قصة قصيرة
كان يحب أطفاله حباً كبيرا،فقد أصبحوا كل حياته بعد أن ماتت أمهم وهي تضع طفلها الأخير.. كانوا بالنسبة إليه دنياه وأمله،وسلوان وحدته منذ أن رحلت شريكة عمره،فأعطاهم كل حبه وكل عطفه،وكل الحنان الذي يمكن أن يقدمه الأب لأبنائه .وعلى الرغم من كل هذا لم يستطع الأب المسكين أن يزيل تلك المسحة من الحزن التي كانت ترتسم على وجوه الأطفال الأبرياء منذ ذلك اليوم الذي فارقتهم فيه أمهم وافترقوا عنها.. كان يعلم أنه عاجز تماماً أن يمسح دمعة واحدة من دموعهم كانوا ثلاثة: صبية في الحادي عشرة وولدان أحدهما بلغ الثامنة من عمره والثاني في الرابعة ..أنه هذا الأخير الذي لم تتحمل أمه آلام الوضع وهي تلده.. فماتت بعد أن وهبته الحياة.كم كان ألمه عظيماً.. وكم كان حزنه شديداً وهو يرى هذا المولود الصغير في مهده،وحده،بلا أم.. أربعة أيام كاملة أمضاها الأب المسكين وحده مع المولود الجديد،ومع دموع طفليه الآخرين،إلى أن جاءت أخت زوجته،لتحمل الطفل بعيداً وتضمه إلى أسرتها هي،وتحاول أن تعطيه من حبها ورعايتها ما يعوضه عن الحب الذي فقده في مهده.وبقي الصغير عند خالته حتى أشتد عوده،وبلغ السن القانونية التي تسمح له بدخول المدرسة.. فحملته خالته،وعادت به إلى والده لتسلمه الأمانة،وتعيد له ذكرى تلك اللحظة الأليمة التي طالما استعان بالزمن على نسيانها.. ولكن كيف ينسى،وها هو يلتقي وجها لوجه من جديد مع الثمرة التي نبتت وكبرت فوق أرض قاحلة!.ومزقه الحزن عندما جاءت لحظة الوداع،وسمع الصغير وهو ينادي خالته ويقول لها:“ لا تتركيني وحدي في هذا البيت يا أماه”!قالت وهي تقبله وقد امتلأت عيناها بالدموع:“ هذا والدك،وهؤلاء هم إخوتك ستكون أسعد حالا هنا يا بني.. وسأعود لزيارتك؟.وخرجت مهرولة قبل أن تخونها أعصابها.. لقد أحبته كما لو كان ابنها.. كيف لا؟ وهي التي حملته رضيعا وربته ورعته..ثم إذا بها تفترق عنه ويفترق عنها،وهي التي كانت له أما طوال الأعوام الأربعة الماضية..وأحست بقلبها يغوص بين ضلوعها!ومرت السنوات.. والحيرة تستبد بالأب المسكين “ كلما رأى ابنته تكبر وتكبر.. كان قريبا منها عندما كانت طفلة أما الآن وقد بدأت تنضج وتتحول إلى فتاة شابة..وبدأت الفتاة تحس كما لم تحس من قبل بحاجتها إلى أم ترشدها وتوجهها وتنصحها.. حتى شقيقاها اللذان طالما كان تقضي معها كل أوقات فراغها في اللعب والجري،بدأت تبتعد عنهما.. فقد بدأت الفتاة تشعر بأنوثتها.. بدأت ترى في مرآتها وحدها هذا الإنقلاب الذي طرأ عليها.. فانطوت على نفسها!وصار الأب حائراً،ماذا يفعل؟هل يتزوج؟ إن أبنته في حاجة إلى امرأة تكون لها أماً.. امرأة تحكي لها متاعبها وأسرارها ولكن من أين له أن يضمن أنه سيجد في هذه المرأة التي سيختارها زوجة ثانية له،الأم التي يمكن أن تثق بها أبنته وتحبها وتطمئن إليها.. ثم من يدري فربما وجدت ابنته في هذه الزوجة أماً.. ولكن ماذا يحدث إذا انقلبت هذه المرأة بعد زواجه بها إلى إنسانة أنانية ترى في كل ما يذكره بزوجته الراحلة،منافسا لها.. لابد من التخلص منه،حتى لو كان هذا المنافس ابنته وولديه!.وسرعان ما استبعد الفكرة عن ذهنه، وطردها من رأسه وبقى في حيرته! أو خطر له خاطر.ما لبث أن شرع في تنفيذه على الفور .. بعد بضعة أشهر سوف تكمل ابنته دراستها الثانوية، لماذا لا يرسلها إلى خالتها لتعيش معها وتكمل دراستها الجامعية هناك.؟ حقيقة سوف يعز عليه فراقها .. سوف يفتقدها ويفتقد ابتسامتها الحلوة التي طالما ذكرته بأمها، وحديثها العذب الذي شاءت أن تحجبه عنه وهي ترى الأيام تصنع بها ما تصنع في هذه السن التي تحس فيها الفتاة بحاجتها إلى أم تحكي لها تجربتها مع الزمن!وحزمت الفتاة حقائبها وسافرت إلى بيت خالتها .. وانتابها شعور غريب في تلك اللحظة، هو مزيج من السعادة والألم .. فقد كانت تحب هذه الخالة التي ستذهب لتعيش معها، ولكنها كانت في الوقت نفسه تحس بأنها سوف تفتقد والدها وشقيقيها .. الذين اعتادت عليهم واحبتهم.والتحقت الفتاة بالجامعة .. وذهب والدها لزيارتها مرتين عند خالتها .. وعندما جاء للمرة الثالثة، كانت في انتظاره مفاجأة .. لقد تقدم شاب من أسرة طيبة يطلب يد ابنته الحسناء .. وارتمت الفتاة بين ذراعي والدها وبكت..ودمعت عينا الوالد وهو يحتضن وجهها بكلتا يديه ويتأمله .. ما أسرع مضي الأيام .. طفلته الصغيرة كبرت، وأصبحت عروساً في غفلة منه، ومن الزمن .. لم ينم في تلك الليلة .. كم كان يتمنى أن تعيش زوجته وأم أطفاله لترى هذا اليوم الذي ستزف فيه طفلتها .. ما أحوج أبنته إلى أمها اليوم .. إنها لم تتكلم .. لم تقل له شيئاً ولكنه قرأ في عينيها أشياء كثيرة .. وأحس بألم يمزق قلبه!وبات ليلته مع الذكريات .. ومع المرأة التي رحلت بعد أن أثقلت رأسه بالهموم والأحزان وذهبوا ليوقظوه في الصباح، ولكن الأب المسكين لم يستيقظ .. لقد مات .. هذه الفكر والألم فسكت قلبه إلى الأبد.وعلى مائدة صغيرة بجوار فراشة، كانت هناك رسالة قصيرة موجهة إلى أبنائه الثلاثة، قال الأب:“كنت أتمنى لو أمتد بي العمر قليلاً .. ولكن هكذا شاءت إرادة الله .. لقد كنت أحس بدنو أجلي .. وفي هذه الليلة بالذات شعرت بأنها تناديني .. نعم! إنني ذاهب إليها يا أبنائي .. ذاهب إلى أمكم الحبيبة التي رحلت وتركتني أعاني في وحدتي أكثر من عشر سنوات كاملة .. لقد أعطيتكم كل شيء .. كل ما يستطيع أن أعوضكم عن حنان أمكم وعن حبها ورعايتها .. كنت أتمنى أن أرى زوجك المقبل يا طفلتي الحبيبة الصغيرة لأوصيه عليك ولكنها إرادة الله!”