كان فتح مكة في العام الثامن من الهجرة، هو أخطر مكسب حصل عليه المسلمون طوال زمن البعثة والهجرة، تغير لأجله مجرى الأيام، واضحى حداً فاصلاً بين المدة التي تلته، والمدة التي سبقته.. وكانت قريش في نظر العرب هم حماة الدين الوثني وأنصاره، والعرب بحكم عرف الجاهلية تبع لقريش ! فخضوع قريش في فاصلة الفتح يعتبر نهاية للدين الوثني في كل جزيرة العرب. وعلى هذا قامت وفود العرب بالقدوم على الرسول صلى الله عليه وسلم - في سنة تسع للهجرة للإسلام والبيعة و الذي سمي بعام الوفود. وبعد فتح مكة، والتي استسلمت فيه قريش وأسلمت بسبب مباغتة الرسول صلى الله عليه وسلم - وجيشه لها على حين غرة ! امتنعت بطون هوازن وثقيف في الطائف عن الخضوع وقررت الحرب ضد جيش النبي صلى الله عليه وسلم - بقيادة مالك بن عوف النضري .وخاض النبي - صلى الله عليه وسلم - حرباً شرسة للغاية مع صناديد هوازن وثقيف لم يلق مثلها أبداً حتى كاد الجيش الإسلامي أن يهزم لولا مشيئة الله التي قضت بنصر المسلمين عليهم، حيث يقول القرآن الكريم في سورة التوبة: ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم، فلم تغن عنكم شيئاً، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وانزل جنوداً لم تروها، وعذب الذين كفروا ، وذلك جزاء الكافرين ) . وبعد هزيمة هوازن وثقيف شر هزيمة دامت خلالها المعارك ليالي وأياماً قليلة لكنها كانت صعبة للغاية تحولت فيه قبائل هوازن وثقيف إلى أسرى وغنائم حيث كانت غنائمها التي آلت إلى المسلمين المنتصرين أربعة وعشرين ألفاً من الإبل (!)، وأكثر من أربعين ألف شاة (!)،وأربعة آلاف أوقية من الفضة (!)، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - بجمعها، ثم حبسها بالجعرانة، وجعل عليها أميناً مسعود بن عمرو الغفاري ولم يقسمها حتى وضعت الحرب أوزارها في الطائف وهو ما يطلق عليه ( تطبيع الأوضاع). وفي الطائف بعد انهزام هوازن فرت بعض الفلول منهم إلى الطائف وتحصنوا بها فحاصرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أياماً ثم رفع الحصار بعد أن استعصى على المسلمين فتح حصونها وأمر بالرحيل عنها رحمة منه - صلى الله عليه وسلم - بأهلها وبجيشه من المقاتلين !!فرجع - صلى الله عليه وسلم - إلى الجعرانة ، ومكث بها بضع عشرة ليلة .. تم أخذ يقسم الغنائم بين المهزومين (!) .. نعم بين المهزمين من قومه وعشيرته وناسه .. فأعطى ابا سفيان بن حرب الذي أسلم يوم الفتح طليقاً، وقيل مكرها (!) أربعين أوقية فضة ومئة من الإبل (!) .. فقال : وابني يزيد ؟ فأعطاه مثلها (!) .. فقال : وابني معاوية ؟ فأعطاه مثلها (!) .. وأعطى حكيم بن حزام مئة من الإبل ثم مئة ثم مئة (!).. وأعطى الحارث بن الحارث بن كلده مئة من الإبل (!) .. وأعطى كل رئيس في قريش وغير قريش مئة من الإبل (!) ..وأعطى آخرين خمسين خمسين (!)، وأربعين وأربعين (!) .. حتى شاع في الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء من لا يخاف الفقر (!).. فازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتى اضطروه - صلى الله عليه وسلم - إلى شجرة ، وسقط منه رداؤه، فجعل يقول - صلى الله عليه وسلم : أيها الناس ردوا علي ردائي ، فو الذي نفسي بيده لو كان عندي مثل شجرة تهامة أنعاماً لقسمتها عليكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً ) . تم أمر - صلى الله عليه وسلم - زيد بن ثابت بإحضار ما تبقى من الغنائم، فقسمها بين الناس لكل رجل أربعاً من الإبل وأربعين شاة فإن كان فارساً أخذ ضعف ذلك. إن هذه القسمة كانت حكيمة للغاية .. فقد طالت فيها ألسنة شتى من الأنصار والمهاجرين الذين لم يحظوا بما حظي به المهزومون فوجدوا من ذلك في نفوسهم حتى طيب - صلى الله عليه وسلم - خواطرهم بقوله : أوجدتم في نفوسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير إلى رحالهم، وترجعون برسول الله - صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ فبكوا وقالوا رضينا برسول الله قسما وحظاً !! هذه الفقرات من الغزوة والغنائم ذكرها مفصلة ابن هشام في سيرته (2/449 /500 ) .. وروى مثلها البخاري (2/ 620/621 ) أن إنهاء كيان قائم في مكة والمدن التي تقع جنوبها كالطائف وحنين .. وإحلال كيان المدينة محلها .. ودخول مكة عنوة على حين غفلة من أهلها .. وصقر قريش ورؤسائها ورجالاتها .. وحرب هوازن وثفيف وإخضاع قبائل العرب للإسلام، وهو دين الحق الذي ارتضاه الله لرسوله - - صلى الله عليه وسلم - وامنه، أن كل ذلك ما كان ليتم بالقوة والسيطرة وإلغاء الآخرين وما كان ليعم الإسلام في كل أرجاء الجزيرة .. وما كانت وفود العرب لتصل تباعاً لتبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبارك له النصر المبين لو لم يكن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - قد حفظ للمنهزمين كرامتهم ورد عليهم أموالهم أضعاف اضعاف وأعاد دمج مجتمع في مجتمعين ، وما ترك فيهم سائلاً يجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بخيلاً او كذاباً أو جباناً !! حتى أغنوا غناء كريماً جداً من رجل يعطي كل من سأله أو تاقت نفسه إلى مال عطاء من لا يخشى الفقر أبداً !! وكانت هذه الحكمة درساً لكل العظماء في التاريخ أن ينحوا نحوه حتى يعرفوا طريق النصر ويعرضه النصر لهم (!) .. وما انتهت دول بني أمية والعباس وغيرهما نهايات مؤلمة الا ببطرهم على المهزوم وسلب كرامة المهزومين ونهب أموالهم ومصادرة حقوقهم باسم الجزية حتى ولو أسلموا وباسم الخراج وباسم الإتاوات وغيرها حتى تفككوا وتحصلوا .. وصدق الله القائل: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا )) .
هكذا لو ينتصر المنتصرون .. !!
أخبار متعلقة