أقواس
لبنى الخطيب :في الساعة التاسعة والنصف مساءً من يوم السبت الموافق 9 /8 / 2008م كنت مع ال (B B C) العربية وما جاء فيها من أخبار عاجلة . وبينما كنت أتصفح الموقع الاليكتروني لإذاعة ال B B C العربية تضاربت الأنباء حول الحالة الصحية للشاعر الكبير محمود درويش وورد الأتي : (( صرحت مصادر فلسطينية السبت أن الشاعر الفلسطيني محمود درويش في وضع مقلق ويخضع للتنفس الاصطناعي منذ يومين بعد حدوث مضاعفات لعملية القلب المفتوح التي خضع لها في مدينة هيوستن بولاية تكساس الأميركية )). في تلك اللحظة قلبي انقبض، حاولت أسيطر على نفسي لحظتها لأتمكن من البحث في أكثر من موقع إعلامي للتأكد من صحة ومصداقية هذا الخبر تكلمت مع روحي إنها ليست بمزحة ولسنا في الأول من ابريل و للمكانة الكبيرة لمحمود درويش في إعلامنا وقلوب الملايين لن يتجرأ أي موقع أو وسيلة إعلامية أن تبث شائعة بهذا الحجم والمعنى وأكيد ليس هناك لبس في الخبر و لا يمكن أن يكون من باب الخطأ غير المقصود عن قامة كبيرة مثل شاعرنا محمود درويش. لم أتمالك نفسي حينها بكيت و تألمت عليه ليس لأنني ضد القدر والمكتوب و أنا مؤمنة بالله ولكل إنسان اجل وهذه سنة الحياة ، ولكن ماذا يعني لي شخصيا محمود درويش و للأجيال التي من قبلي ومن بعدي من عرفوه شاعرا وطنيا مكافحا بالكلمة بمعانيها الأقوى من الرصاص. و بعد 45 دقيقة جاء الخبر اليقين وغطت جميع القنوات الإعلامية الخبر مؤكداً نبأ وفاة محمود درويش. كانت لحظات صعبة ومؤثرة في نفسي والموت حق وان تعددت صوره ، الرحمة والمغفرة لشاعرنا الكبير والصبر والسلوان لأهله والشعب الفلسطيني والعربي من المحيط إلى الخليج ولعشاق الحرية والشعر على امتداد الكرة الأرضية ولأصدقائه ومحبيه الكثُر . محمود درويش لم يكن ملك نفسه كان ملك الجميع كبرنا على قصائده ومازلت مؤثرة فينا. تمر هذه الأيام أربعينية محمود درويش وهو في حياته لم يخشي أبدا الموت والقدر إلا أن الشيء الوحيد الذي ظل يخشاه هو موت القدرة على الكتابة .إن شاعرنا الكبير الراحل الباقي بأعماله ومواقفه في معاني قصائده و لإشعاره المسجلة بصوته وحركات شفتيه ويديه إن قصائده المكتوبة والتي تغنى بها فنانون و تميزوا بأدائها وتميز فيها أكثر صوت مارسيل خليفة وفرقة الميادين اللبنانية و من حسن حظي وآخرين كان لنا نصيب كبير في حضور عدد من الحفلات الفنية التي أقامتها هذه الفرقة بمشاركة مارسيل خليفة و احتضنتها عدن في ثمانينات القرن العشرين وتحديدا على خشبة المسرح الوطني المنارة الثقافية في عدن آنذاك و غذت مرتاديها بأنواع الفنون المختلفة و كما احتضنت محمود درويش و تشهد قاعة كلية التربية العليا بعدن أيضا على تلك الأمسيات والصباحيات الشعرية و للعديد من الشعراء والأدباء والمثقفين العرب الكبار أمثال ( ألجواهري ، احمد فؤاد نجم ، سعدي يوسف ، أيمن أبو الشعر ) وأخريين عرفتهم عدن في تلك الفترة وتعرفنا عليهم . إن تجربة مارسيل خليفة مع أعمال محمود درويش ملحنا ومؤديا لها وفرقته اللبنانية ( الميادين ) مطلقا بذلك ظاهرة غناء القصيدة الوطنية الفلسطينية التي تمتزج فيها صورة المرأة الحبيبة بالأرض و الوطن أو الأم و الوطن معا (ريتا و البندقية) و(أجمل الأمهات ) ولسنوات محققة مزجا رائعا بين العود و شعر درويش الرمزي الوطني العاشق فكانت ( أمي ) و (جواز السفر) أفضل شعارات يحملها و ترددها الجماهير العربية المنادية بالنضال في فترة ما بعد النكسة . شكل مارسيل و درويش أقرب ما يشبه الثنائي في أذهان الناس ، رغم أنهما لم يلتقيا إلا في فترة متأخرة. أبدع درويش قولا وعملا وترجمت أعماله إلى ما يقرب من 22 لغة كما تحولت قصائده إلى شعارات سياسية وأغان للفلسطينيين تحت الاحتلال وفي الشتات وأشهرها قصيدة (بطاقة هوية ) التي يقول مطلعها ( سجل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألف) وقصائد أخرى يحفظها الكثيرون من العرب والأجانب التواقين للحرية والسلام والأمل بعودة القدس وكل شبر من الأراضي الفلسطينية .حمل محمود درويش وطنه في حقيبة سفره أينما حل وحطت به الرحال وصفه للوطن بلغة بسيطة ومفهومة محافظة على مدلول المكان والزمان فوصلت أشعاره إلى قلوب الناس مخترقة الحواجز اللغوية والسياسية والجغرافية و التفاوت العمر ي بين معجبيه، ألف رحمة عليك أيها الشاعر الحاضر في قلوب الملايين ويتجدد تواصل محبيك لأعمالك الشعرية المحفوظة في الذاكرة وبين صفحات الدواوين المنشورة أو بالاستماع لأغنية أو دندنة مع النفس الداخلية لقصائدك ومناسبات كثيرة ستذكرنا بك وبفلسطين التي مازالت جريحة ومغصوبة . إن اختيار المكان الذي واريت فيه الثرى ليس من باب الصدفة و لا غريب على الكثيرين في معانيه لا وألف لا لقد صار رمزا و مزارا لمن يمكنه الوصول إليه من إخوة فلسطينيين و عرب أو أجانب من زوار رام الله وفلسطين. إن البعد الأخر الرمزي لضريحك فوق الربوة برام الله والمطلة على القدس التي تغنيت بها ولها وحلمت بالعودة إليها كعاصمة لفلسطين إلا أن يد المنون اختارتك لتصعد إلى جوار بارئها في الشهر المنصرم من أغسطس 2008م وكانت وتفصلنا فقط أربعة أشهر فقط لإعلان القدس ( عاصمة الثقافة العربية ) لعام 2009م تمنيت أنا وكل من يحبك أن تكون حاضرا بجسدك، إلا أن روحك سترفرف فوق القدس وفي كل مكان فترة الاحتفالية القادمة وبعدها أيضا . نم قرير العين هناك من لا ولن ينساك في نفسه و أعمالك التي أبدعت فيها بحبك لفلسطين و ستطلع عليها الأجيال القادمة ان شالله ، من هنا أقول محظوظون الذين سيبدؤوا بفكرة لإخراج وتمثيل وتجسيد شخصيتك في دور سينمائي أو وثائقي يوثق مسيرة حياتك الحافلة وتبقى في ذاكرة الأجيال الكبار الذين عاصروك ومن بعده جيلي والأجيال الحاضرة والقادمة وبقلبك المجروح منذ صباك بحب فلسطين حتى وصل إلى مرحلة غير قادر قلبك فيها على الخفقان بنبضاته الطبيعية و ودعت الحياة إلى دار البقاء بعد حياة مليئة بالحب للوطن والأمل وأعمالك الكثيرة الباقية لازمان قادمة يا محمود درويش .