لــــــــحــــــج
[c1] غدت سلطنة لحج بعد احتلال بريطانيا لعدن أهم السلطنات التي تعاملت معها بريطانيا بتميز من أجل تأمين مصالحها في عدن[/c]محمد زكريا في تقرير سري كتبه بيوتي نائب المقيم السياسي البريطاني في عدن إلى المندوب السياسي في القاهرة وذلك بعد انسحاب علي سعيد باشا قائد القوات العثمانية في اليمن من لحج بناء على شروط استسلام الدولة العلية العثمانية من اليمن بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى هي وحليفتها ألمانيا القيصرية سنة 1918 م على يد بريطانيا، يقول بما معناه: " لقد أثبتت الأحداث والوقائع التي لا تقبل الشك إبان استيلاء العثمانيين على لحج . بأن لحج سلطنة العبادل تعد بوابة عدن وخط الدفاع الأول والعمق الإستراتيجي لها " .[c1]قصة لحج مع بريطانيا[/c]ذلك التقرير السري الذي بعثه بيوتي نائب المقيم السياسي في عدن في 15 رمضان 1337هـ / 13 يونيو119م إلى المندوب السامي في القاهرة ، يعطينا صورة واضحة عن مدى أهمية لحج للقوات البريطانية المحتلة لمحمية عدن, ونستخلص من ذلك أنه كان هناك ارتباطا وثيقا بين لحج وعدن أو بمعنى آخر أنه إذا ساد الاستقرار والهدوء في سلطنة العبادل في لحج أنعكس ذلك إيجابيا على استقرار الأوضاع في عدن .وفي الواقع أن قصة لحج مع بريطانيا ، قصة مشحونة بالأحداث السياسية الخطيرة وذلك على الصعيد الداخلي حيث كانت في كثير من الأحيان تطل الفتنة والقلاقل بوجهها على لحج وذلك بسبب الصراع على كرسي السلطنة . وأما فيما يتعلق الأمر بالعلاقة بين سلاطين العبادل وبريطانيا . فقد كانت بين شد وجذب أو بالأحرى تارة يسودها التوتر والاضطراب وتارة أخرى يسودها الود والتفاهم العميقين . [c1]دراسة سعودية قيمة[/c]والحقيقة أن تلك العلاقة بين سلطنة لحج وبريطانيا جذبت الباحثة السعودية الدكتورة دلال بنت مخلد الحربي ـ أستاذ مساعد في قسم التاريخ والحضارة كلية التربية والبنات بالرياض ـ لتأليف كتاب بعنوان (( علاقة سلطنة لحج ببريطانيا 1337 ـ 1378هـ / 1918 ـ 1959 )) . فالكتاب يبلغ مساحته الزمنية أكثر من أربعين عاما وتلك المساحة الزمنية حفلت وملئت بالقضايا السياسية الهامة والخطيرة المختلفة على مسرح لحج وعدن . وكيفما كان ألأمر ، لقد صارت لحج الشغل الشاغل في تفكير الساسة والعسكريين البريطانيين في كيفية ربطها بعلاقة قوية ووثيقة بـمستعمرة عدن , سندريلة الإمبراطورية البريطانية وخصوصا بعد الحرب العالمية الأولى التي فتحت أبصار صاحبة حكومة الجلالة البريطانية بأن لحج تمثل العمق الإستراتيجي العسكري والسياسي لمستعمرة عدن . ولقد تتبعت دلال الحربي ظهور سلطنة العبادل على سطح الحياة السياسية في اليمن ، أبتداءا من الدولة الطاهرية ( 858 ـ 945 هـ / 1454 ـ 1538 م ) التي كان المسيطرة على مسرح اليمن السياسي خلال القرن التاسع الهجري / القرن الخامس عشر الميلادي. وتميزت دراستها بالعمق ، وترابط الأحداث التاريخية ترابطا قويا محكما وعرضها الجيد مع لغة عربية مشرقة . [c1]سلاطين لحج وعدن[/c]والحقيقة التاريخية أن عدن كانت تابعة لسلطنة لحج أو بعبارة أدق كانت خاضعة تحت نفوذ العبادل وكان عبارة (( سلاطين لحج وعدن )) تطلق عليهم قبل أن ينقض الاحتلال البريطاني على عدن ، ويسلخها من لحج . ولقد فرضت تلك الحقيقة التاريخية على الساسة والعسكريين في حكومة صاحبة الجلالة ، أن يعيدوا النظر في أسلوب وطريقة التعامل مع لحج أو بالأحرى مع سلاطين العبادل ـ كما قلنا سابقا ـ . وهذا ما حدث بالفعل بعد خروج القائد العثماني علي سعيد باشا من لحج سنة 1918 م . [c1]حجر الزاوية[/c]وتوضح الدكتورة دلال الحربي الأسباب التي جعلت لحج تعد أهمية خاصة لعدن أو بعبارة أخرى لماذا لحج بوابة عدن ؟ ، فتقول : " كانت سلطنة لحج واحدة من أهم سلطنات ومشيخات الجنوب العربي لأسباب من بينها أنها واحة زراعية كانت تمد المناطق المجاورة لها بما في ذلك عدن والسفن المارة بها بما تحتاج إليه من الفواكه والخضروات في مقابل عائد مالي وفير ن كما أنها كانت تقف حاجزا بين عدن واليمن الشمالي ( أي الإمام يحيى ) ، إضافة إلى سبب آخر وهو الأقوى هو أن عدن ذات الموقع الاستراتيجي كانت جزءا منها الأمر الذي أضفى عليها أهمية استراتيجية وأدخلها في دائرة الصراع الدولي حول النفوذ والسيطرة على منطقة جنوب شبه الجزيرة العربية ومدخل البحر الأحمر في العصر الحديث ". وتضيف قائلة : " ... ثم أنها ( أي سلطنة لحج ) غدت بعد احتلال بريطانيا لعدن أهم السلطنات التي تعاملت معها بريطانيا بتميز وبطابع خاص من أجل تأمين مصالحها في عدن ، ولتحقيق الاستقرار لظهير عدن ( المحمية ) الذي يكفل هو الآخر جانبا كبيرا من الهدوء لعدن ، إضافة إلى المحافظة على وضعها الخاص لتكون حاجزا بين اليمن وعدن ، ولذلك ظلت سلطنة لحج عبر مراحل تاريخها الحديث حجر الزاوية للسياسة البريطانية في الجنوب العربي " . [c1]لحج والبرتغاليون[/c]ومع أخفاق دولة بني طاهر في التصدي للبرتغاليين في البحر الأحمر ، فضلا عن القلاقل والفتن والاضطرابات التي اشتعلت في كل مكان من مناطق نفوذها كان من نتائجها خروجها من مسرح اليمن السياسي . والجدير بالذكر أن المعارضة الداخلية كانت من الأئمة الزيدية الذين تحالفوا مع المماليك لضرب الأسرة الطاهرية والقضاء عليها . والحقيقة أن المماليك تمكنوا بمساعدة الأئمة الزيدية من بسط سيطرتهم على غالبية اليمن , ولكن لحج وعدن لم تقعان تحت سيطرتهما . وتشير دلال الحربي إلى معلومة هامة وهي أن البرتغاليين فرضوا معاهدة قاسية على ولحج وعدن في سنة ( 944 هـ / 1536م ) وبذلك أصبحت لحج جزءا من أملاك البرتغاليين ، والتزمت عدن بدفع جزية سنوية إلى البرتغاليين .[c1]لحج والأئمة الزيدية[/c] ولكن تلك المعاهدة لم تدم طويلا ، إذ نجح العثمانيين من فرض سيطرتهم على لحج وعدن وذلك في 7ربيع الأول 945 هـ / 13 أغسطس 1538 م ) . وأخذت الأحداث تأخذ منحى عنيفا بين العثمانيين والأئمة الزيدية في المناطق الشمالية , وبعد صراع دامي وطويل ومرير قاده الإمام القاسم المتوفى سنة ( 1029 هـ / 1620 م ) ومن بعده ابنه المؤيد ضد العثمانيين اضطروا إلى الخروج من اليمن , وبذلك ملأت الإمامة الزيدية الفراغ السياسي في اليمن برحيل العثمانيين منه أو بمعنى أدق أن الإمامة الزيدية بسطت نفوذها على جميع مناطق اليمن ومن بينها لحج وعدن واللتين كانتا من أملاك العثمانيين . وهنا ربما مناسبا أن نورد ما ذكرته الدكتور دلال الحربي في روايتها حول وقوع لحج وعدن لأول مرة تحت نفوذ الإمامة الزيدية ـ بعد رحيل العثمانيين عن اليمن ـ ، إذ تقول : " واستفحلت حدة الصراع بين العثمانيين من جهة وأئمة الزيود في اليمن وبعض حكام أسفل اليمن من جهة أخرى ، مما جعل الأمور لا تجري على مراد العثمانيين في حكمهم لليمن الذي امتد إلى سبعين عاما تقريبا ، إذ شعروا بخطر أئمة الزيود ونشاط قوتهم ، مما أجبر العثمانيين على الجلاء عن اليمن عام 1045 هـ / 1635 م " . ولتظهر دولة مركزية جديدة تضم كافة أنحاء اليمن عاصمتها صنعاء ، ولتصبح عدن ولحج تحت نفوذ الأئمة الزيود في عام 1065هـ / 1654 م على يد الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم ( 1054 ـ 1087هـ / 1644 ـ 1676 م ) وكانت هذه المرة الأولى التي تخضع فيها مناطق أسفل اليمن لنفوذ الأئمة الزيود ". [c1]علم المشيخة اللحجية[/c]ولكن سيطرة الأئمة الزيدية على لحج وعدن لم يدوم طويلا ، إذ ثارت لحج في وجوههم ، وأعلنت الانسلاخ عن حكمهم في سنة ( 1145 هـ / 1732 م ) وذلك بقيادة فضل بن علي " ... وصارت بلاد لحج جميعها تحت حكمه وحكم خلفائه من بعده . وبذلك تكون مشيخة العبادل أقدم المشيخات التي تأسست في الجزء الجنوبي الغربي من شبه جزيرة العرب . وكانت تعرف بسلطنة العبادل أو العبدلي ،ثم بسلطنة لحج ، ثم غدا استخدام الاسمين شائعين ". وبعد انسلاخ فضل بن علي من الأئمة الزيدية ، جعل الحوطة عاصمته مشيخته الجديدة . ولقد أتخذ من مشيخته علما خاصا بها ، وفي هذا الصدد ، تقول دلال الحربي : " اتخذ فضل بن علي من الحوطة عاصمة لمشيخته التي كانت تعرف أيضا باسم لحج ، وتركز فيها رجال السلطنة وإدارات الحكومة ، وبالإضافة إليها كان هناك العديد من القرى التي تتبع المشيخة من أشهرها الوهط والحمراء " وتضيف ، قائلة : " وتأكيدا على استقلال السلطنة اتخذ لها علما أحمر اللون مكتوب عليه باللون الأبيض عبارة (( لا إله إلا الله محمد رسول الله )) ثم رسم الهلال وبجواره الجنبية " . [c1]الطريق إلى السلطنة [/c]وبعد مقتل فضل بن علي مؤسس المشيخة العبدلية في لحج في سنة ( 1155 هـ / 1742 م ) خلفه ابنه عبد الكريم في الحكم ، وحول المشيخة إلى سلطنة " ليجعل لنفسه ولبلاده مكانة أعظم وأقوى " . [c1]المعاهدة المبكرة[/c]وتكشف دلال الحربي معلومات هامة حول العلاقة المبكرة بين السلطان أحمد عبد الكريم العبدلي المتوفى سنة ( 1234 هـ / 1818 م ) وبريطانيا ، حيث تم التوقيع على معاهدة للصداقة والتجارة بينهما وذلك في 9 جمادي الأولى 1217 هـ / 6 سبتمبر 1802 م . وعقبت دلال الحربي على تلك المعاهدة ، بقولها : " وتعد هذه المعاهدة البداية الفعلية للتدخل البريطاني في شئون سلطنة العبادل ، وتقليص دور سلاطينها " . والحقيقة أن السلطان أحمد عبد الكريم عرض على بريطانيا تقديم عدن هدية بشرط أن تحميه وتحمي سلطنته من الأخطار المحدقة بهما , ولكن هذا العرض السخي رفض من البريطانيين . وهنا ربما مناسبا أن نورد ما ذكرته دلال الحربي في روايته عن تلك الواقعة التاريخية ، إذ تقول : " وقد حاول السلطان العبدلي أحمد عبد الكريم استغلال الموقف فعرض على قائد القوة البريطانية تقديم عدن هدية لبريطانيا مقابل حمايته من غزو السلفيين المرتقب " . وتمضي في حديثه ، فتقول : " غير أن الحاكم العام للهند رفض هذا العرض اعتقادا منه بعدم صلاحية عدن لتكون مركزا تجاريا أو قاعدة حربية أو بحرية ". وفي الواقع لا نستطيع أن نتفق مع رأي الدكتور دلال الحربي حول ما قالته بأن السلطان أحمد عبد الكريم طلب من بريطانيا تقديم عدن مقابل حماية سلطنته من " غزو السلفيين المرتقب " ـ على حد قولها ـ وفي الحقيقة أن السلطان أحمد عبد الكريم قبل أن يتولى حكم السلطنة كان خارج سلطنة لحج في عهد سلطانها عبد الكريم العبدلي أو بمعنى آخر كان لاجئا عند شريف مكة ، وهذا دليل بأن أشراف مكة حينذاك كانوا يتمتعون بنفوذ ديني قوي و مسيطرين على الأمور السياسية في بلاد الحجاز , وأما السلفيين ( أي الوهابيين ) فلم تكون لهم شوكة ومقدرة على سيطرة الأحداث على مسرح بلاد الحجاز السياسي بالصورة الفعلية يرهبها السلطان أحمد عبد الكريم . والحقيقة لقد كان للأشراف وقتئذ الكلمة العليا والمسموعة في بلاد الحجاز , ودليل ذلك لجوء أحمد عبد الكريم إلى شريف مكة , وعندما مرض السلطان عبد الكريم مرض الموت ، فإن شريف مكة طلب من ألأخير أن يعود أحمد عبد الكريم دون أن يتعرض لأي أذى . وبالفعل عاد إلى سلطنة لحج , ولم يمر وقت طويل حتى أعتلى عرش سلطنة لحج . وفي الحقيقة أن السلطان أحمد عبد الكريم لم يعرض على قائد القوة البريطانية تقديم عدن للبريطانيين مقابل حمايته من الوهابيين , وإنما أقترح عليهم أي البريطانيين أن تكون عدن قاعدة دائمة للبريطانيين لأن ذلك سيعمل على انتعاش الحياة التجارية فيها . وهنا ربما يكون مناسبا أن نقتبس فقرة من كلام الأستاذ حسن صالح شهاب عن اقتراح السلطان أحمد عبد الكريم للبريطانيين بأن تكون عدن قاعدة عسكرية دائمة لهم : " ويقال أن السلطان أحمد اقترح على قائد القوة البريطانية ـ الذي كان متمركزا في جزيرة ( بريم ) أي ( ميون ) ـ الدخول ف حلف مع بريطانيا ، وأن تكون عدن قاعدة دائمة لقواتها ، لكن اقتراحه رفض ". وفي الواقع أن السلطان العبدلي أحمد عبد الكريم كان لديه بعد سياسي ونظرة ثاقبة حيث أدرك تمام الإدراك أن القوة الحقيقية في المنطقة ( البحر الاحمر ) هي بريطانيا , وأن صداقتها يعني تجنب سلطنته من الاضطرابات والقلاقل السياسية من ناحية، وتقوية مركزه في الداخل ( القبائل المناوئة له مثل الحواشب والعقارب العوالق ، والعوازل ، والسلطنة الفضلية ) من ناحية ثانية والعمل على انتعاش الحياة التجارية في عدن وازدهار الزراعة في لحج من ناحية ثالثة. [c1]لحج والكابتن هينز[/c]وفي عهد السلطان محسن فضل بن محسن فضل المتوفى سنة ( 1263هـ / 1847 م ) شهد ت العلاقات اللحجية البريطانية توترا شديدا أدى في نهاية الأمر إلى الصدام المسلح بينهما انتهت باحتلال بريطانيا لعدن وانسلاخها من جسد السلطنة اللحجية ( 1255هـ / 1839 م ) . ولقد عقب حسن صالح شهاب على ذلك ، بقوله : " وهكذا انسخلت عدن عن سلطنة العبادل ، وكان الاستيلاء عليها بالقوة قد تم بأمر هينس قبل أن تأمر به السلطات العليا في كل من بريطانيا والهند ، فخبر الاستيلاء عليها وصل إلى حاكم ( بومباي) في نفس الوقت الذي وصل فيه إليه أمر لندن بأخذها عنوة " . والحقيقة لم يستسلم السلطان محسن فضل من من انتزاع عدن من يد البريطانيين ولكل كل تلك المحاولات باءت بالفشل الذريع , وظلت تلك العلاقة متوترة بين السلطان محسن والكابتن هينز حتى وفاته .[c1]تحسن العلاقة اللحجية البريطانية[/c] وتولى من بعده ابنه أحمد محسن فضل الحكم , المتوفى سنة ( 1265هـ / 1849م ) وفي عهده شهدت العلاقة اللحجية البريطانية انفراجا كبيرا أي تحسنا ملحوظا . وهنا ربما يكون مناسبا أن نقتبس فقرة من كلام حسن صالح شهاب عن تحسن العلاقة اللحجية البريطانية في السلطان أحمد محسن : " بوفاة السلطان محسن فضل زال عائق التفاهم بين لحج وعدن ، فقد كان العداء العميق بين السلطان محسن وهينس حائلا بين التفاهم ، وحسن العلاقة بينهما . لذلك بادر هينس حال وفاة السلطان وتولي ابنه أحمد السلطنة إلى الكتابة إلى رؤسائه في بمباي عن نيته في تشجيع السلطان الجديد ، ومساندته في إخضاع القبائل من حوله ، ليضمن بذلك الأمن والاستقرار في المناطق المجاورة لعدن " ونلاحظ أن الشغل الشاغل أن حجر الزاوية في تفكير البريطانيين سواء كانوا سياسيين أو عسكريين هو أن يسود لحج الأمن والاستقرار وبالتالي سينعكس ذلك إيجابيا على محمية عدن . وهذا ما جعل المقيمين السياسيين البريطانيين يطلقون على سلطنة لحج بوابة عدن . [c1]لحج والحرب العالمية الأولى [/c]وتندلع الحرب العالمية الأولى بين بريطانيا وحلفائها من جهة والدولة العلية العثمانية وحليفتها ألمانية القيصرية من جهة أخرى في سنة ( 1332 هـ / 1914 م ) . ولقد وضع العثمانيين والألمان في تلك الحرب خطط غايتها الاستيلاء على كل من قناة السويس ، مصر ، وعدن والسيطرة على ثغور البحر الأحمر . ولقد نشط العثمانيين في عملية نقل السلاح من استنبول إلى ميناء الحديدة استعدادا للزحف على عدن وتحريرها من قبضة البريطانيين . وتعقب الدكتورة دلال الحربي حول خطة العثمانيين الطموحة وغير الواقعية بطرد البريطانيين من عدن ، فتقول : " غير أن هذا التصور من قبل العثمانيين كان في الواقع بعيدا عن الصواب لأن الدولة العثمانية بخبرتها المحدودة في شبه الجزيرة العربية كانت لا تستطيع البتة زحزحة أقدام البريطانيين الحصينة عي عدن عن طريق البر ، أما عن طريق البحر فلا يمكن التفكير فيه البتة لعدم وجود أي أثر للأسطول العثماني في البحر الأحمر". [c1]العثمانيون قادمون [/c]والحقيقة كان على سعيد باشا قائد القوات العثمانية في اليمن يدرك تمام الإدراك أن الاتجاه مباشرة إلى الإنجليز هو الاستيلاء على لحج بدلا من عسير ورغم أنها تعتبرميدان حرب . وهنا ربما مناسبا أن نقتبس فقرة من كلام الدكتور سيد مصطفى عن سبب اختيار القائد علي سعيد باشا ميدان لحج بدلا من عسير : " ... اتجه سعيد باشا إلى لحج دون عسير ... وإن كانت كل منهما تعتبر أرض حرب ، وكان من الممكن أن يهاجم عسير ، ليحرم الإنجليز من التحالف مع الإريسي أولا ، وليمعنهم من استعمالهم لموانيه في محاصرتهم ثانيا ، ولكنه فضل الميدان الثاني في الجنوب حتى يهاجم عدوته هجوما مباشرا " . وهناك رواية تقول أن علي سعيد باشا بعث إلى السلطان علي أحمد سلطان لحج يستأذنه بالمرور عبر بلاده ، ويعده بالمحافظة عليه وعلى ملكه ، فأبى السلطان علي لأنه كان حليفا لبريطانيا وخاضعا لحمايتها . والحقيقة أن تلك الرواية تحتاج إلى الوقوف عندها وتمحيصها. والحقيقة لقد كانت هناك نية مبيتة من قبل علي سعيد باشا قائد القوات العثمانية في اليمن هو الاستيلاء على لحج . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى حول تفكير علي سعيد باشا العسكري هو الهجوم مباشرة إلى الإنجليز وذلك من خلال السيطرة على لحج ومن ثم على عدن ، وطرد الإنجليز منها. ولكن من المرجح أن القائد العثماني أراد أن يجد حجة للاستيلاء على لحج حيث كان متأكدا من تحالف سلطان لحج مع البريطانيين وأنه لن يقبل عرضه بالمرور عبر بلاده ، مما يضطره إلى أخذها بالقوة , وكان ذلك بالفعل . [c1]ودقت طبول الحرب [/c]في الوقت التي كانت طبول الحرب تدق بقوة بالقرب من سلطنة لحج لم تحرك بريطانيا ساكنا ، ولم تمد يد العون للسلطان علي بن أحمد لحماية سلطنته من أية تدخل خارجي حسب المعاهدة المبرمة بينه وبين البريطانيين . ولكنها تخلت عن تلك المعاهدة تماما ، عندما سمحت للقوات العثمانية بقيادة علي سعيد باشا بأن تزحف على لحج وتدخل عاصمة السلطنة . مما أجبر السلطان ( علي ) الحليف المخلص لبريطانيا أن يفر من وجه العثمانيين إلى محمية عدن , ولكنه في الطريق إليها تعرض إلى كمين من الجنود البريطانيين . كان من أثر ذلك أن أصيب بطلقات نارية مميتة وتوفى من أثرها. والواقع أن بريطانيا على الرغم من إدراكها بأن لحج بوابة عدن أو العمق الإستراتيجي لعدن أو خط دفاع أول لعدن . إلا أن صناع القرار في بريطانيا ، كانوا على ثقة أن القوات العثمانية لم ولن تستطيع زحزحة بريطانيا عن عدن وإنما كل ما تستطيع العمل به هو سيطرتها على لحج بهدف الخروج من ضائقتها الاقتصادية الخانقة " ويؤكد هذا ، ما قاموا به من استيلاء على المحاصيل والأغنام ــ كما عبر العبدلي عند دخولهم لحج " . ولقد عبر أحد أمراء بيت سلاطين لحج عن الأسباب الحقيقية التي دفعت القوات العثمانية السيطرة على لحج فقط ، وليس على عدن ، إذ يقول : " جاء هؤلاء الأتراك من أعالي جبال اليمن متيقنين بعجزهم عن أن يمسوا عدن الحصينة بسوء ، فلا يقصدون غير أذيتنا في بلادنا ". ومن الأسباب الأخرى التي دعت بريطانيا عدم مواجهة القوات العثمانية في لحج في إبان الحرب العالمية الأولى ، أنها رأت أن جبهة لحج العسكرية ليست من ميادين القتال الحاسمة والرئيسة والخطيرة في حروبها ضد الدولة العثمانية وألمانيا القيصرية التي يمكن أن تقلب موازين القوى العسكرية في ميادين القتال , وإنما الجبهة القتالية الحاسمة في موازين الحرب هي فرنسا ، وهنا ربما مناسبا أن نقتبس ما قاله الجنرال وليم ولتن قائد الجيش البريطاني في عدن عن تبرير بريطانيا بالتخلي عن لحج مؤقتا ــــ ولقد وجه منشورا إلى شيوخ وقبائل المحميات لتهدئة خواطرهم ــــ إذ يقول : " ليس لضعفنا امتنعنا عن حرب الأتراك الذين في لحج ، ولكن مملكة الدولة الإنجليزية واسعة جدا . ويلزمنا معاملة الميادين التي فيها العدو واحدا بعد آخر بالتعاقب بحسب الخطط التي وضعتها.. وعلى كل حال لن تكون الموقعة الفاصلة في أرض العرب بل هي في فرنسا " . [c1]العثمانيون في الشيخ عثمان[/c]وبعد أن استولى العثمانيون على لحج ، وزحفوا على الشيخ عثمان وسيطروا عليها فترة قصيرة مستغلين الفوضى التي سادت في معسكر البريطانيين و لكنهم سرعان ما انسحبوا بسبب الضغط العسكري البريطاني الكبير. وبعدها لم تحدث عمليات عسكرية كبيرة وإنما كانت مناوشات خفيفة سرعان ما تنطفئ جذوتها . ويصف الدكتور سيد مصطفى العلاقة العثمانية البريطانية بعد وقوع لحج بقضة العثمانيين والتي استمرت ثلاث سنوات ، فيقول في هذا الصدد : " فقد دفع تجمد الأوضاع جميع هذه الهيئات والفئات على الالتفات والبحث عن مطالب الحياة الضرورية ، والعمل على الحصول على مستلزماتها فبدأت الحالة تعود إلى مجراها الطبيعي . وبدأ الناس يعودون إلى الزراعة والتجارة واستئناف الحياة العادية (( لأن الأهالي والعساكر شرعوا يزرعون ويشتغلون فازدهرت بالاخضرار والثمار " . ويضيف قائلا : " بل الأكثر من ذلك أن القائد التركي سمح للقوافل بالمرور حرة إلى عدن ، لأنه يحصل بذلك على ضرائب انتقال ، وكان الإنجليز يسمحون بذلك أيضا ، وذلك بناء على ما قاله جيكوب : " لمصالح أصدقائنا الذين يعتمدون على عدن في الحصول على احتياجاتهم حتى لا تحدث كارثة " . ويوضح سيد مصطفى الأسباب الأخرى التي كان يستفيد منها الطرفين العثماني والبريطاني هو معرفة معلومات عسكرية عن الآخر ، فيقول : " وكان غرض الطرفين من ذلك لا يخلو من هدف عسكري ، وهو الحصول على معلومات عسكرية مفيدة من حيث تحركات كل منهما وقوته ، وعدد جنوده أو آلاته الحربية ، وكان رجال القوافل يقومون بذلك خير قيام . وعلى كل حال فقد عاد سير القوافل مرة ثانية قبل أن تنتهي الحرب رسميا ، واستفاد الطرفان من ذلك اقتصاديا وعسكريا ". [c1]صفحة جديدة[/c]ولقد مر بنا سابقا ، أن سلطان لحج علي بن أحمد توفى متأثرا بجراحه من أثر الطلقات النارية التي أطلقها الجنود البريطانيين عليه حيث ظنوا أنه من الأعداء العثمانيين . و بعد وفاته أعتلى كرسي السلطنة السلطان عبد الكريم الذي أول عمل قام به هو توجيه " احتجاجا شديدا إلى حكومة إنجلترا ،لأنها لم تقم بواجب المعاهدة التي بينها وبين أجداده ، فقبلت حكومة لندن الاحتجاج وعزلت حاكم عدن، وقائد الحامية فيها . وبعد هزيمة الدولة العلية العثمانية وحليفتها ألمانيا على يد إنجلترا ، وفرنسا . عاد السلطان عبد الكريم فضل بن علي ( الثاني ) إلى الحوطة عاصمة السلطنة اللحجية . وهنا ربما يكون مناسبا أن نقتبس فقرة من كلام الأستاذ حسن صالح شهاب عن مراسيم تولية السلطان عبد الكريم علي فضل ( الثاني ) عرش السلطنة اللحجية : " في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الاول من سنة 1337هـ ( ديسمبر 1918م ) أعاد البريطانيون السلطان عبد الكريم فضل بن علي محسن ، ومن كان لاجئا معه في عدن إلى لحج بعد جلاء الترك عنها ، وكان برفقته والي عدن ، اللواء استيورت ومساعده وجملة من ضباطه . وأقيم احتفال عظيم في الحوطة، رحب فيه والي عدن بجلوس السلطان على عرش سلطنته ، وأثنى في خطابه على اللواء علي سعيد باشا ، حيث قال إن قيادته للعساكر التركية أثبتت من البداية إلى النهاية أنه ( جندي ذو شرف وبسالة ) . وبتولية السلطان عبد الكريم فضل ( الثاني ) المتوفى سنة ( 1366هـ / 1947 م ) عرش سلطنة لحج ، تطوى صفحة وتفتح أخرى من العلاقة اللحجية البريطانية . [c1]الهـــــوامش [/c]الدكتورة دلال بنت مخلد الحربي ؛ علاقة سلطنة لحج ببريطانيا ( 1337 ـ 1378هـ / 1918 ـ 1959م ) ، الطبعة الأولى 1417 هـ / 1997 م ، كليه التربية للبنات ، الرياض ـ المملكة العربية السعودية ـ . حسن صالح شهاب ؛ العبادل سلاطين لحج وعدن ( 1145 ـ 1380 هـ / 1732ـ 1959 م ) ، مركز الشرعبي للطباعة والنشر والتوزيع ـ صنعاء ـ . الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ تكوين اليمن الحديث اليمن والإمام يحيى (1904ـ 1948 م ) ، الطبعة الثالثة سنة 1984 م ، مكتبة مد بولي ـ القاهرة ـ .Jacob, Kings of Arabia.