تقديم: نادره عبداالقدوسعشرينات كنا حين التقينا لأول مرة .. سنون غربة الدراسة الجامعية في كلية الصحافة في جامعة موسكو في اواسط السبعينيات، فنسجنا الخيوط الأولى لصداقة مثينة لن تنفصم عراها على مر السنين.عرفتها فتاة مقبلة على الحياة بتحدٍ لا مثيل له وهي القادمة من بلد توأد فيها الحياة كل يوم.كانت مبدعة في الإقناع عندما تسهب عن قضيتها الوطنية وكان يضرب بها المثل في الصدق وحب الآخرين وطيبة وسعة قلبها وفي الأمانة وفي ذاكرتها القوية .تلك الفتاة الهادئة الفخورة بفلسطينيتها وداد البرغوثي اضحت اليوم الاإعلامية والأديبة وأستاذة الجامعة التي يشأر لها بالبنان في المشهد الثقافي والإعلامي والوطني الفلسطيني والعربي. فقد صدرت لها دواويين شعر وروايتان وقصص قصيرة ولها العديد من المقالات والكتابات الصحفية في القضية الفلسطينية والعربية ولها رواية جديدة تحت الطبع ورواية أخرى قيد الإنجاز .ما ننشره اليوم قصة حقيقية وقعت لأديبتنا في تاريخ 14 أكتوبر عام 1988حين داهمها جنود حيوانيون بصورةبشر على حين غرة في بيتها، وكانت قطعة أدبية رائعة موسومة بـ صورة من ذاكرة برسم الفقدانأحاول أن أفتح عيني، لا أستطيع. الدنيا تدور بي وتدور تدور. أحاول أن أمسك بدولابها لأوقفه لكنني أحس برأسي يرتطم بالدولاب وحالة من الألم الحاد تتلبسني وتشق رأسي ولا أستيقظ. وخلال محاولاتي المتكررة والعاجزة لأفتح عيني، أرى أغصان الزيتون تتدلى على وجهي خفيفة ناعمة، حبات الزيتون تلامس خدي باردة ، أحسها حبيبة يفوح منها الزيت، أمد يدي لأمسك بها، أتحسسها تفلت مني فجأة وتتحول إلى عصي غليظة تنهال على رأسي، أصرخ صرخة تزلزل الجبال ، لكن الصوت يختنق على شفتي ويموت، صرخة بدون صوت شيء بارد يندلق على وجهي ، تأخذ الغشاوة بالاندياح عن عيني شسئا فشيئا، أسمع صوتا كالدوي . . كالصراخ. كالأزيز، وأحيانا أسمعه صوت شيء يتهاوى على رأسي : لقد فتحت عينيها .قالت قريبتي. تمتد أربع أيدي تحتي، تحت رأسي. . تحت ظهري. . تمسح جبيني. . تمر برقة على عيني. إحداهما ترفعني ، تسندني إلى صدرها، ثمة وجه محبوب يبدو قبالتي. . وعينان دامعتان، تمسح صاحبتهما الدموع لكنها تنهمر من جديد، تقترب مني، أحس حرارة دموعها وأنفاسها تلفخ وجهي،: كيف أنت . . أبتسم، أو هكذا أحسست. لا أدري إن كنت فعلا ابتسمت أم لا أقول لها : أنا بخير. لا أدري إذا قلت فعلا أو هكذا هيء لي سمعت صوتها تقول: الحمد لله الذي أعادك للحياة . إنه حظ هذا الصغير. وأشارت إلى السرير حيث يرقد طفلي بأيامه التسعين التي هي كل عمره. ملابسي غارقة، بالدم، بالماء، من أين جاء كل هذا وكيف؟ متى؟ من فعل ذلك؟ ولماذا وبأية جريرة؟ لم أستطع التذكر أذناي كأنهما خلية نحل، شيء ما يطن فيهما، يتدفق شيء لزج، وجهي كله لزج، وضعت يدي على وجهي فإذا هي غارقة في الدم. . النساء يبكين. . ذهولي ودهشتي جعلهن يعتقدن أنني فقدت الذاكرة حماتي التي ما تزال تمسح دموعها دون جدوى تحضن كتفي بيدها تقول : الحمدلله ، لم تموتي، يجب أن تذهبي إلى المستشفى. وحوش. بلا رحمة. خفنا أن يقتلوك.بدأت ألملم خيوط القصة. سألت : من أنا؟ عرفت نفسي. عرفت كل النساء الملتمات حولي،نظرت إلى السرير ، تذكرت أن لي طفلا جميلا كان يرقد فيه ذات لحظة. إنه لا يزال راقدا ، لم يفارقه هدوؤه، أو هكذا تهيأ لي. فجأة اكتمل النسيج. وبدت القصة واضحة. أدركت أنني كنت في غيبوبة، وفي فقدان للوعي، وربما للذاكرة. لكنه لم يطل. سألتها : لماذا تبكين؟ هل قتلوا أحدا؟ هل ضربوا أحدا؟ . انهارت حماتي، فيما أخذت المرأة الأخرى تدلك الجهة اليسرى من وجهي لتعيد إليها الحياة. قالت حماتي عبر دموعها: أرأيتن؟ إنها لا تدرك ما جرى. لا تدرك أننا نبكي عليها .نهضت عن السرير، كان رأسي ثقيلا ككتلة متحجرة من الزئبق، يشدني إلى الأسفل لكنني قلت: إذا كانوا لم يضربوا أحدا غيري فلا داعي للبكاء، أنا بخير. وأمسكت بيد المرأة القريبة الأخرى التي ساعدتني على النهوض من أجل استبدال ملابسي المبللة بالدم والماء. غسلت وجهي وعنقي ملأت فمي بالماء كي أتمضمض، حاولت المضمضة فاندلق الماء من الزاوية اليسرى للفم وكأنه يندلق من قربة مثقوبة. أدركت الحقيقة، أدركت أن شللا من نوع ما أصابني ، طنين النحل يملأ أذني اليسرى، ألهذا الحد وصلت الأمور؟ أفقدت قدرتي على التحكم بجرعة ماء في فمي؟ نظرت حولي، هل أعترف أنه من الضروري أن أسرع إلى المستشفى؟ هل أغامر؟ لكنني خشيت أن يكون الجنود ما يزالون في القرية وأن يذهب أحد ضحية لهذه المغامرة غير المحسوبة سألت : هل ما زالوا في القرية؟ أجابني صوت إحداهن: إنهم ما زالوا في مدخل البلد.سكت، أجلت اعترافي بالحقيقة المرة. قلت: أنا بخير، لا أحس بأي شيء. ولا داعي للذهاب إلى المستشفى. بعد مضي بعض الوقت تحركت سياراتهم، خرجوا من القرية. عندها كان لا بد أن أعترف: سأذهب إلى المستشفى. قلت - في الطريق إلى القدس، والمسافة تصل إلى ثلاثين كيلومترا، بدأت أدرك أكثر من أي وقت مضى جدية الأمر، ذلك أن حركة السيارة كانت تشعرني أن زلزالا قد سكن رأسي ولا بد لهذا الرأس أن ينهار بين لحظة وأخرى. كرة من الرصاص ثقيلة أحسستها تقفز من مكان إلى لآخر وتضرب الجدران الداخلية للرأس شيء يضغط ويضغط وكأن رأسي موشكة على الانفجار، وأن عيني ستقفزان من محجريهما. هل هذا حلم منام أم حلم يقظة؟ هل كابوس أو محض إغفاءة لن تطول؟ لا أستطيع أن أتأكد من شيء. الشيء الوحيد المؤكد هو آلام الرأس التي لا تطاق بعد سويعات كنت على سرير مستشفى المقاصد. يقف أمامي طبيب أعرفه منذ أيام الجامعة، خريج الاتحاد السوفييتي سابقا. يمسك بصور الأشعة، ينظر في الصورة تارة وفي وجهي تارة أخرى، يسألني: ما اسمك؟ من أين أنت؟ أسئلة أثارت استغرابي لأنه يعرف أجوبتها. هل بهذه السرعة ينسى الأطباء معارفهم وأصدقاؤهم؟ فكرت أن أقول له ذلك لكنني خجلت. فقلت له: ألا تعرف اسمي ؟ ألا تعرفني؟ وأرغمت نفسي على الابتسام رغم الألم قال: هل تعرفينني؟ قلت : طبعا . قال من أين؟ شعرت باستياء شديد ؟ ألهذا الحد يفعل الزمن فعلّه فينسى. المرء أصدقاءه .أجبته على عدة أسئلة لم يسألها: أنت الدكتور مصلح مصلح، من بيت صفافا، درست في الإتحاد السوفييتي ، تعرفت عليك في مهرجان بذكرى يوم الأرض في موسكو، وزوجتك الدكتورة مايا السالم كان في عينيه شيء لم أدرك لحظتها أنه الدهشة ولكنني علمت ذلك بعد أكثر من شهر حين زرته في عيادته. اقترب مني مهنئاً: الحمد لله على سلامتك. ذاكرتك سليمة رغم كل شيء ، فأنا قطعت إجازتي لأجري لك عملية فتح رأس لكن يبدو أنك لن تحتاجيها.أحسست في هذه اللحظة أن ما كان وما جرى شيء خطير للغاية. وبدأت أحاول اختبار ذاكرتي هل هي سليمة، أم أنها عطبت؟ ماذا حدث بالضبط؟ كيف بدأ الخوف من فقدان الذاكرة؟ حاولت أن أتذكر، وبدأت أدرك أن ما مضى لم يكن حلما، ولم يكن كابوسا أو تخيلاً.كان منتصف تشرين أول، العام الأول للانتفاضة، واليوم الأول في موسم قطف الزيتون . أهل القرية ينتشرون في حاراتها يحملون سلالمهم وعصيهم ومناشيرهم، يسوقون دوابهم المحملة بالأكياس والمؤونة والماء. واحتياجاتهم ليوم عمل كامل وأدواتهم لموسم عمل كامل في قطف الزيتون. كنت أنا أيضاً ككل أهل قريتي أستعد لهذا اليوم أو لهذا الموسم، وأعد العدة كذلك لنغادر نحن النساء البيت، فيما سيبقى الأطفال برعاية جدتهم. تلك كانت خطة العائلة للموسم. وأنا بحكم الإغلاقات والحواجز وكوني أيضا في إجازة ولادة لن أذهب إلى مكتبي في المدينة كنت قد لبست ملابس العمل حين دخلوا البيت. توقعت لحظتئذ أنهم قادمون للبحث عن زوجي المطلوب، وأنهم سيسألون عنه ويفتشون البيت ويغادرون. وشعرت بالطمأنينة لعدم وجوده في البيت إثنان منهم كانا ضخمين طولاً وعرضا. تقدم أحدهما وسأل بعربية مكسرة : هل يوجد في البيت شباب؟ أجبنا بالنفي. فتشوا. كنا في البيت حينها خمسة أشخاص. أنا وحماتي وكنتها الكبرى. وهي حامل في شهرها السادس وطفلي وطفلتها. نظر أحد الجنديين الضخمين إلي وقال بذات العربية المكسرة: إطلع أمسح شعار على سور كان سور بيتنا مليئا بالشعارات لمختلف فصائل الحركة الوطنية والإسلامية، شعارات كتبت في ذكرى مذابح صبرا وشاتيلا. فتح، حماس شعبية، ديمقراطية، شيوعي . . . إلخ فسور منزلنا كبير يتسع لكل ذلك ويمتد مع الشارع الرئيس وسط القرية. تدافعت أمام عيني صور لمنظر المجزرة لا يمحوها الزمن، ولا يمكن للشعارات أن تزيدها رسوخا في الذاكرة أو تخفف من وقعها. أشلاء الأطفال، قطع اللحم الآدمية الملتصقة بالأنقاض، صورة وسام حمام الطفل اللبناني ابن الأعوام الستة، وعماد رعد ابن السنوات التسع وهيام واكد ابنة الحادية عشرة، وطفل آخر سبقني الموت إليه قبل أن أصله في المستشفى العسكري في موسكو، أطفال من ضحايا لمجازر مختلفة شهدتها لبنان قررت أن أرفض طلبهم حتى لو كانت حياتي ثمنا لهذا الرفض. رفضت. قلت له : لن أمسح الشعارات أخذ أربعة من الجنود يكسرون زجاج النوافذ. ونحن ننظر إليهم. عاد أحدهم إلي وقال : هل تمسحين الشعارات أم، نواصل شغلنا؟ قلت له: واصل شغلك إذا كان ذلك يروق لك . وفعلا يبدو أن هذا " الشغل" كان يروق لهم، لكن ما لم يرق لهم هو ردة فعلنا . فتناول قنبلة غاز أمسك بحلقتها، كان الشرر يتطاير من أعينهم، أوداج الذي يمسك بالقنبلة تنتفخ وترتجف. أرادت حماتي أن تكسر حدة الموقف الذي لن ينتهي على خير. فقالت: هي لا تستطيع أن تخرج، فقد أجريت لها عملية جراحية تقصد بذلك عملية الولادة القيصرية- وأنا سأمسح الشعارات. قال : فقط هذه ال... .. وأكمل شتيمته، وأراد أن يسحب أمان قنبلة الغاز. لحظتها لم أفكر في ردة فعلهم ولم أفكر في شيء سوى في طفلين صغيرين يرقدان في الغرفة وحماة مريضة بالضغط وتضخم القلب وتصلب الشرايين، وكنة حامل ، نسيت العملية الجراحية التي لم تكد تلتئم بعد، وأحسست أنني الوحيدة القادرة على حماية هؤلاء الأربعة من سموم غازهم. أمسكت بيده التي تمسك القنبلة وباليد الأخرى أمسكت يده الأخرى التي تعتزم سحب حلقة أمانها وبكل ما أستطيع من قوة دفعته إلى خارج البيت ، أرتطم ظهره بالباب وسقطت القنبلة من يده على الأرض ولكن دون أن تنفجر ، فلم يكن قد سحب حلقتها بعد. لكن الذي انفجر هو جنونهم، هجموا علي بأكعاب بنادقهم، بأيديهم وبقبعاتهم المعدنية الصلبة ، أنهالوا علي بالضرب بكل ما ملكت أيديهم. في البدء كنت أرد ضربتهم ، لكن ضربات متتالية من قبعة الضخم ذي الأوداج المرتجفة على أم رأسي أفقدتني الوعي وسقطت على الأرض. في المستشفى ومن خلال سلسلة من الفحوصات والصور الطبقية والعادية تبين أن هناك نزيفا على الدماغ و كسورا في الجمجمة وشللا في الجهة اليسرى من الوجه، الفم والعين وعضلات الخد . أغفو وعيني اليسرى مفتوحة، وفمي يميل وتشنجات تنتابني بين مدة وأخرى. انتهت هذه التشنجات. أخبرني الطبيب فيما بعد أنني كنت معرضة لفقدان الذاكرة وربما للجنون لولا لطف الله. لامني بعض الزملاء من الصحفيين الذين لطيب نواياهم أو لسذاجة بهم لأنني لم أبرز بطاقتي الصحفية للجنود لكن أحد الوجوه القيادية في نقابة ا لصحفيين أبرزها لهم مع البطاقة الدولية حين اعترضوا طريقه رغم إشارة الصحافة على سيارته، فتناولوا البطاقات المتعددة الألوان والجنسيات التي أبرزها أخذوها مع مفاتيح سيارته وقذفوا بها في الأشواك على بعد عشرات الأمتار ولم يعلقوا عليها سوى بكلمة واحدة : طز .فهل بعد ذلك سأغامر وأبرز لهم البطاقة؟ من ناحية أخرى فإذا كان سيحترمون البطاقة ويكفون عن ضربي فمعنى ذلك كأنني أعطيهم الحق بضرب طفلي أو. حماتي أو أي شخص لا يحمل بطاقة الصحافة. لا أدري إذا كان يجب علي أن أتروى أكثر قبل نشر هذه الصورة أم لا . لكنني أخشى أن أقول سبق السيف العذل يداهمني فقدان الذاكرة على حين غرة قبل أن أتمكن من ذلك . فقررت أن يسبق العذل السيف قبل أن أقول سبق السيف العذل.
|
ثقافة
وداد البرغرثي .. إنتصار من رحم الوجع
أخبار متعلقة