أضواء
تقسيم النقد إلى (بناء) وآخر (هدام) فكرة اختلقها -كما يقولون- منظرو الأحزاب الشمولية في المعسكر الشرقي إبان ازدهاره. هذا التقسيم يعطي جلاوزة الحزب المبرر الأخلاقي، وربما القانوني -إن كان ثمة قانون يحترم - لأن يضربوا كل فكرة نقدية يريدون ضربها بحجة أن هذه الفكرة هدامة، أو أنها ليست بناءة. في حقبة أنظمة المعسكر الشرقي، كان الحزب الواحد، والمفاهيم السياسية المغلوطة التي أنتجها، أحد أهم الأسباب التي جعلت كل مكوناته المعرفية في أذهان شعوبه تنهار عند أول زلزال، وتستسلم للغزو القادم من المعسكر الغربي بيسر وسهولة فاجأت حتى الغزاة أنفسهم. ولأنها أنظمة تأبى (النقد)، وترفض التغير والإصلاح والمواكبة، ولأنها لا ترى نفسها من الخارج، وترفض أن ترى نفسها على حقيقتها من الداخل، نخر فيها سوس الثبات والتكلس والفساد المالي والإداري وهي لا تعلم، أو أنها تصر على ألا تعلم، أو بلغة أدق: تكابر، فكان سقوطها سريعاً ومدوياً وربما فجائياً، لأنها كانت في حقيقة الأمر مجرد نمر من ورق. الأحزاب الشيوعية الحاكمة في الكتلة الشرقية آنذاك كانت لا تسمح لأحد أن ينتقدها إذا كان خارج الحزب الحاكم. وتصر على أن يمر النقد - إذا كان ولا بد- من داخل الحزب، وبالقنوات والمعايير التي ورثها الجيل الحاكم عن الأجيال المؤسسة للحزب، فهناك ثوابت لا تمس، وهناك مجاملات، وهناك مصالح، وهناك حسابات، وهناك -أيضاً- تصفيات، تجعل من إمكانية النقد، ومن ثم التقويم، غاية أشبه ما تكون بالانتحار بالنسبة لمن يمارس النقد من داخل الحزب، أو بلغة أدق: بمن يفكر -مجرد تفكير- في ممارسة النقد فضلاً عن التقويم. وعندما يستعصي النظام، أي نظام، على الإصلاح، يصبح النظام نفسه مهيأ للسقوط، وهذا ما حصل تماماً في نهايات القرن العشرين في دول المعسكر الشرقي. سقوط المعسكر الشرقي كان سببه الرئيس أن (الأحزاب) الحاكمة لم تكن قادرة على (علاج) نفسها من الداخل، وفي الوقت ذاته تأبى أن يأتي حل من خارج الأيديولوجيا لعلاجها، إذ (ترفض) أن يتحدث عن عللها من هو خارج الحزب الحاكم، وكان هذا الرفض صارماً بشكل يجعل من يحاول كسره من داخل البيت مثل الذي يلقي بنفسه إلى التهلكة. غير أن هذه (الصرامة) لم تستطع أن تصمد أمام السيل الجارف الذي حركه المتذمرون من أوضاعهم، الساخطون من فساد أنظمتهم، فانتهت هذه الدول إلى النهاية الحتمية: السقوط. وهذه - دائماً- مشكلة الأنظمة الشمولية، (الشموليون) دائماً ما يظنون أن أي محاولة للإصلاح، وترميم البيت من الداخل، يعني تراجعاً وتنازلاً يمس أول ما يمس (هيبة) الدولة وقوتها. بينما أن الدولة (المتخشبة)، وغير المرنة، والتي ترفض التماهي مع متطلبات البقاء، من أكثر الأنظمة هشاشة، وأضعفها مقاومة للظروف الفجائية ومتغيرات العصر. والتاريخ مليء بالعبر. [c1]*عن/صحيفة (الجزيرة) السعودية[/c]