أضواء
تقوم فلسفة الاختلاف الفقهي في الإسلام على نظرية أن للحق عدة وجوه لا وجها واحدا، وأن هذا الحق يتفاوت بين الحسن والأحسن، وبين الأيسر والأحوط .فالله سبحانه وتعالى خلق العباد وعلم أن قدرتهم وهمتهم على الطاعات متفاوتة وغير متساوية، ومن رحمته أنه جعل الأعمال الصالحة درجات مختلفة يتنافس فيها عباده (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)، فمن أخذ بالقول الأحسن والأحوط كان له أجر وفضل (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)، ومن أخذ بالقول الحسن والأيسر لم يكن عليه تثريب ولا إثم (ما خير الرسول بين أمرين إلا اختار أيسرهما)، ومثلهم كمثل تلاميذ في مدرسة نجحوا من مرحلة إلى أخرى، فمنهم من حصل على درجات عالية ومنهم من حصل على متوسطة ومنهم من حصل على مقبولة، ولكن في النهاية كلهم قد نجحوا واجتازوا الامتحان.والأدلة كثيرة في القرآن الكريم والسيرة النبوية التي تثبت أن للحق عدة وجوه لا وجها واحدا، ولكنها تتفاوت في الدرجات وفي الأفضلية، فقوله تعالى (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما)، والقصة أن قوما كان لهم بستان، رعت فيه غنم قوم آخرين بالليل، وأكلت الشجر كله، فتحاكموا إلى داود عليه السلام فحكم لأصحاب البستان بقيمته، فلما خرجوا على سليمان قال: بم حكم لكم نبي الله؟ قالوا: بكذا وكذا.. قال: أما لو كنت أنا لما حكمت إلا بتسليم الغنم إلى أصحاب البستان، لينتفعوا بها حتى يصلح أصحاب الغنم البستان ويردوه إلى ما كان عليه، ثم يتسلموا أغنامهم، فبلغ داود عليه السلام ذلك فحكم بحكم سليمان.. والشاهد هنا أن حكم داوود كان صحيحا وحسنا ولكن حكم سليمان كان أصح وأحسن، حيث قال تعالى (ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما).واختلف الصحابة رضي الله عنهم في أكثر من اجتهاد ثم احتكموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقر كل طرف على اجتهاده وقال (أنتم أصبتم السنة وأنتم لكم أجركم مرتين)، وقد حدث هذا في قصة الصحابة الذين كانوا في سفر فأدركتهم الصلاة المكتوبة ولم يكن معهم ماء، فتيمموا وأدوا الصلاة، ثم أكملوا المسير، فوجدوا بئرا فيها ماء وكان وقت الصلاة التي أدوها لم يخرج بعد، وهنا اختلف الصحابة هل يتوضؤون ويعيدون الصلاة أم تكفيهم الصلاة التي أدوها بالتيمم، فبعضهم رأى أن يتوضأ ويعيد الصلاة من باب الأحوط، والبعض الآخر رأى أن يكتفي بالصلاة التي أداها بالتيمم، وعندما احتكموا عند النبي عليه السلام أقر كل طرف على اجتهاده ولم يعنف الفريق الذي أخذ بالأيسر ولم يأخذ بالأحوط.فحري بنا اليوم أن لا نحول الاختلاف الفقهي إلى نقمة، بينما هو نعمة، وأن لا نحوله إلى معركة بينما هو مكرمة.[c1] عن/ صحيفة (عكاظ) السعودية