديقك كالهواء الطلق والعزلة والغذاء فإن من الناس من يعجز عن التحرير من قيوده لكنه قادر على تحرير أصدقائه " (يتشه).كنت قد كتبت في مقالة سابقة عن القاص حسين السيد محمد كظاهرة جديدة في عالم كتابة القصة القصيرة اليمنية في نفس هذه الصفحة عام 1988م بعنوان ( مطالعة للقصة القصيرة رمبص ) بعدها نشر قصصه تباعاً في مجلة " الحكمة " وكذا صحيفة الأيام وصحيفة 14 أكتوبر وصحيفتي الاتحاد الظبيانية والخليج في الشارقة وجدير بالذكر أنه انتهى من مخطوطين روايتين الأولى بعنوان ( وادي كويع الهزار) تحكي عن حرب الزرانيق ضد الإنجليز وحكم آل حميد الدين الإمامي الظالم وقد نشرت منها بعض الفصول في صحيفة 14 أكتوبر عام 1988م بدءاً من العدد (50) من الملحق الثقافي 30 يونيو والثانية (نرجيلة الشيطان) تحكي تاريخ مدينة عدن والصراعات التي دارت داخلها على مدى سبعين عاماً قبل وبعد خروج الإنجليز، وبما أننا بصدد القصة القصيرة والتي يطول بعضها بين حرفيات القصة القصيرة مع شيء من السرد الروائي دون أن يخل بسياق تقنيات القصة القصيرة التي أظهرت أن أسلوبه القصصي جديد ومغاير لما هو مألوف في القصة اليمنية، كما أننا لم نجد نوعاً من التقليد أو تتبع أسلوب كتاب سبقوه من كتاب القصة القصيرة اليمنية.إن قراءة نقدية متعمقة لقصصه التي تجاوزت الثلاث عشرة مكنتنا أن نلمح إلى أنه لم يتأثر تأثيراً مباشراً بأية مدرسة أو مذهب من مذاهب الأدب بحسب ما شرح لنا الدكتور محمد مندور في كتابه الموسوعة ( الأدب ومذاهبه ) وكذا الدكتور رينيه وليك في كتابه ( مفاهيم نقدية) ربما هو أقرب إلى واقعية بلا ضفاف لغارودي كما أنه لم يكن حرفياً بقدر ما هو أقرب وبخصوصية يمنية إلى أدب أمريكا اللاتينية المعروف بأدب الدهشة يمكننا القول أن قصصه المدهشة هي في ذات الوقت استشرافية مستقبلية تلعب اللغة الساحرة الدور الرئيسي في قصصه فهي لغة ترميزية حبلى بالأساطير والخرافات الشعبية المتوارثة في وجدان الشعب وعلى مدى تاريخه الحضاري الطويل لتنبئ عن شيء مغاير.. رسالة عفوية يقول الدكتور عبد العزيز المقالح وهو يتحدث عن قصة ( مدن العصافير الخضر) " نحن أمام قصة رمزية تخصنا كما تخص غيرنا من عرب القرن العشرين حيث الحدود تصطدم العيون والمشاعر لتؤكد بلسان الواقع الردئ أننا أمة (فاضلة) لا تكف عن السعي إلى تجزئة واقتطاع أواصر وحدتها " وتأكيداً على ما كتبه الأستاذ المقالح يضيف الناقد الأدبي فيصل حسين صوفي " يعتمد القاص حسين السيد لإطارها الخارجي – الشكل – الايجوري المشبع بدفء الأجواء الملحمية (الأسطوري) نلمح توظيفاً درامياً جديداً لهاجس الحلم اليمني في الانعتاق من عبودية الخشبة باستخدام عدد من عناصر الإيحاء الرمزي والتأثير النفسي إلى جماليات التراث الشعبي والفلكلوري والأسطوري التاريخي مما أضفى على تخصصه نكهة جمالية متميزة تدفع صاحبها بخطى ثابتة نحو استشراق آفاق بكر جديدة في عالم الإبداع القصصي ".وهناك في جريدة الاتحاد الظبيانية العدد 5792 23 ماية 1990م كتبت الناقدة الأدبية سميحة علي : يقول حسين السيد " حين كانت الوحدة حلماً أجسده في قصصي تعمدت أن أتناولها لأكياسة بل من الجانب الاجتماعي والتاريخي والأسطوري فأنا ارتكز إلى تاريخ آلاف السنين . لا أشك أن حسين السيد يحاول أن يكون أميناً على تصوير المجتمع اليمني بملامحه الخاصة وتجربته الاجتماعية لهذا يظل القاص حسين علامة خاصة في القصة اليمنية نظراً لصدق المواجهة بين العمل الأدبي من ناحية وبين أنماط شخوص المجتمع وسلبياته وصورته الحقيقية من ناحية أخرى.تلك مقتطفات من كبار النقاد في اليمن وخارجه أردنا أن نوظفها في سياق موضوعنا فمنذ الوهلة لقراءة قصصه نشتم رائحة الواقعية المدهشة والتوظيف الرائع للهجة الدراجة في الحوار بين أبطاله الشعبيين كما خبرناهم في الواقع وبالذات في مدينة عدن ذلك الحوار ذو الألفاظ السوقية إذا جاز التعبير فهي ألفاظ قذرة وبذيئة وإباحية كيف لا ولغة (العرعار) هي لغة المدينة الساحلية بعفويتها وفوضويتها وترميزاتها التي لا تفهم إلا في سياق الحوار ونسق المضمون، إن هذه الواقعية التي تظهر في السطح هي في ذات الوقت تكاد تكون إذا جاز لنا التلميح سريالية في الأعماق بعيدة ومستعصية على الفهم لكنها تحمل تناغماً رائعاً بين الواقعية والسريالية تمتد في أعماق التاريخ وتعود بنا إلى اللحظة وهو ما يسمح لنا أن نعتبرها نوعاً من أنواع الهارموني يصعب استصاغتها من الوهلة الأولى إنها سهلة وصعبة في آن.يعود حب القاص حسين السيد لشخوص الميثولوجيا ولعه الشديد بالتاريخ اليمني القديم واعتقاده العميق بأن التاريخ ليس شيئاً ماضياً وأحداثه وقعت من زمن بعيد وأبطاله ليسوا شخوصاً مضوا لكنه يرى أن الحاضر هو استمرار للماضي وأن ذلك الماضي بجميع تركيباته ما زال حياً ومؤثراً على الحاضر وأن ما يحدث الآن ما هون إلا امتداد لذلك الماضي لأن المدينة التي بنيت على امتداد آلاف السنين تعتبر اليوم ذاكرة للأجيال المتتالية.. بسمات عمرانية وحياتية ونفسية وبيئية تتشكل ما يسمى بالوعي المدني (الحضاري) الثقافي.إن الخروج كلياً من التاريخ بمعنى الماضي البعيد هو خروج عن العقل لأن العقل هو خبرة امتداد يتجدد لهذا يرى صديقي حسين أن الماضي وشخوصه مازالوا أحياء ومؤثرين في الحاضر وشخصيات الحاضر هم أنفسهم الذين كانوا يعيشون في الماضي وإن اختلفت الطبائع كما يقول ابن خلدون لهذا نجد شخصيات تعود للحياة في قصصه وبنفس أسمائها القديمة وتتحرك بشكل مؤثر على أحداث معاصرة وهذا التداخل الهارموني يعطى قصصه معاني وصوراً تربط الماضي بالحاضر بشكل فني فلسفي جميل لا نفقد فيه النسق والانسياب الإبداعي أي إعادة إنتاج التاريخ بعد نقده وإبراز ما هو إيجابي وإنساني في ذلك الزمان وافتراضي في الزمن الراهن لأن أعظم ما في الفن هو تخليد اللحظة العابرة إلى أبدية.. لأن وظيفة الفن والأدب هي إعادة إنتاج الحياة الواقعية اللحظة والماضي باللغة لأن اللغة أصبحت حياة.. أصبحت مجازاً وصوراً يعيشها العقل الذي واءم اللغة مع الصورة. كان في الماضي للإنسان القديم اختلافاته اللامعقولة وخرافاته وتأملاته اللامحدودة وأسئلته المحيرة وها هو يعيد الماضي مختلفاً صوره التي تتحرك بإيقاعاته الهارمونية فإذا أخذنا هذا المقطع الهارموني من قصة (رمبص) أولى قصصه.. حوار سمار الظلام :الأول : الشعب زلزلزلة عاتية.الثاني : علشان لاه أذلوه وبكوه.الثالث : ما أجمل صانونة الهواء.الأول : أيهما أسرع يا شطار السلحفاة أم الحمار. الثاني : طبعاً الدجاجة قبل البيضة.الأول بسة بيضاء خلقت عوري أسود.الثاني : زانية ومحصن ترجم حتى الموت.الثالث : ناقة البسوس.الرابع : مفهوم تشتي تقول أن الدودحية ألفها هوميروسالخامس : تقتضي الحكمة على الأعرج أن لا يكسر عكازه على رأس عدوه.الرابع : سرحت أمه.الأول : زمن عجيب وغريب.. بسة تأكل بامية وتحلي بالطاحونية.. وكلب يأكل خبزاً وشاياً ملبناً.. وبدوي يبيع صيداً.أما في مدن العصافير الخضر فقد استحضر أشهر ملوك اليمن القديم (ثأران) الموحد العظيم كما سماه فكان لحضوره أثر على العصفور الأخضر الذي كان يبحث عن أمه في مدن الجنوب لتزيل له خشبة التسطير وهي أصغر قصة لأطول زمن إذ تمتد على مدى ثلاثة ألف عام في عمق التاريخ لتوظفه في تحقيق الحلم اليمني.قد أبالغ إذا قلت إن نهايات قصص حسين السيد الاستشرافية قد تحققت بشكل ما كما هي نهاية قصة ( الناعسة والقمر) وكذا نهاية قصة (رمبص) ونهاية قصة (حمى داخلية) أما قصته الشهيرة والتي حصلت على جائزة أفضل قصة في استفتاء قامت به مجلة عدن عام 1989م كما قامت مجلة دراسات يمنية بنشر أهم أبرز خمس قصص يمنية كانت من بينها قصة (رمبص).وبالنسبة لقصة ( مدن العصافير الخضر) فكانت نهايتها مفتوحة على التاريخ القادم لليمن بعد الوحدة مع إنها كتبت في بداية الثمانينات ولا أدعي أنني توصلت إلى ما رمي إليه في قصتي (نورية) ومدن العصافير المفتوحة نهايتها على تاريخ المستقبل مع أنني أجزم أن نورية هي قصة تاريخ مدينة عدن كما في رواية جورج أمادو البرازيلي (تريسا باتستا) ويمكن للقارئ الكريم إذا ما قرأ الرواية والقصة قد يحد تشابهاً في جوهر ومضمون الفكرة مع اختلاف أسلوب كل منهما والزوايا الفنية واللغة التي استخدماها فالأول باهيا البرازيلية التي صنعتها خيال عدن موازية لعدن الواقعية تريسا أمادو تعذبت وقاومت وكذلك نورية ومعروف أن حسين السيد لا ينكر تأثره بأدب أمريكا اللاتينية وبحسب تعبيرنا أدب الدهشة وليس سهلاً أن تدهش القارئ.وأنا هنا لا أخفي حبي (لسحس) كما تسميه الصوماليات حيث يعيش في البساتين ذلك الحي الذي يشبه الأحياء الشعبية الإفريقية تتعايش عدة جاليات افريقية يخالطهم ما يسمونهم (اليمنيين الموالدة) أي الذين ولدوا في القارة الإفريقية وعادوا إثر الحروب الأهلية وبالذات في شرق القارة السوداء مكونين خليطاً هجيناً أسر مخيلة قاصنا الذي سبق ووصفته بـ (زوربا) اليمن وكتب عنه وعن حياته باسم مستعار (حسن) البروفسور اليمني والروائي المعروف حبيب سروري في روايته الأخيرة (طائر الخراب) التي جاء فيها وصف دقيق للحياة إفادة رواد منتدى الطيب حيث حكى حسين قصة حياته بشفافية عالية كان يومها السروري ضيفاً على المنتدى.. قلت إنني أحبه ومع هذا اختلف معه فيما يخص حبه اللامتناهي لشخوص الميثولوجيا اليمنية في عمق التاريخ واعتقاده بأن التاريخ ليس شيئاً مضى قد يكون ذلك صحيحاً لكن أن تستحضر تلك الشخصيات التاريخية والأحداث بصورة مطلقة ومكثفة قد تستعصي فهماً على القارئ غير المتخصص في التاريخ كذلك الرمزية الغامضة بالذات في قصة (حمى داخلية) التي عقد الغربان فيها مؤتمراً لوقف محاولات سكان المدينة من إبادتها بتفاصيل لا تتواءم مع بناء القصة القصيرة إذ هي أقرب إلى كتابة الرواية التي تكون للتفاصيل الدقيقة أهمية قصوى.. لنا ملاحظات كثيرة لا يتسع لها المجال والمناسبة لعيد ميلاده السادس والستين. وإذا كان من حسنة تحسب له فهي الرؤية الاستشرافية للمستقبل التي بحسب قوله في جلسات ودية بيننا إن النهاية الاستشرافية لقصصه قد تحققت قد لا أشاطره الرأي فالقصة عليها أن تتنبأ دون شرح.. فإذا تركنا استشرافاته وواقعيته التي يصفها أيضاً بالدهشة وهو شخص محبوب بين أصدقائه ولا توجد لديه أية نوازع عدوانية كما انه يتقبل النقد حتى الذي يقسو عليه بحجة أنه في كلا الحالتين يستفيد لأن الآخرين ربما يرون ما لا يراه هو لحظة الإبداع.. وصاحبي يعيش حياته (بوكة) وهي كلمة هندية تعني عش يومك ودع الغد للغد وهو غير مبالٍ بمباهج الدنيا كما يقول " علبة فاصوليا أو فول صيني تكفي لإطعامه يوماً كاملاً لكنه على استعداد أن يصرف راتبه كاملاً لشراء هدية لصديقه يعجب بها أو حتى لصديق يحتفي به وإذا أخذناه متحدثاً فهو لبق ومثقف غير عادي ومستمع جيد وفي الحالتين تبدو بساطته بعيداً عن التكلف..تشهد له منتديات عدن التي يقرأ فيها بين الحين والآخر أحدث قصة قصيرة له ولأنه يعزني ويحبني في صداقة جمعت بيننا منذ الستينات يتجرأ أحياناً بقراءة بعض مقاطع من فصول من روايته التي لم تطبع بعد (نرجيلة الشيطان) التي يحكى فيها تاريخ مدينة عدن وعلى مدى سبعين عاماً وفي عبارة ساخرة في إحدى مقاطع الرواية كيف كانت شخصيات عدن البارزة تتبادل سلمياً الكؤوس المثلجة وكذلك الهويات والعشيقات على اعتبار أنها الحرية في أرقى مراحلها.. أتمنى أن ينتهي مما يسميه التبييض النهائي للرواية وأن ترى النور فأتوقع لها رواجاً غير عادي لما فيها من شفافية لتاريخ المدينة.إن الكتابة عن سيرة حسين السيد قد تبدو سهلة في سطحها لكنها عميقة وعميقة جداً إذا ما قورنت بسيرته الذاتية في قصته الطويلة الأخيرة والتي أيضاَ لم تنشر بعنوان (إحالة للتقاعد) التي يتذكر فيها طفولته بتفاصيل من الصعب على كاتب في عمره الذي يدخل غداً السادس والستين أن يتذكرها على لسان جنية ساحلية أعجبت به.أخيراً أتمنى له السعادة وبالطريقة التي يراها ويعجب بها وأتمنى أن يوفق في طبع أعماله الكاملة حتى يرتاح في تقاعده براتب يوازي راتب منظف من الدرجة السابعة.هلا سامحتني سحس وآمل أن أكون اقتربت منك نوعاً ما صديقك المنكد