رحلة ويلفرد ثيسجر
نجمي عبدالمجيدقائد هذه الرحلة هو البريطاني ويلفرد تيسجر والذي عُرف بين سكان الجزيرة العربية باسم مبارك بن لندن الذي كانت رحلته إلى هذه المنطقة من عام 1945م حتى عام 1950م ولم يكن الأوروبيون قد شاهدوا كثيراً من تلك المنطقة، أما هو فقد كان ميلاده عام 1910م في أديس أبابا، وتلقى تعليمه في مدرسة ايتون وكلية ماجدالين إكسفورد.وفي سن 23 عاماً قام برحلةٍ إلى بلاد الدناكل وهي بدءًا لرحلاته الاستكشافية، وفي عام 1935م تمّ تعيينه في دائرة الخدمة السياسية في السودان وعمل في الحبشة وسورية وكذلك مع كتيبة الخدمات الجوية الخاصة في الصحراء الغربية وحصل على وسام الخدمة المتميزة، وتقديراً للرحلات المختلفة التي قام بها منحته الجمعية الملكية الجغرافية الأسكتلندية الملكية ميدالية ليفينجستون، والجمعية الملكية الآسيوية ميدالية بيرتون ميمو ريال، وتقديراً لكتاباته نال جائزة هاينمان وعضوية الجمعية الملكية للآداب ودرجة الدكتوراه الشرفية من جامعة ليستروبات وفي عام 1968م منح لقب كوما ندر أوف بريتيش أمباير وعام 1995م وحصل على لقب فارس الإمبراطورية البريطانية وكان عضو شرف في الأكاديمية البريطانية وعضو شرف في الأكاديمية البريطانية في كلية ماجدالين في أكسفورد، وهذه الرحلة التي كانت بدايتها من مدينة عدن عام 1945م دونها في كتابة المهم الرمال العربية والذي صدرت طبعته الإنجليزية الأولى عام 1959م في لندن عن دار لونجمان وجرين وشركاءهم المحدودة نقف أمام بعض فصولها.[c1]من عدن إلى ظفارعن بدء الرحلة يقول ويلفرد :[/c]وصلت إلى عدن في نهاية شهر سبتمبر العام 1945م وزرت الجبال الممتدة على طول الحدود اليمنية، وفي 15 أكتوبر غادرت إلى صلالة عاصمة ظفار التي تقع عند حوالي ثلثي الطريق الساحلية الجنوبية للجزيرة العربية، ومن هناك كان عليّ أن أبدأ رحلتي، وخلال وجودي في صلالة أقمت في معسكر سلاح الجو الملكي البريطاني خارج البلدة ويقع على سهل حجري أجرد محاط على بُعد أميال بجبال قره وقد أقيم هذا المعسكر خلال الحرب لدى فتح الخط الجوي من عدن إلى الهند وهو خط لم يستخدم كثيراً، لكن طائرة كانت تأتي مرة في الأسبوع إلى صلالة قادمة من عدن.كانت ظفار تابعة لسلطان مسقط، وقد أصر لدى سماحه لسلاح الجو الملكي البريطاني بالتمركز هناك، ألا يقوم أياً من عناصره بزيارة البلدة، أو التنقل خارج محيط المعسكر من دون مرافقة أحد حراسه، وكذلك عدم التحدث إلى أي من السكان المحليين، وقد تمّ تطبيق هذه الإجراءات بالنسبة لأفراد سلاح الجو الملكي البريطاني مفهومة ومعلومة، وتستهدف منع وقوع حوادث بينهم وبين رجال القبائل المسلحين سريعي الغضب الذين يشكون بكل الغرباء وقد كان تطبيق هذه الإجراءات عليّ من الأمور المزعجة للغاية، خصوصاً أنّه عليّ أن أتنقل مع آخرين، وكانت تعني أن أقوم بإجراء ترتيباتي اللازمة من خلال الوالي أو المحافظ[c1]العبور الأول للربع الخالي[/c]تبدأ مرحلة العبور الأول للربع الخالي في رحلة ويلفرد، وهي الخطوة الأولى نحو الرمال العربية، ويصف إحدى أيام ذلك المسير وعند انتصاف النهار كان اجتياز الكثبان الرملية باهثة اللون وأخرى ذهبية وعندما أقبل المساء أمضى مع رفاق الرحلة ساعة في صعود جبلاٍ من الرمل الأحمر يصل ارتفاعه إلى حدود 650 قدماً، وبعد تجاوز هذا الحاجز الرملي ساروا في منبسط ملحي يكون ممراً في الرمال، ونظر ويلفرد إلى الخلف فأدرك حجم الجبل الرملي الأحمر الهائل الذي يشكل حائطاً بين مسافة ومسافة في صحراء العرب.وعبر المسافات في ذلك الترحال وصل إلى الكثبان الكبيرة في عروق الشبيه والتي كان من الممكن أن تقضي عليه وعلى رفاقه، كان قلقاً على الماء الذي شاهده يرشح على الرمال، كان ذلك في المساء ومع طلوع أول ضوء في أفق الصحراء أستيقظ رفاقه يتشوقون لمتابعة المسير والجو بارد أما عيونه فقد دمعت من شدة البرد، وعن جغرافية الصحراء يقول :أمتدت بمواجهتنا سلسلة عالية من الكثبان المتواصلة، ولم يكن ارتفاعها متناسقاً لكنها بدت كسلسلةٍ جبلية تربط بين قممها الممرات.وكان عدد من القمم على ارتفاع سبعمائة قدم فوق المنبسط الملحي الذي نقف عليه.كانت الجهة الجنوبية المواجهة لنا شديدة الانحدار، وهذا يعني أنّها الجانب المحمي من الرياح. وقد تمنت لو كنّا نتسلقها من الاتجاه المقابل، لأنّ الناقه تستطيع نزول الأطراف العمودية من الرمال، لكن من الصعب أن تجد الطريق لصعودها[c1]من صلالة إلى المكلا[/c]في هذا الفصل يحدد الكاتب المدة الزمنية التي قضاها في صلالة وكانت أسبوعاً وأنشغل فيها في تسجيل ملاحظاته وتصنيف الأشياء التي جمعها وكذلك التحضير لرحلته إلى المكلا، بصحبة الرواشد. وخطط للسفر إلى المكلا الواقعة في محمية عدن الشرقية ورسم خارطة للبلاد على طول المنطقة تجمع المياه بين الأودية التي تمتد شمالاً إلى الرمال وتلك التي تصل جنوباً إلى البحر، وكان الغرض من رسم هذه الخارطة عند ويلفرد وضع أساس الخطوط العريضة لمعالم المنطقة المجهولة الواقعة إلى الغرب من ظفار.وعن الصراع بين القبائل في تلك الصحراء يتحدث ويلفرد :كانت قبيلة الصيعر التي تسكن الأراضي المرتفعة في شمال حضرموت العدو الأساسي لـ "الرواشد" وبيت كثير والمناهل حتى الآونة الأخيرة، لكن قبائل الدهم والعبيدة من اليمن حلت محلها مؤخراً كأكبر قوة مغيرة في الصحراء الجنوبية. ولم تكن هاتان القبيلتان من البدو إنّما من القرويين الذين يقيمون عند سفوح الجبال. وان ذلك انعكاساً للدور المعتاد الذي يقوم به البدو في الإغارة على القبائل المستقرة. وقد أكد لي بن الكمام وآخرون من الرواشد أنّ السلطات اليمنية في الجوف زودت هؤلاء المغيرين بالأسلحة والذخائر، الأمر الذي يبدو أنّ حكومة اليمن شجعت هذه الغارات لإرباك حكومة عدن من خلال زيادة الفوضى في الصحراء إلى الشمال من حضرموت.)في عام 1945م تحركت قوة قبلية من المناهل بقيادة بن دويلان للإغارة على قبيلة دهم لكن لسوء الحظ لم تصل هذه القوة إلى قرى دهم، ووقع هجومها على خيام لقبيلة "يم" من البدو فقتلت كثيراً من أبناء هذه القبيلة واستولت على كثيرٍ من جِمالها.[c1]ويقول عن شبام :[/c](أمضينا يومين في شبام وهي أكثر المدن إثارة للاهتمام، فقد بنيت على حافة نهر جافٍ، فوق رابيةٍ ضئيلة وسط الوادي، وعدد سكانها سبعة آلاف نسمة تقريباً. يحيط بها جدار عالٍ يبدو قزماً إلى جانب البيوت الكثيفة التي ترتفع داخله سبعة أو ثمانية طبقات. وعندما كنت أقف في الآزقة تحت الجدران الشاهقة لهذه البيوت شعرت كأنني في قاع بئر. هنا أتفق عمير وبن غبيشة مع الصيعر بشأن الجِمال التي سنأخذها معنا إلى الريضة والسكر والشاي والقهوة من المكلا واشترينا الآن لحم وسمك القرش المجفف والسمن والتوابل والخرج والحبال وقرب الماء وقمت بنفسي بشراء قرب الماء وتعرضت للغش في بعضها، لأنّها كانت من جلد الغنم وترشح بشكل متواصل لدى تعبئتها بالماء. ولو كان عمير وبن غبيشة معي لما حصل هذا لكنهما كانا مشغولين في مكان آخر.غادرنا شبام يوم 17 ديسمبر وصعدنا إلى الريضة، وكان علي بن سليمان من فرع حاتم في قبيلة صيعر معنا وقد ساعدنا كثيراً. كانت المنطقة تعج بالشائعات والمخاوف وعبد الله بن نورا المعروف عادة باسم عائلته أي بن معقال وصل أخيراً إلى منواخ مع رجال من بني معروف الصيعري، ومع أنّ رجال بن معروف هؤلاء ينتمون إلى فرع حاتم من صيغر إلا أنّهم لا يقطنون على هضبة صيغر أنّما في الرمال والسهول الخالية في الشمال. ومنذ سنين يعترفون بسيادة ابن سعود ويدفعون له الجزية بواسطة أمير نجران وكانوا يقومون برعي قطعانهم في صحراء جنوبي نجران عندما وصلتهم الأخبار بأنّ يم والدواسر يحتشدون لمهاجمة الصيعر وقبائل حضرموت الأخرى.)[c1]الاستعداد للعبور الثاني[/c]سافر ويلفرد من المكلا إلى الحجاز حيث طاف لمدة ثلاثة أشهر وتوغل في تلك المناطق حتى وصل إلى نجران في بلاد "يم" عند الطرف الشمالي الغربي للربع الخالي، وعاد إلى لندن بعد ذلك.ويوضح ويلفرد بأنّه وهو في صحراء العرب لم يشعر قط بالحنين إلى الحقول الخضراء والغابات في الربيع في أوروبا، بقدر ما أشتاق لجزيرة العرب ورمالها والحياة الفطرية فيها. وقد قدّم له مركز مراقبة الجراد وظيفة جديدة للإشراف على عملية القضاء على جراد الحجاز ولكنه كان يسعى للعودة إلى الفراغ الواسع في الرمال وسحر الأرض المجهولة ورفقة الرواشد.وقد اعتبرت الرمال العربية التحدي الذي كان بحاجةٍ إليه لإيجاد مبرر لرحلة أخرى، لأنّ اجتياز هذه الرمال يكمل رحلة اكتشاف الربع الخالي وهذه الفكرة كان قد فكر بها قبل عامين.قبل بدء رحلته سافر لمدة أسبوعين إلى بلاد الصيعر من أجل ربط الملاحظات التي دوّنها في جنوب الجزيرة بين حلفين وحضرموت مع الملاحظات التي جمعها فيلبي عام 1936م على طول حدود اليمن، وقد عرف الصيغر باسم ذئاب الصحراء وهم قبيلة كبيرة وقوية، ولم يصل إلى تلك الأطراف من الإنجليز، بوسكاون عام 1931م وانجرامز عام 1934م.كانت أخبار ويلفرد قد وصلت إ لى بلاد الصيعر الذين تجمعوا في ريضة لحصد الحبوب، وقد لقي منهم الترحاب والود وذلك بفعل تجواله في جنوب الجزيرة العربية... وقلة منهم يلفون قطع من القماش حول الرؤوس، غير أنّ معظمهم كان لا يضع شيئاً على رأسه، وشأنهم شأن بدو الجنوب صغار الأجسام ويلبسون سوى المآزر وكل الرجال، وكذلك معظم الأولاد يحملون من السلاح الخناجر وكذلك بندقية لكل فرد تقريباً.بعد أن غادر ويلفرد ورفاق الرحلة الريضة عبروا من أمام ضريح يُعرف في ذلك المكان بضريح "الولية رقية" وهو عبارة عن مزار والمساحة المحيطة به تبلغ 100 ياردة، كما زار بئر منواخ في منطقة عيوات الصيعر والذي تجري مياهه إلى الرمال وحيث تشكل الريضة رافداً.[c1]اللقاء مع الشيخ زايد[/c]عن اللقاء مع الشيخ زايد في تلك المرحلة يقول ويلفرد :(تبادلت الأخبار مع الشيخ زايد، كان رجلاً قوي البنية جداً، يبلغ من العمر ما يقارب ثلاثين عاماً، لحيته بنية، وجهة قوي ينم عن الذكاء وكانت عيناه خارقتين يقظتين. وكان يعطي الانطباع بأنّه شخص هادئ، قادر ذو عزيمة. وكان لباسه بسيطاً جداً، يتكون من قميص من قماش عُماني لونه بني فاتح، وصدرية غير مزررة، ويتميز عن رفاقه بعقاله الأسود وطريقة ارتدائه كوفيته التي كانت ملقاة على كتفيه بدلاً من أن تكون ملفوفة حول رأسه وفقاً للعادات المحلية.وكان يتمنطق بخنجر وحزام رصاص، وبندقيته ملقاة على الرمال إلى جانبه.كنت أتطلع إلى اللقاء به. فلقد كان يتمتع بشهرة واسعة بين البدو الذين أحبوه بسبب تصرفاته البسيطة غير الرسمية، ومودته، واحترموا قوة شخصيته وفطنته وقوته الجسدية. كانوا يقولون عنه بإعجاب "زايد بدوي" له معرفة بالنياق، يمتطيها كواحدٍ منا، ويجيد إطلاق النار، ويعرف كيف يقاتل.أحضر أحد الخدم بساطاً لنجلس عليها. وكان الشيخ زايد جالساً على الرمل. ثمّ قدم الخادم القهوة والتمر اللذين لابد منهما.سألني الشيخ زايد عن رحلتي، وعن المسافات والآبار التي صادفناها، وعن جبرين وعن السعوديين الذين ألتقيناهم في ليلى وسليل. وكان كثير الاطلاع على الصحراء، وأبدى اهتمامه عندما أخبرته بأنني عبرت أراضي الدروع خلال العام الماضي، وأبدى دهشته لأنّهم سمحوا لي بالعبور فأخبرته بأنني تظاهرت بأنني تاجر سوري فقال ضاحكاً :"كنت سأعرف فوراً أنّك لست كذلك".وأشار إلى أنّ رجلاً إنجليزياً يدعى بيرد كان يقيم في البريمي في قرية أخرى، ويحاول إقناع القبائل بالسماح لإحدى الشركات بالتنقيب عن النفط، واعتقد أنّه لم يحقق نجاحاً.كنت قد قابلت ديك بيرد قبل ثلاث سنوات عندما كان الضابط السياسي في البحرين. وكان مهتماً بالعرب ومتعاطفاً معهم وأصبحنا صديقين فيما بعد. لكنني أدركت أنّه إذا أرتاب القبليون المحليون بأنّ لي صلة بشركة النفط، فإنّ ذلك سيقلص كثيراً من فرصي للوصول إلى عُمان، ولذلك قررت البقاء مع الشيخ زايد وليس مع بيرد طالما أنا في البريمي.)[c1]رمال أم السميم المتحركة[/c]غادر ويلفرد المويجعي يوم 28 يناير 1949م، ووصل إلى القسورة بتاريخ 6 فبراير من العام نفسه، وهناك عثر مع رفاقه على آثار حميد وسالم اللذين كانا مخيمين في الجوار.عندما دخل إلى رمال أم السميم، شعر بالذهول لغرابة البيئة، وكان فون ريد الأوروبي الأول الذي تحدث عن الرمال المتحركة في جنوب الجزيرة العربية عام 1843م تعرف باسم البحر الصافي، وهي رمال أم السميم كما وضح بعد ذلك برترام توماس، ووصل ويلفرد إلى وادي العين بعد ثلاثة أيام ووجد المياه العذبة على مقربةٍ من سطح الأرض وكان بعض الدروع ينصبون خيامهم في مكان قريب.سافر مع رفاقه في طريق يصفها بأنّها حصباء طويلة وقد فرشت بحجار كلسية صغيرة خالية من أية شجرة، إلى أن وصلوا إلى مجرى زواقني الضحل الذي تحده بعض الأعشاب الجافة بسبب الجفاف الذي أمتد لعدة سنوات، وكان العوف قد حدثته عن هذه الرمال المتحركة حيث كانت الأرض تتكون من مسحوق الجص الأبيض المغطى بقشرة من الملح الملوثة بالرمال.كانت تبرز بعض الشجيرات بين كل حين وآخر وأغصان يابسة لملح العراد وهذا دليل على صلابة الأرض، وكان لون السطح كما يصفها ويلفرد، يزداد قتامة بصورة ضئيلة مما دل على رخاوة الأرض من تحت، وفي هذه الرمال المتحركة غرق عدداً من رجال القبائل وكذلك الحيوانات.[/c][c1]راجع كتاب الرمال العربيةتأليف : ويلفرد تيسجرالطبعة العربية الرابعة عام 1999م طبع في مطبعة راشد عجمان : الإمارات العربية المتحدة