مع الأحداث
عندما يبرد الجرح يصبح أكثر إيلاماً،هكذا تقول قاعدة معروفة. وهي قاعدة تنطبق تماما على أوروبا اليوم فيما بعد الأزمة المالية العالمية الأخيرة. أعلنت أوروبا موقفا موحّدا عندما هبّت رياح الأزمة العاتية. وحرص الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، من موقع رئاسة فرنسا للاتحاد الاوروبي حتى نهاية هذا العام، على أن يصطحب معه المفوض الأوروبي خوسيه مانويل باريزو أثناء لقائه بالرئيس الأميركي جورج دبليو بوش للتشاور حول سبل مواجهة هذه الأزمة. لكن إعلان المواقف شيء والفعل شيء آخر. إذ من الواضح أن حالة من الارتباك تخيّم على أجواء القارة الأوروبية القديمة. ومن أعراضها «همود»، إن لم يكن «تعطّل»، النمو الاقتصادي وحالة من القلق والتشكك تعتري الأوروبيين، أصحاب قرار ومواطنين، حيال المستقبل. وقبل هذا وذاك هناك العَرَض الأكثر بروزا المتمثّل في لعبة «شدّ الحبل» بين المفوضية الأوروبية، باعتبارها السلطة التنفيذية المسؤولة عن فرض احترام قواعد اللعبة التي كان قد جرى إقرارها بالإجماع في إطار الاتحاد الأوروبي، وبين بعض الدول الأوروبية التي لها رؤيتها الخاصة في مواجهة آثار الأزمة. هذا الوضع عبّرت عنه ببلاغة جملة قالها المفوّض الأوروبي باريزو قبل أيام وجاء فيها :» هناك قواعد ينبغي احترامها. وإذا تركنا كل دولة تفعل ما تشاء، فهذا يعني سيادة قانون الغابة». المقصود بوضوح هي فرنسا التي تقدّمت قبل أسابيع بخطة أعلنت بموجبها أنها سوف تضخ 5, 10 مليارات يورو في ستة من بنوكها الكبرى، وأكّدت أن الهدف هو تشجيع سياسة منح القروض المكرّسة للنهوض الاقتصادي. المفوضية الأوروبية اعتبرت صراحة أن دعم أية حكومة لبنوك بلادها بعدّة مليارات يمكن تصنيفه في خانة «المنافسة غير المستقيمة» وقد يؤدي إلى «تدمير» بعض البنوك «المستقيمة» في آليات عملها. هنا يتواجه في حقيقة الأمر مفهومان للتصدّي للأزمة وللنهج الاقتصادي عامة. مفهوم ليبرالي يمثّل في عمقه استمرارا لنهج ما قبل الأزمة حيث يؤكّد على احترام قواعد المنافسة والسوق؛ ومفهوم آخر يقول بضرورة تدخّل الدولة والسلطات العامّة كأحد الدروس الأساسية المستنبطَة من الأزمة نفسها. المشكلة ـ المعضلة الحقيقية في علاقة الدول الأوروبية بالمفوضية في السياق الراهن هي أن المفوضية تريد أن تثبت وجودها وأن تستعيد بعض سلطتها «المتضائلة» على خلفية المشاكل التي طرحتها الأزمة المالية العالمية...ومن جهة أخرى في كون أن الحلول المطلوبة للتصدّي لهذه الأزمة تتجاوز إمكانيات هذه المفوضية. وكانت المفوضية الأوروبية قد اقترحت خطّة للنهوض الاقتصادي الأوروبي ميزانيتها 200 مليون مليار يورو مع المطالبة بتبنّي مجموعة من الإجراءات، المبلغ كبير، وأكبر مما جرى توقعه ويمثّل 5, 1 بالمئة من إجمالي الإنتاج الداخلي الأوروبي ـ الثروة الأوروبية ـ، ولكنه أقلّ بكثير مما قررت الولايات المتحدة تكريسه لنهوضها الاقتصادي. الصحافة الأميركية تحدّثت عن مشروع للرئيس المنتخّب باراك أوباما يؤكّد على رصد 5 بالمئة من إجمالي الإنتاج الداخلي الأميركي ـ ما يعادل 700 مليار دولار ـ لتنشيط الاقتصاد. الصين ذهبت أبعد بتكريسها 18 بالمئة من إجمالي إنتاجها الداخلي ـ ما يعادل 450 مليار دولار ـ لدعم الاقتصاد الصيني خلال العامين القادمين. وفيما هو أهم من الفوارق الكميّة، تبقى خطة المفوضية الأوروبية مجرد «اقتراح» و«حبر على ورق» حتى يتم إقرارها من قبل الدول الأوروبية ال27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. مثل هذا الإقرار يصعب الوصول إليه ـ ومشكوك بفعاليته إذا حصل ـ أثناء قمة المجلس الأوروبي يوم 11 ديسمبر ـ القادم في ظل تردد بلدان أوروبا الشرقية والوسطى المنهكة اقتصاديا، وخاصة وأساسا بسبب تحفّظ ألمانيا على بعض نقاطه وإعلانها صراحة أنها لن تقدّم سوى 23 مليار يورو للخطط الأوروبية المشتركة. فمن أين سيأتي باقي ال200 مليار يورو؟!. هذا يعني عجز المفوضية الأوروبية عن تنفيذ قواعد كانت قد حظيت بقبول جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. عجز يضع القواعد نفسها «في مهبّ الريح» ؛أي يخلخل الأسس التي تقيّدت بها عامة البلدان الأوروبية حتى اليوم. إن رياح الأزمة المالية العالمية قد هزّت إذن مرتكزات مسيرة عمرها أكثر من نصف قرن.. وقاع البئر لا يزال عميقا، كما يبدو. ويبدو أيضا أن نيّة «تحجيم» المفوّضية الأوروبية قد أصبحت قرارا معلنا من قبل الثنائي الفرنسي ـ الألماني الذي يمثّل المحرّك الأساسي لمسيرة التوحيد الأوروبي منذ بداياتها حتى تجسّدها الحالي بدوله ال27. وكان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والمستشارة الألمانية انجيلا ميركل صريحين عندما أعلنا في «مقال رأي» مشترك نشرته صحيفة الفيغارو الفرنسية يوم الأربعاء 26 نوفمبر الماضي ما ترجمته: «لسنا بحاجة إلى تصديق مُلزم ولا إلى رقابة تفرض شروطها، ولكن إلى خطوط عريضة للتوجّه. ولا ينبغي كبح مسيرة الدول الأعضاء عبر إجراءات تمليها مؤسسات ذات سمة أوروبية شاملة». هذا يعني بـ «العربي الفصيح» الطلب من المفوضية الأوروبية عدم محاولة إعاقة خطط البلدين المعنيين. رغم هذا الموقف الفرنسي ـ الألماني الموحّد هناك تباين واضح أيضا في رؤية سبل النهوض الاقتصادي الأوروبي بين فرنسا وألمانيا. ولم يتردد وزير المالية الألماني أن يردد رفض بلاده الالتزام بدفع المليارات من أجل خطة للنهوض دون التحقق من الحاجة إلى ذلك. بل و«غمز» في مقابلة له مع مجلّة «دير شبيغل» الألمانية بما وصفه بـ «المزايدة اليومية» وقال :» إذا كانت بلدان أخرى غير ألمانيا ـ يقصد فرنسا ـ تزايد يوميا بالمليارات فليس علي أن أفعل الشيء نفسه». الرئيس الفرنسي، وعلى الرغم من الرأي المتحفّظ الذي أصدرته المفوضية الأوروبية حيال المشروع الفرنسي، لم يتراجع عن موقفه«قيد أنملة» وأكّد قوله في نهاية الأسبوع الماضي «الجميع يفهمون أن العالم قد تغيّر، وعلينا أن نمضي إلى الأمام بسرعة أكبر». هكذا تبدو مسيرة أوروبا اليوم متعثّرة وكل بلد «يغني على ليلاه» ولكل منها خطته في مواجهة الأزمة. الفروق الكبيرة بين هذه الخطط ستتم ترجمتها حكما بفوارق على صعيد الفعالية...رغم أنها تقول كلّها بـ «المضي إلى الأمام بسرعة أكبر».لكن إلى أين؟! [c1] كاتب سوري ـ باريس[/c]