أحمد راجح سعيد ما كنت أحسب قبل دفنك في التراب بأن الكواكب في الثرى تغور - أن الشعور بالخسارة الفادحة على فقدان الأديب الكبير والتربوي القدير والشاعر الوحدوي الأصيل يتسع باتساع ذلك الفراغ الذي خلفه رحيل أستاذ الأساتذة اليمنيين أو كما يحلو للبعض تسميته (بعتاد اليمن) المتوفى لله عبدالله فاضل فارع زيد والذي عاش حياته التربوية والأدبية والثقافية بالطول والعرض ، لقد كان الراحل رحمه الله ضمن الصفوة الذين تركوا بصماتهم الناصعة على الفكر والأدب والتربية والنقد وذلك على مايقرب من الستين عاماً من عمره المديد .. أحبه كثيرون لأدبه الرصين وصراحته المعهودة وعلمه الغزير النافع كما كرهه آخرون مخالفون لهذه المزايا ولعل ما رجح كفة حب الناس له هو أنه لم يكن من هواة اقتناص الفرص ولا من الذين يجيدون فنون التدليس والتملق والانتهازية وصولاً إلى موائد الجاه والسلطان ولأنه ظل على ذلك فقد حافظ على توازنه ورؤيته المحايدة والواعية بعيداً عن الضجيح الإعلامي الذي يفتعله أقزام السيطرة على منابر الأدب وبالرغم من أن، أديبنا الراحل رحمه الله قد تجاوز من عمره الحافل بالمعطيات الإبداعية الثانية والثمانين عاماً إلا أن نشاطه ظل كشاب بروحه الخفيفة وأسلوبه الساخر كما أنه ظل يحتفظ بذاكرة تاريخية قوية غير مشوشة أشبه بشاهد العصر الأمين ولذلك فإن تربوياً وأديباً وناقداً بهذا الحجيم بلاشك سيدفع بالكثير من معاصرية في نفس الدرب لينظر إليه من منظاره الخاص. أقول هذا بعد أن اتيحت لي العديد من الفرص للقاء به بحكم رابط القرابة الأسرية التي جمعتني به وبأسرته الكريمة مع التذكير بأني ومنذ كنت صغيراً طللت أتطلع شوقاً إلى مجالسته كما يتطلع الطالب لأستاذه وكسب وده والاقتداء بنهج حياته خاصة وأن شهرة الراحل العظيم في تلك الفترة كانت قد بلغت ذروتها وأصبح يضرب به المثل في أوساط الأدباء والتربويين وحينما كنت التقي به في منزله عادة ما سألني عن أوضاع التربية والتعليم لعلمه بأني أحد العاملين في هذا الحقل المهم وكثيراً ما كان يبدي ملاحظاته الدقيقة والهادفة حول طبيعة إصلاح مسارها وما يجب أن تكون عليه وأتذكر أيضاً ذلك البيت الشعري المأثور الذي كتبه بخط يده على أحد حيطان غرفته المتواضعة والذي يقول : ألا يادار لايدخلك حزن ولايغدر بصاحبك الزمان .واضح ما كان يقصده الراحل من معنى البيت وهو التذمر من قسوة الحياة التي كان يعيشها خاصة إذا ما علمنا بأن أباه رحمه الله كان يعمل حارساً في بلدية الشيخ عثمان قبل الاستقلال الوطني ولا يوجد من يعول الأسرة سواه ولذلك تحتم على الطالب عبدالله فاضل حينذاك كي يساعد والده في تحمل إعالة الأسرة وأيضاً توفير متطلبات الدراسة استغلال الإجازات الصيفية والبحث عن عمل (خفيف) في مجال النجارة والبناء والورش هكذا كانت الحياة المبكرة لأستاذنا الراحل على خلاف تلك التي عاشها ممن عاصروه من المتعلمين والذين توفرت لهم سبل العيش والتعليم بير وسهولة بحكم المكانة الاجتماعية والمادية التي كانت سائدة في ذلك الوقت وكان لنمط حياته القاسية في طفولته انعكاس على رؤيته المتشائمة للحياة وما يدور في محيطه أقول هذا تمهيداً لنشر مقابلة كنت قد أجريتها معه بتكليف من صحيفة 14 أكتوبر نشرت قبل إثني عشر عاماً فجواها إجابة عن السؤال الآتي : ما هو الجديد المفيد في النشاط الإبداعي لأستاذنا الكبير ؟ وأين هو من الجيل الجديد الذي يكاد لايعرف عنه سوى النزر القليل؟ فرد قائلاً : هذا السؤال حكم بحيثيات أم أنه ناتج عن رواية (خادم) عن (نصراني) عن (يهودي) ؟ أتمنى أن يكون الأمر كذلك، إن الذي يتوافر له أكثر من مكتب في منزله ومكتب في إدارة عمله حتى بعد أن حكم عليه بالتقاعد الذي لاراد لمفعوله ويقرأ آخر ماتصدر المطابع بأكثر من لغة ويداوم على العمل تدريساً وكتابة يومياً لا يمكن أن يتوقف نشاطه الإبداعي إلا ذا كان من أولئك الذين يكتبون تملقاً للقارئ أو مجاراة لوضع يرون مصلحتهم في تسخين سوقه حتى يبرد.. ثم يبحثون عن وضع أكثر فائدة وهكذا دواليك فبالنسبة للقراء لم أكتب يوماً إرضاء أو استرضاء لهم فقد كفاني خطاباً لهم (بودلير) الذي ختم مفتح أشعاره (أزهار الشر) يقوله : (أيها القارئ! أيها المنافق) فمعظم القراء يقرؤون ما يروجه لهم دلالو الصحف الرخيصة ومعظم الصحافة - حاشاً النزر اليسير جداً - رخيصة ، رخيصة تكتب لكي لاتقرأ وتشترى لكي تستعرض في (مبرز القات) أمام قدمي .. (المخزن) ولذلك أقرؤها للعبرة والنظر إلى ما فيها من تدن حد السفه في كتابة من يعدون كلمات ويحصون مكافآت هي السحت أو تكاد لأنها بتلغ من التهافت حد السخافة المتعالمة. لم أفكر يوماً أن، أكتب لغير نفسي وأن أختار لها خير ما يناسبني والذين يتحدثون إلى عزيزهم (القارئ) يرشونه قبل أن يخاطبوه متذرعين برضاه عنهم إذ قد صاروا أعزاءه بعد أن استعزوه ، القارئ بحاجة إلى أن نعلمه قبل أن نطبطب على ظهره أو نمسح على رأسه وهو يحترم من لايجاريه ولا ينفخ في غروره أ, يتملقه ليبادله ملقاً بملق. كنت أكتب لأنداد يحسبون كل فضل لندهم فضلاً لهم ويعترفون به يمحصونه ويتقدونة وينوهون بفضل صانعه أو يعتذرون له عند غيره بما لايتبادر إلى ذهته من أعذار تشفي الصدور وترضي النفوس وتأكد بأني ما ارفع يدي عن كتاب حتى أبداً بآخر وقد أعمل في كتابين معاً أنا لا أميل إلى هذه (اللقيطات) من كل قطر واحدة ، الكتابة كتب، وليس شرطاً أ، تنشر في سوق بني .. يقبلونها أو يرفضونها وهم لا يكادون لها تقويماً لكم تنشر من غثاثة كتب تصنف في الفنون الأدبية أو تعد دراسات ونقداً وماهي منها بشيء بل هي سمارير سكارى واضعات أحلام بين مجاملة لهذا أو تلك أو حباهاة بغال تموت نفساء فكلما قيض لها حبل سفاح. لايهم المبدع الحق أن يطلع عليه القارئ القديم أو الجديد ، فالقارئ الطلعة يبحث عن المادة الأدبية أو الثقافية في مضامينها ولا يحتاج إلى دلال طبع أو نشر يوجه قراءته إن الذين يقرؤون حسب توجيه فلانه أو فلان ، يظلون رضعاً ما عاشوا، وتجف أثداء المرضعات ولايرشدون والأدلة أو الدلالون في سوق (أباطيل) الأدب ثلة تعيش على تدجين مبتدئة الكاتبين بطريقة (إلوي) رواية (آلة الزمن) والذين كانوا يحتجرون (الودلك) في مصانع تحت الأرض لكي يظلوا يكدحون لمصلحة أولياء أمورهم ، إنهم يعتمون عليهم طريق الرشد ليبنوا مجدهم على حسابهم ويتمد يكون عليهم وهم فرخات... مثلهم. أذكر أنني قبل سنتين أو ثلاث سامرت فرع اتحاد الإدباء والكتاب بعدن بحديث الذكريات عن الاتحاد وبعض أنشطتي في العمل الأدبي وكان أحد من ناقشوني في مسرحية (يندكيلي) أو عسكر ولصوص التي ترجمتها عن الأسترالية، شاب فذ أدهشني استيعابه للمسرحية ونفاذه إلى هدفي من تسميتها (عسكر ولصوص) وفي أكثر من مرة سألت بعض اتحاد الأدباء عن ذلك الطلعة فتذكرو اكل من حضر الا ذلك الذي ندهم ذوقاً وفهماً ولم يفيدوني بشيئ عن ذلك الشخص تعتيماً وتجاهلاً .وهل تعرف إذا لم يحرم الجيل الجديد من إبداع من ينتجون وينتجون وينتجون، ولايتاح لإنتاجهم منبر إذاعة وإعلان ، لان الساحة معدة للتزمير والتطبيل وليست للأدب الأصيل النبيل الذي سيخلد وإن لم ينشر اليوم فله النشر في الغد، «وأما الزبر فيذهب جفاء» (17 الرعد) حتى ولو سخر له كل مضاء سيف المعز وسخاء ذهبه الذي ينفق في النفخ حتماً سيؤول غداً إلى رماد يذر في عيون الأكمهين ممن لم ينعموا بحقيقة النظرة الصائبة والرؤية السليمة ويبنون على الرمال السائبة قصوراً من خواء في فضاء انخرم فيه غشاء (الأوزون) «فهل يا ترى لهم من باقية» (8 : الحاقة) .هذه بعض الوقفات المضية في حياة التربوي والأديب والناقد عبدالله فاضل فارع زيد خسره الوطن بعد عمر حفل بالإسهام المتميز في خدمته وسنظل نتذكره بكل اعتزاز وفخر لصدقة وشجاعته وتواضعه وبساطته رحمه الله وأسكنه فسيح جناته جزاء لما قدم في دنياه.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أخبار متعلقة