شل العجب . . شل الدان
محمد الأمير" يُعد كتاب الخلاقي أول دراسة منهجية لقراءة التراث قراءة معاصرة "أرتاد بنا الدكتور علي صالح الخلاقي مناطق لم يفكر فيها أحد من قبل، عندما أفرد أشرعته وخاض رحلة حميمية في أعماق شخصية نادرة ذات كوامن وأطوار لا تتكرر كثيرًا لكنها تبقى في ترانيم يحيى عمر بكل أبجديات ومفردات سعادته وتعاسته التي تشق قلب الليالي.وتنزع به إلى التمرد والإنطلاق إلى برار لم تخطر على بال، إلى حيث لا قهر ولا عرى ولا جوع بعيدًا عن صدمات الزمن.باحثًا عن طيف حسناء أو لمع جبين ناصع أو فتر ثغر لا ملودة سمراء أو أرد لؤلؤة سوداء.ليثوي بعيدًا عن صخب العالم في مقلة غصنية خضراء.إنّ سبر غور شاعر من هذا الزمان ضرب من مستحيلات الغول والعنقاء... ذلك أنّ الشعراء ينسجون على الذات صوامع حصينة يحيطها الغموض وتكتنفها الأسرار.ولكن ..يبدو أنّ الدكتور علي صالح الخلاقي الذي رفد المكتبة العربية (لا اليمنية فحسب) بكتابه الأخير (شل العجب .. شل الدان) آثر خوض معركة بلا موعد ولا خصم ولا مكان.فاتخذ من قلمه مشرط يبضع فيه الحقب ويقلب الأحجار الصلدة بحثًا عن معلومة دفينة هنا أو إجابة _ وإن غامضة _ هناك ليستخرج أول بحث ودراسة أكاديمية عن (يحيى عمر) متميزًا عمن سبقوه بقراءته للذات قراءة معاصرة إدراكًا منه للمهمة الحضارية التي تقع على كا هله كأحد المشتغلين بأعمال الفكر والثقافة.وخاض د . الخلاقي في الأسئلة الصعبة التي لم يجرؤ _ سابق _ مجرد الاقتراب منها.فكانت رحلته _ مع يحيى عمر _ حميمية في الأعماق، ساعده في ذلك قدر من الحب والإعجاب بهذه (الشخصية الأسطورة) مستعيناً بكم الخبرة والتراكم المعرفي لديه أكاديمي متخصص ولكن دوره مقتصرًا على مجرد العرض والتعريف والتقديم _ وإن يكن هذا بحد ذاته دور مهم ومهمة جليلة.ويعترف الدكتور علي صالح الخلاقي منذ المقدمة بصعوبة المهمة قائلاً :فلا أزعم إنني بهذه الدراسة قد أوفيت العلامة يحيى عمر حقه الذي يستحقه من الاهتمام والبحث والدراسة بل أنّ هناك جوانب كثيرة في حياته وإبداعه جديرة بالمتابعة والتحليل حتى تكتمل الصورة عن شخصيته وأشعاره وألحانه."إلا أنّ تواضع د . الخلاقي لا يعفينا من الإشادة الجادة بالجهد غير العادي الذي أوصله إلى صومعة يحيى عمر كشخصية نادرة لها كوامن وأطوار لا تتكرر من خلال ما تركته من أثرٍ واضح في فكرنا.وبدا واضحًا إنّ الدكتور الخلاقي قد عاش _ خلال إعداده / تأليفه الكتاب _ مع يحيى عمر لحظة بلحظة ويعبر عن إعجابه بهذه الشخصية بما فيها من بساطة النفس ونزوعها إلى الانطلاق والتجدد بكل مفردات سعادته وتعاسته حيث يكتب الخلاقي "ولكن من أين يا يحيى عمر؟"و"شرب الحب.. تخلص من ميراث القبيلة وشريعتها في الحب، وأعاد للحب شرعيته، وبلغ به الأمر تجييش القبيلة لنصرته (على قسوة المحبوبة)...(كان متيمًا بالجمال الأنثوي سواء لمع من جبين امرأة بيضاء أو فتر عن ثغر أملودة سمراء أو فاح عن أردان لؤلؤة سوداء أو ثرى من مقلة غصنية خضراء).ولماذا كل هذا التقطع والتمنع من قبل الفاتنات الأربع للفتن يحيى عمر والتضرع إليه لإقناعه بالعدول عن قراره بالرحيل؟ويورد القصيدةقال يحيى عمر صادفت عا (المكلّة) أربعمسجدّات النبع خلين عقلي مضيعوحين صادفتهن سوين شكل المربعقالين لي نسألك بالله وايحيى إرجعوكل واحدة بتوقف في طريقي وتمنعوقلت يا "الخينمي" تحضر معيا وتفرع)ويردف الخلاقي معلقًا :(لم يكن فتى عاديًا... فقد أمتلك حينها موهبته الشعرية.. لذلك عز على هؤلاء الفاتنات مغادرة شاعر لا يُبارى ... يرتجل الأبيات الشعرية.. فتلتقطها النساء على الفور من فم الشاعر... إنّه خسارة لا تعوّض ليس فقط كشاعرٍ... بل وكفارس محتمل لأحلامهن.. فحاولن جهدهن التأثير عليه لإثنائه (عن السفر) .. (ثمّ) استغاثته بولي الله (الخينمي)... لم يكن من بد إلا التعاطف معه والدعاء له، ونبع من الدموع يسيل من لوعة الفراق).ولاشك إنّ الدكتور الخلاقي قد عانى الأمرين في دراسته هذه التي تتعرض لشخصية شاعر عاطفي شهير يعبر عن ثراء تراثنا وغنى فنوننا على مدى الحقب.إنّ تحدي د . الخلاقي كان في الأساس لنفسه أمام تناقض هذه الشخصية العاطفية التي تتعذب ثمّ تلوذ بالنفس من صخب العالم حينًا وتختلف للغناء بكلمات وإيقاع يشق قلب الليالي.وحيث أنّ شعر يحيى عمر وميراثه الأدبي والفني يعبر عن ثراء تراثنا وغنى فنوننا بما تركه لنا فنًا خالصًا خالدًا قادرًا على أن يغذينا باستمرار مهما تقادم به العهد.فقد كان كتاب (شل العجب.. شل الدان) للدكتور الخلاقي حاجة ثقافية نفتقر إليها.فالدكتور الخلاقي لم يكتفِ بالإجابة على كثيرٍ من الأسئلة والالتباسات التي حدثت حول يحيى عمر وفي شعره، بل أنّه وبذات النفس الأدبي والدراية والمسؤولية الأكاديمية لم يتحاشَ في دراسته هذه عن إثارة أسئلة جديدة أكثر إلحاحًا عن تلك الأسئلة التي أهتدى في إجابتها ويتساءل الخلاقي :(ترى هل سنصادف في يوم تكملة هذه القصيدة البديعة، والحصول على غيرها من قصائد يحيى عمر الناقصة والمحرفة والمجهولة حتى يكتمل بنيان ديوانه المرتجى وسيرة حياته؟)... و(إذا صح إنّ هذه المخطوطة قد بيعت بالمزاد العلني فيا ترى أين هو مصيرها؟)و(ولكن هل يمكن معرفة تاريخ أو سنة ميلاده على وجه الدقة والتحديد؟)... و(هل كون أبو معجب أسرة له بيافع جعلته مشدودًا إليها، بهذه الوشائج العاطفية القوية؟). و... (ولكن السؤال يظل من أين جاءت تلك اللهجة؟!!)ويتضح ما بذله الدكتور علي صالح الخلاقي جهودًا في محاولةٍ لإزالة اللبس حول العصر الذي عاش فيه يحيى عمر وخلص إلى نتيجة أكثر منطقية عمن سبقوه فيقول :( طالما انعدمت الحقائق والوثائق التي يمكن الاستناد عليها في إجلاء هذه الغموض الذي يحيط بتاريخ ميلاده ووفاته. وحتى ظهور مثل تلك الحقائق والوثائق فالأقرب إلى الصواب القول إنّه عاش بين النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري والنصف الأول من القرن الثاني عشر الهجريين.ويتسق هذا مع ما جاء هنا أو هناك م ذكر لبعض الأحداث والأسماء في مضامين أشعاره).وأستعان الدكتور/ الخلاقي بقصائد كثيرة للاستدلال أكثر على معرفة عمره وعصره كقصيدة (نسل حمير).ومعروف إنّ يحيى عمر _ رغم شظف العيش وحالات اليأس والقنوط التي عاشها ومحاولاته البحث عن يوثوبيا حيث لا قهر ولا عرى ولا جوع قد حافظ على نفس كامنة فيها الكبرياء والشموخ والاعتزازولم تجبره صدمات الزمن على التزلف والتقرب من ذوي الجاه والسلطة ولم خطب ودهم ولم يمتدح منهم لحاجة سوى من يستحق الثناء والمدح كما هي قصيدته في نسل حمير.وبظني أنّ يحيى عمر لو كان تقرب إلى ذوي الجاه والسلطة والسلاطين في يافع والهند وغيرها. لجاءتنا إشارات كثيرة عنه في مذكراتهم ولزال كثير من الالتباس حوله ومما يحسب للدكتور علي صالح الخلاقي ويؤخذ عليه في آنٍ معًا. إنّه تعامل مع يحيى عمر بعاطفة تتجاوز قدرة الباحث على الحياد ولا أرجم بالغيب لعله تعمد ذلك ليخلق حالة من الحيرة وتدعوك للاشتراك معه للكشف عن أبعاد موقف أو حالة.وقد ظهر ذلك في استماتته لتأكيد يمنية مواطنة _ يحيى عمر _ أمام سيل الإدعاءات التي تحاول سلبه يمنيته ونسبه وتنسيبه إليها.فيقول :(ظل نسب يحيى عمر ومسقط رأسه مثار شك، بل وأدعى بعضُ دون سند تاريخي، ومن المناطق التي زعمت مسقط رأسه حضرموت، عُمان أو البحرين).وقد أبدع الخلاقي في إزالة بعض للبس الذي ورد في بعض الدراسات السابقة، وشرح أسباب اللبس عاذرًا من وقع فيه عن حُسن نية أو عدم تمحيص، حيث رأى أنّ ما ذهب إليه المؤرخ الجليل صلاح البكري ومحمد عبد القادر بامطرف في تنسيب الشاعر يحيى عمر إلى (يافع حضرموت وأنّه من آل الشيخ علي آل هرهرة).إنّه :وبهدف استقصاء الحقيقة قادني البحث إلى معرفة مصدر ذلك اللبس.وقد تبيّن فعلاً أنّ هناك شخصًا آخر اسمه يحيى عمر بن هرهرة كان قائدًا عسكريًا مع رفيق له اسمه شاجع بين أبي بكر بن هرهرة كما ذكر ذلك مؤرخ الدولة الكثيرية.ومن خلال رواية قصة القائدين العسكريين؛ فإنّه أزال اللبس هنا بمنطق المعقول.لكن الدكتور الخلاقي أكتفى فيما تبقت من إدعاءات قائلاً :(الشاعر والفنان يحيى عمر لم يدع في أشعاره مجالاً لمثل هذا الشك أو الاجتهاد فقد شاءت الأقدار أو هو حسن الحظ أن يخلّد (أبو معجب اليافعي) اسمه ولقبه ونسبه في صميم أشعاره.وكأنّما كان يدرك بحدسه وحنكته أنّ أشعاره وألحانه التي تسافر معه... ستحط رحالها وتستقر في ذاكرة الناس في أكثر من مرسى ومدينة)؛ إلا أنّ هذه الحجة التي اعتمدها الدكتور الخلاقي ليست مقنعة كثيرًا، حيث أنّ من يعبثون بالتراث عن عمر أو من دونه يحرّفون المواقع ويسقطون الأسماء ذات الدلالات الواضحة.وقد أستعين للتدليل على هذه ما أمدده الدكتور الخلاقي نفسه حين يعرج إلى دراسة وبحث موضوع اللبس في أشعار يحيى عمر قائلاً :(تعرّضت أشعار يحيى عمر على مدى ثلاثة قرون للبس والخلط الذي ربما لحق بها أكثر من غيرها، ناهيك إنّ ثمة العديد من أشعاره قد طواها الزمن أو توارث خلف البحار أو بطون الجبال وسفوحها).و(الذاكرة الشعبية كمصدر رئيسي لحفظ وتناقل أشعاره. لا يمكن الركون إليها) و(الدليل على ذلك تعدد روايات أشعاره، والاختلاف البيّن الواضح في صيغها ومفرداتها.. ونسيان وإضافة.. وعلى الرغم من ورود بعض المعلومات في أكثر من مصدر عن مخطوطات أو دواوين ليحيى عمر؛ فإنّ أحدًا لم يقطع بعودتها إلى يحيى عمر نفسه أو حتى إلى عصره أو العصر القريب منه... ولأنّ قائمة اللبس والخلط والتحريف الذي تعرضت له أشعار يحيى عمر كبيرة وطويلة ... الخ.).وهنا أتساءل لماذا لم يذهب د . الخلاقي في دراسته إلى أسباب إدعاء كل قطر لنسبه وأكتفى بإزالة الغموض عن ما ورد لدى المؤرخين البكري وبامطرف.وحسب علمي وثقتي بقدرة وطاقة ونفاذ بصيرة الدكتور الخلاقي بأنّه لم يكتفِ بهذا؛ إلا لعدم التمويل اللازم لما يتطلبه البحث والباحث وينتقل السؤال إلى جامعة عدن _ وهو أحد قادتها كنائب عميد _ عن عدم إيلاء العناية الكاملة لتفريغ باحث أكاديمي كالدكتور علي صالح الخلاقي للحبث عن الأجوبة العصية للأسئلة العالقة التي أثارها أو يثيرها في دراسته، والسفر إلى الدول التي تحملها علامات استفهام.فالحصيلة العلمية التي ستنتج عن هذا تفوق اعتبارات التمويل مهما قدر لمثل هذهالبحوث وليس يحيى عمر آخرها إلى أنّه الحالة التي يصفها الخلاقي قائلاً :(أكثر من خدم الفن اليمني ونشره على نطاق الدول في الجزيرة العربية والخليج والهند صاحب هذه العبقرية الفذة _ التي لم يجد الزمان بمثلها منذ ثلاثة قرون، قد ظل إلى عهد قريب أقرب إلى الأسطورة .. والمعلومات القلليلة المنشورة عنه لا تفي برسم صورة متكاملة... ولم يحظَ بالاهتمام الرسمي من قبل القائمين على الشأن الثقافي في بلادنا).ولا أضيف جديدًا إنّ أشرت أنّ الجامعة يقع عليها العبء وكاهل المسؤولية كاملة كونها المعني بشؤون العملية البحثية والعلمية.وما يلزم هنا د. الخلاقي لإكمال بحثه لا يزيد عن مخصصات عضو واحد لإحدى الوفود إلى الخارج والتي لا تسمن أسفارها ولا تغني..وقد حمل د . الخلاقي نفسه مهمة ما نُشر سابقًا لينفرد بكتابه (شل العجب .. شل الدان) بالهوامش التفصيلية التي تبيّن الأسباب حينًا وتشرح بعض من قاموس يحيى عمر كما أوجد بجهود خاصة كثير من القصائد التي لم ترد قبلاً.وعلمت أنّ د . الخلاقي يعد للطبعة الجديدة العديد من القصائد التي تنشر لأول مرة وقد تحصل عليها بواسطة الباحث الحداد.ولابد من الإشارة هنا إلى أنّه حري بمن لديهم مخطوطات تتضمن قصائد ليحيى عمر أن يبادر إليه لا خدمة للدكتور الخلاقي بقدر ما يقدمون خدمة جليلة للتراث اليمني عامة وبما أنّه أول اختصاصي _ من الناحيتين :- كمؤرخٍ (دكتور في التاريخ) وصحفي (ماجستير صحافة) _ يقتحم صومعة يحيى عمر فهو الأجدر بالبحث عما تبقى من أسئلة وألا يبقيها عالقة عند قوله :(لا أدري هل قام د . نزار غانم بتصوير ونسخ تلك الأشعار (المخطوطة الفنية التي تجمع أشعار يحيى عمر والتي انتقلت من الفنان بن هرهرة عام 1924م إلى مكتبة الفاتيكان بروما).وفي منحى مماثل يقول الخلاقي عن د . نزار غانم :( إنّ أقدم تسجيلات للأصوات اليمانية قام بها الهولنديون ... وهذه الأصوات محفوظة بالمعهد الشرقي بلندن..ز وأنّ الأمريكيين قد استنسخوا منها نسخًأ مؤخرًا).لذا فإنّ على الباحث هنا البحث طويلاً بين لندن والولايات المتحدة وعُمان والبحرين والهند على وجه الخصوص؛ لأنّ د . الخلاقي يورد العَلاقة الحميمية الخاصة بين يحيى عُمان والهند التي مكث فيها طويلاً :(متنقلاً بين أكثر من مدينة مثل كلكتا ومدراس وحيرد أباد وبرودا، وأجاد اللغة الأوردية وغنى بها هناك.ويبدو تأثير الهند جليًا في كثيرٍ من أغانيه التي يطعمها بكلمات هندية.)وفي موضع لاحقٍ يقول الخلاقي :(لاشك أنّه كان يجيد أيضًا الغُناء الهندي، وكان الهنود يطربون لألحانه التي يغنيها.)لذا فلا مناص للدكتور علي صالح الخلاقي من البحث عن هذه الأسئلة وتلقيحها في طبعته المنتظرة، حتى يستوفي البحث الجديد كما تجدر الإشارة إلى ضرورة دعمه ماديًا ومعنويًا خصوصًا أولئك من المستثمرين الذين يجلون الأدب والثقافة وضرورة الاستثمار فيها.