المرأة اليمنية المناضلة
كتبت / نادرة عبد القدوسككل عام نترقب هذا التاريخ ونشرع في الكتابة عن أحداثه وفي كل مرة كأنما نلقي بحمولتنا من الكلمات والمفردات ليتلقفها القارئ ويحكم عليها كشاهد على العصر .. هل أعطينا المناسبة حقها ؟ وهي ليست بالطبع أية مناسبة ..إنها ثورة شعب تفجرت رحاها لتهشم التاج البريطاني وتهز عرش الإمبراطورية التي لم تغب عنها الشمس وتقض على مضاجع عساكرها وضباطها ومن والاهم .. ولتسطر أحرفاً من نور في تاريخ اليمن النضالي لتكون بداية النهاية لعهد الاحتلال الانجليزي المتغطرس ..وكانت ثورة 14 أكتوبر المجيدة التي اندلعت نيرانها من قمم جبال ردفان الأبية انعكاساً لما كان يُعتمل في كل ركن من أركان جنوب اليمن المحتل ، وكانت نتاجاً لنمو الحركة الوطنية والسياسية التي شهدت مدينة عدن بدرجة رئيسية وعدد من المدن الجنوبية ولادتها ونشوئها في نهايات الأربعينيات وبزوغها في الخمسينيات والتفاف الجماهير اليمنية المسحوقة حولها .. وكانت هناك الجمعيات الأهلية والخيرية إلى جانبها والتي كان معظمها يمثل غطاء لعنفوان النشاط السياسي الفاعل بين أوساط الجماهير التي وعت دورها النضالي وآزرت رموز القوى السياسية الثورية حتى تحقق الاستقلال الوطني في الثلاثين من نوفمبر عام 1967م .وكان للمرأة اليمنية دور بارز في معمعة النضال السياسي منه المكشوف والواضح ، ومنه المستتر تحت غطاء العمل الخيري والاجتماعي .. وبرزت عناصر نسائية عديدة ، وإن تناساها مسجلو التاريخ ، إلا أنها عالقة في "ذاكرته التي لاتخون" .. وقد أثبتت المرأة في جنوب الوطن وبالذات في مدينة عدن قدرتها على استيعاب المرحلة النضالية السياسية وبذكائها الفطري أسهمت في ابتكار الوسائل والسبل الكفيلة في تأجيج الحماس الثوري في نفوس أبناء الشعب التواق إلى الحرية .. فنشأت في البدء جمعيات نسائية أهلية وخيرية في نهاية الأربعينيات لتغدو في الخمسينيات وأوائل الستينيات موئلاً للعمل السياسي بين صفوف النساء ونشر الوعي السياسي بين صفوف أبناء الشعب اليمني كله .. ورغم حداثة التجربة للكثيرات ورغم صغر أعمار بعضهن ، إن لم يكن جلهن ، ورغم الواقع المتخلف للمجتمع اليمني الذي كان يفرض على المرأة قيوداً تمنعها أحياناً كثيرة من الحركة بحرية ، إلا أن ذلك لم يمنع المرأة اليمنية والعدنية بالذات من خوض غمار الفعل السياسي وسبر أغوار أسراره ومخر عباب البحر الهادر . ويسجل التاريخ أسماء نسائية عديدة كان لها شرف الريادة في النضال السياسي والاستشهاد .. ومن لا يذكر الشهيدة لطيفة علي شوذري التي استشهدت برصاص قناصة بريطاني أحمق وهي في مقدمة مظاهرة سلمية معظمها من النساء في مدينة كريتر عام 1965م . ورغم صغر سني يومها (10 سنوات) إلا إنني أذكر تماماً ذلك اليوم فقد شهدت المظاهرة وشهدت استشهاد رفيقة الطفولة لطيفة التي كانت تسكن بجوارنا في الحي الشعبي البسيط المتميز بفقرائه وكانت أسرتها واحدة من هؤلاء وكانت لطيفة المعيلة الوحيدة لها فقد عملت وهي في عمر الزهور كجندية في شرطة كريتر ، وفي الوقت نفسه كانت تنشط سراً في إحدى الخلايا الوطنية الفدائية .. وما نود أن نسأله هنا " أين موقع المرأة اليمنية المناضلة من مراكز صنع القرار اليوم ؟ " ألم تستحق عناصر نسائية كثيرة من المناضلات أن تتبوأ مراكز قيادية في السلطة بعد تحقيق الاستقلال ؟ وهن لا يقللن ثقافة وفكراً عن زملائهن الرجال الذين بعضهم لم يشاركوا في الكفاح المسلح ولا حتى في الحركة الطلابية التي تزعمتها الطالبات في عدن والتي يشهد لها التاريخ دورها النضالي المباشر ضد الاحتلال ؟ بل إن كثيرات من المناضلات تم تهميشهن عمداً وإصدار الأوامر برميهن في غياهب النسيان .. والسبب أنهن كن ينتمين إلى تنظيمات سياسية مناوئة للتنظيم السياسي وحلفائه من التنظيمات والفصائل الوطنية الأخرى التي شاركت في الحكم بعد الاستقلال .تذكر المناضلة رضية إحسان الله وهي من أبرز المناضلات اليمنيات إبان الاحتلال وكانت من المغامرات الجريئات والجسورات اللاتي خضن العمل السياسي دون خوف أو وجل من قمع جنود السلطة الاستعمارية وذاقت صنوف التعذيب النفسي وهي في زنازينهم " لم يكن نشاطي السياسي منظماً بل كان عفوياً يدفعني إلى ذلك حبي لوطني وتوقي إلى الحرية من نير الاستعمار وكسر القيود التي كبلت المرأة دهراً " وتضيف هذه المرأة التي ناهزت اليوم العقد السابع والمنزوية في شقتها الهادئة المتواضعة دون أن يذكرها أحد ولو بالسؤال عن صحتها ، وهي التي أسست جمعية المرأة العربية عام 1960م وكانت من أبرز الكيانات النسائية العدنية حينها والتي لعبت دوراً بارزاً في النشاط السياسي " لم نكن نحن الفتيات نفتعل حماسنا الثوري ولم نكن ننتظر مقابل هذا الحماس كأن يدفع لنا المال أو المدح .. لا لا إن سعادتنا كانت تكمن في إلقاء خطاب سياسي أمام عدد من النسوة أو في ندوة كانت جمعيتنا تنظمها وكنت ألقي الكثير من الخطابات الاجتماعية التي تناقش قضايا الأسرة والمرأة ومساواتها بالرجل تلك الخطابات كانت لها ردود أفعال عند المواطن المتلقي وكنا نشهد على وعيه من خلال النقاشات ومن تم كنا نتدرج في الخطاب لنلامس الواقع السياسي مما يفقد صواب سلطة الاحتلال فتعمد إلى توقيفنا ومتابعة نشاطاتنا ومراقبتنا واعتقالنا في كثير من الأحايين وهو إرهاب كان يمارس ضدنا إلا أنه لم يكن يثنينا عن الاستمرارية .. وكنا ندخل البيوت ونلتقي نسائها ونقوم بتقديم بعض الدعم المادي والعيني ، كما كنا نقوم بتنظيم عدد من النشاطات الفنية والثقافية ليذهب ريعها للأسر الفقيرة أو لأسر العمال المعتقلين في سجون الاحتلال البريطاني في عدن والذين كانوا ينتفضون ضد السياسة الاستعمارية والقوانين الجائرة التي كانت تصدر عن سلطات الاحتلال كما حدث عام 1960م حين صدر قانون منع الإضراب " . كثيرة هي المشهديات النضالية التي رسمت معالمها الرائعة المرأة اليمنية في هذا الجزء من الوطن . وفي خضم التفاعلات الثورية استمدت العناصر النسائية الشابة حماسها الوطني وكانت قد بدأت تتشبع بأفكار القومية العربية التي جاءت مع رياح الثورة المصرية وما يعتمل في الجمهورية الفتية من تطورات في مختلف مناحي الحياة . وكانت أول مظاهرة نسائية خرجت في عدن ضد سياسة الاحتلال والسياسة التربوية الاستعمارية في الأول من فبراير عام 1962م حين ارتفعت أصوات طالبات كلية البنات إلى عنان السماء معبرات عن رفضهن السياسة التربوية والتعليمية في كليتهن ، وطالبن بتعريب التعليم وبفتح المجال للحصول على شهادة الثقافة العامة أسوة بالطلاب الذكور كما طالبن بتغيير مديرة الكلية الإنجليزية . وقد أعلنت الطالبات إضرابهن عن التعليم واعتصامهن في الكلية مما أدى إلى اعتقال بعضهن والتحقيق معه . كانت المناضلة عيشة سعيد ناليه واحدة من هؤلاء الطالبات الجسورات ، وهي تحدثنا عن ذلك اليوم مما تجود به ذاكرتها " لن أنسى ماحييت ذلك اليوم فقد كان الموقف رهيباً .. لأننا كنا عدد من الطالبات اللاتي رفضن إدارة مديرة الكلية الإنجليزية آنذاك والسياسة التعليمية في الكلية . وكانت المديرة " بتري " معروفة بعنجهيتها وقسوتها ومعاملتها الفجة تجاه الطالبات .. فقررنا الخروج بمظاهرة نعبر فيها عن رأينا ولنلفت وزارة المعارف .. طبعاً كان خروجنا في المظاهرة عفوياً دفعنا إلى ذلك رغبتنا في التغيير وحماسنا الوطني .. ولم نكن ندرك خطورة هذا الفعل ولا نتائجه .. فقد تم اعتقال عدد من الزميلات وكنت واحدة منهن ، كما أصيب البعض بجروح بسبب الضرب المبرح من قبل جنود الاحتلال الذين تصدوا للمظاهرة بعنف " . إلا أن المظاهرة العفوية تمخضت عنها ردود أفعال إيجابية بعد أن تطورت الأزمة فاستشعرت السلطات البريطانية حينها خطورة الموقف ، خاصة وأن الحراك السياسي والثقافي الذي تقوده أحزاب وتنظيمات سياسية ووطنية يلوح بإحداث متغيرات على السطح يهدد وجودها . وكانت مظاهرة الطالبات وإضرابهن بمثابة جرس الإنذار حيث استقطبن في صفهن عدداً كبيراً من المواطنين الرافضين الوجود الاستعماري . لذا قام بعد ذلك حاكم عدن " تشارلس جونستن " بتشكيل لجنة من أولياء أمور الطالبات ، ولجنة أخرى تمثل وزارة المعارف لبحث السياسة التعليمية في كلية البنات وأسباب احتجاج الطالبات عليها . وقد حضر اجتماع اللجنتين خبير التعليم الفني في وزارة المستعمرات البريطانية "كريستوفر كوكس " الذي جاء خصيصاً إلى عدن من أجل البحث في هذه القضية . وكانت النتيجة أن تم تغيير مديرة الكلية وإن كانت إنجليزية أيضاً وتدعى الآنسة "أنجير" وفتحت الكلية أبوابها في 15 أكتوبر 1962م ، ونجحت الطالبات كذلك في إرغام السلطة على تعريب بعد المواد التعليمية كما تم رفد الكلية بعدد من المدرسين الذكور والإناث الأجنبيات ، وكان عدد من العناصر النسائية التربوية العدنية عاد من الدراسة التخصصية في مجال التعليم من بريطانيا وبعض البلدان العربية . كانت المرأة اليمنية في عدن قائدة للكثير من المظاهرات الجماهيرية المنظمة والعفوية وكانت تتقدم الحشود لتكون في مواجهة مباشرة لقوات الاحتلال ولقناصتها .. ففي أكبر مظاهرة جماهيرية حاشدة في كريتر شارك فيها آلاف المواطنين من أبناء عدن قاطبة وكأن المدينة خرجت عن بكرة أبيها ، تقدمتها النساء .. كان ذلك في 24 سبتمبر 1962م ،أي قبل قيام الثورة في شمال الوطن ، حين احتشدت الجماهير رافضة تكوين الاتحاد الفيدرالي وضم عدن إليه وتم يومها حرق مبنى المجلس التشريعي في كريتر .. وقد راح في ذلك اليوم العديد من الشهداء وجرح المئات من المواطنين وزج بالعديد منهم في غياهب المعتقلات السياسية ، وكانت رضية إحسان الله وصافيناز خليفة من ضمنهم وحكم عليهما بالسجن لبضعة أسابيع .. وهي رهن الاعتقال أضربت رضية إحسان عن الطعام تعبيراً عن احتجاجها على السياسة الاستعمارية القمعية ورفضها للاحتلال . سلوى سليمان ، رحمها الله ،كانت واحدة من المناضلات اليمنيات اللاتي خضن غمار النشاط السياسي وهن في عمر الزهور ، وهي أيضا من أسرة كافة أفرادها من العناصر الوطنية والفدائية بما فيها والدتها المعروفة بأم الفدائيين .. المناضلة المرحومة "عيشة علي عيد" والتي سبق وأن كتبنا في صحيفتنا عنها . التحقت سلوى سليمان في إحدى الخلايا النسائية السرية للجبهة القومية ، ولم يمنعها الزواج من ممارسة عملها النضالي السياسي رغم أن زوجها لم يشارك في أي نشاط سياسي آنذاك ، فكان يشجعها عليه ويسمح لها بتأدية واجبها الوطني في نقل السلاح للفدائيين وتوزيع المطبوعات السرية والخروج في المظاهرات إلخ .. كما حكت لي قبل وفاتها بأشهر حين التقيتها في بيتها بُعيد وفاة شريك حياتها الذي تبعته بفترة وجيزة . الحديث عن المرأة اليمنية المناضلة ذو شجون ولن نفي حقها مهما كتبنا إلا إننا من خلال هذا الحيز نناشد جهات الاختصاص للبحث عن العناصر النسائية الفاعلة في الساحة الوطنية والسياسية والتواصل معها والتعرف على المستوى المعيشي لها وتوفير سبل العيش الكريم وتأمين الحياة الآمنة للكثيرات اللاتي يعشن بين ظهرانينا .. لكن منسيات . فكيف يمكن تكريم هؤلاء النساء المناضلات اللاتي قدمن حياتهن فداء للوطن ومن أجل أن نعيش نحن الحياة الكريمة ؟ كيف يمكن إخراج هؤلاء النساء المناضلات من عزلتهن وإشعارهن بأنهن عظيمات بنضالهن الذي لم يكن ضد الاحتلال فحسب وإنما أيضاً ضد التقاليد البالية والقيود التي كانت تقيد حركة المرأة ؟ بعكس الرجل الذي كانت أبواب التعليم والعمل والنضال السياسي والوطني مفتوحة على مصا ريعها ..وإذا ما فتحنا صفحات التاريخ النضالية لوجدنا أن للمرأة اليمنية وبالذات العدنية (دون مغالاة) الدور الكبير والبارز في النضال السياسي لا يقل أهمية وقيمة تاريخية عن دور الرجل بل ولعلها تفوقت عليه. ولكن لأن مجتمعنا المتخلف قد أعطى للرجل الحق في التملك وفي فرض وصايته على المرأة كحال مختلف المجتمعات العربية القبلية الذكورية المتخلفة التي حتى اليوم لا تعترف بقيمة دور المرأة الاجتماعي والاقتصادي والثقافي ، فإن ما حدث من طمس لدور المرأة النضالي أكان إبان الطغيان الإمامي في شمال وغرب الوطن أو الحكم الأنجلو سلاطيني في جنوبه وشرقه يُعد من البديهيات التي للأسف سلمنا بها دهراً بل دهوراً .. ومعظمنا متفق مع هذا الواقع المؤلم غير السوي وغير المنطقي الذي تسود فيه سلطة الذكورة حتى في عدم تسجيل الحقائق وعدم الاعتراف بالآخر . وحتى اللحظة - وأقولها بمرارة - لم تعط المرأة اليمنية المناضلة في الميدان السياسي ضد الإمامة والاحتلال البريطاني في اليمن حقها من الذكر الكريم والرفيع كما يعطى للرجل .. فالمرأة اليمنية حملت السلاح وأوت الفدائيين ووزعت المنشورات السرية وقامت بأعمال جبارة لم يقم بها ، أحياناً ، فتوات الرجال الذين كانوا في غيهم يعمهون أو كانوا مع رموز الاحتلال والكيان الإمامي فكهون أو في بيوتهم قابعون خوفاً وفزعاً من الموت .. علماً أن معظم المنظمات السياسية اليمنية السرية والعلنية كانت تعتمد على العنصر النسائي لتأجيج الحماس الثوري بين صفوف أبناء الشعب. ولكي لا تضيع الحقائق التاريخية، قامت عدد من النساء الراسخات في العلم والمعرفة ، ومنهن من كان لهن دور نضالي في الساحة السياسية ، بفتح ملفات قديمة كانت مطوية عقوداً من الدهر غطاها غبار النسيان ألذكوري ، والكشف عن الملابسات في قضية النضال السياسي للمرأة اليمنية ووضع النقاط على الحروف.. كثيرات هن النساء اليمنيات في جنوب الوطن المحتل اللاتي كان لهن شرف الريادة في النضال السياسي المستميت ضد الاحتلال البريطاني، ، وتم الاتكاء عليها في النضال السياسي والاجتماعي والثقافي في عدن وعدد من المحميات الشرقية والغربية ، وكانت ثورة الجنوب المحتل إحدى هذه النتائج وكان الاستقلال الوطني من ربقة المحتل أرقاها.. أسماء نسائية كثيرة تأتي في مقدمة الحقائق التاريخية المشرفة والمشرقة في آن .. وهي التي لعبت دوراً بارزاً في الكفاح المسلح والنهوض السياسي والوطني بشكل عام .. فلا يغرنكم هذا الكم من الجمعيات الخيرية والثقافية النسائية في عدن التي لم تكن للترفيه أو التسلية ، فجلها تقريباً كانت غطاءً للعمل الوطني الشريف ، وهذا ما ميز المرأة العدنية عن غيرها من نساء أخريات مناضلات في عدد من البلدان العربية ، إذ لم تعمل مثلاً المرأة اليمنية في عدن في مجال الرقص أو الغناء أو ما شابه ذلك كغطاء لعملها السياسي .. بل كانت مشاركتها واضحة كوضوح الشمس في كبد السماء فكانت تنشئ الفعاليات الاجتماعية المختلفة وتلقي الخطابات النارية فيها كما كانت تفعل المناضلة المنسية رضية إحسان الله وكانت تسير في مقدمة المظاهرات والحشود الجماهيرية غير مكترثة برصاص المحتل أو (الجَرجَرة) إلى المعتقلات كما حدث للمناضلات الجسورات معها نجوى مكاوي وصافيناز ونورا خليفة ونجاة راجح وعيشة سعيد وليلى جبلي وأنيسة سليمان ومنيرة محمود منيباري وهيام معتوق وعادلة صالح عوض ولطيفة شوذري وكثيرات غيرهن .. ورغم ما كُتب عن المرأة المناضلة في اليمن إلا أنها تبقى نزيف حبر على الأوراق ليس إلا.. ذلك لأن المرأة اليمنية والمناضلة بالذات لم تأخذ حقها بعد في الوصول إلى مراكز صنع القرار.. وهي المراكز التي لا زال يحتكرها الرجال دون منازع، والواقع يؤكد ذلك وليس أدل على ذلك من وصول امرأة واحدة إلى البرلمان اليمني وسط 300 رجل ...ومشهديات أخرى كثيرة تؤكد أن سلطة الرجل لا زالت هي الأقوى والأعنف . فتشوا أيها السادة .. وستجدون أن الكثيرات فارقن الحياة دون عزاء، وكثيرات مهملات في زوايا بيوتهن مستورات الحال، وعدد لا بأس به منزوٍ في ذاكرة التاريخ يشار إليه على استحياء وعدد لا يشار إليه البتة وكأن الاقتراب منه شر ماحق .. ملكة عبد اللاه واحدة من أبرز النساء المناضلات اللاتي سجلن مواقفهن النضالية بصمت وبسرية تامة وبات السر كامناً - حتى بعد الاستقلال الوطني لأرض الجنوب اليمني - في أعماق صاحبته وفي ذاكرة (الرجال المناضلين) عقوداً إلى أن أفرجت عنه في مساء أحد الأيام منذ بضعة سنوات في لقاء أجريته معها في بيتها بمدينة كريتر بعدن .. شاءت ظروف قاهرة ألا يُنشر في حينه .. وكانت ذاكرة ( الرجال المناضلين ) الذين شاركتهم معمعة النضال ضد المحتل أوصدت أبوابها عن ذكرها وكأنها لم تكن وهي التي كانت المرأة الوحيدة ضمن فريق التباحث مع مندوبي التاج البريطاني في جنيف قُبيل الاستقلال .. فكيف إذن تجاهلها الرفاق ؟! وليست ملكة هي الوحيدة التي غُيبَت عن ذاكرة التاريخ فهناك رجال ونساء كثر مثلها ، إلا أن الحقيقة دائماً هي المنتصرة شاء أم أبى الآخرون وذاكرة التاريخ أقوى من ذاكرتهم، فقط ، لعلهم يفقهون . بغيرها من فتيات مدينة الحب والجمال ،عدن، كانت الاستثناء من بنات جلدتها العدنيات .. طفلة .. أحبت اللعب بالعرائس وغنت ورقصت .. إلا أنها امتلكت حساً وطنياً وحباً عظيماً لبلدها الرازح تحت نير المحتل جعلها تتميز بعقل أكبر من سنها وبتشجيع من أمها انخرطت في صفوف المقاومين والمناضلين في الجبهة القومية وهي لم تزل في الخامسة عشرة من عمرها.. لتحقت في مدرسة الراهبات كغيرها من بنات الأسر المقتدرة ، إلا أن مستواها الاجتماعي والمعيشي لم يمنعانها من تلبية نداء الواجب والامتثال للقيم الإنسانية التي تتمثل في قول الصادق الأمين " حب لأخيك ما تحبه لنفسك " ، فاقتطعت من وقتها للنشاطات الاجتماعية .. جمعت التبرعات من الأموال والمواد الاستهلاكية والغذائية من التجار لتوزعها على الأسر الفقيرة والمعوزة المنتشرة في حواري عدن وفي أكناف الجبال.. وكانت مع عدد من قريناتها تقوم بزيارة السجون ودار العجزة الوحيد الكائن في مدينة الشيخ عثمان أسبوعياً وتوزع على النزلاء ما يحتاجونه من ملابس وبطانيات ومأكولات وغير ذلك . وتتذكر ملكة قائلة " كنت عضواً بارزة في فريق الكشاف في المدرسة حيث تعلمنا الإسعافات الأولية كما كنا ننظم الرحلات ونقوم بالتدريبات الرياضية .. لقد كانت من أجمل أيام عمري .. " تصمت ملكة هنيهة لتواصل ذكرياتها المخزونة منذ أكثر من ثلاثة عقود قائلة : " تولد في داخلي شعور بالتمرد من الأوضاع القائمة آنذاك وأنا أرى الكثير من أبناء بلدي يعانون من الفقر والمرض والجهل .. وقررت أن أعمل شيئاً أفرغ ما بداخلي من كراهية للوجود الاستعماري البغيض .. انخرطت في خلية نسائية للجبهة القومية ، وتدربت على السلاح والقنص في منطقة باب المندب على يد محمود سبعة وعبد الله الدحيمي وكانت المنطقة مناسبة للتدريب العسكري حيث كنا نقوم بقنص الغزلان .. شاركت في توزيع المنشورات السياسية المحرضة على النضال ، كما كنت أقوم بإخفاء السلاح في سيارتي التي أقودها وأوصلها للفدائيين ولأن الجنود الإنجليز لا يفتشون النساء فإنني كنت بكل سهولة أمر من أمامهم وبدون أية عرقلة حتى في أحلك الظروف السياسية وفي أوج غضب جنود الاحتلال في حالة حدوث العدوان عليهم من قبل الفدائيين .. لقد شاركت في الكثير من المظاهرات كغيري من نساء عدن كما ساهمت بطوعية في نشر الوعي السياسي بين صفوف النساء " . وهنا تصمت ملكة لتتناول المرطبات الموضوعة أمامنا على الطاولة ، ثم استأنفت ذكرياتها التي لم تشخ ، وكذلك لم يحفرا لزمن على بشرتها المائلة إلى البياض ، كما لم يتسلل إلى شعرها الشيب .. في الحقيقة لم أخفِ إعجابي بمحافظتها على هذه النعمة الإلهية .. قالت : " في أحد الأيام وكان ذلك عام 1967م وأتذكر أنه كان يوم أعلن فيه حضر التجول إذ كانت الأوضاع متأزمة .. جاءني الأخ سيف الضالعي وأخبرني بأنه تم اختياري في قيادة الجبهة القومية للمشاركة في وفد الجبهة للتفاوض حول استقلال الجنوب، وكان سبب الاختيار كما أخبرني لغتي الإنجليزية التي أتقنها والجرأة التي أتمتع بها ونشاطي السياسي .. وكان يجب علي أن أعد نفسي خلال 24 ساعة .. كانت لعلعة الرصاص لا تتوقف في مدينة عدن وكريتر بالذات وممنوع التجوال والخروج إلى الشارع .. لكني رغم كل الظروف خرجت ووصلت إلى فندق (سي فيو) في خور مكسر حيث اجتمع الوفد المشارك والذي ترأسه الأخ قحطان محمد الشعبي الذي أصبح رئيساً لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية بعد الاستقلال.. ومن هناك انطلقنا إلى المطار بالاتجاه إلى جنيف وبعلم السلطات البريطانية .. وقد بقينا فيها أسبوعان وسبب التأخير في البث هي مماطلة البريطانيين الذين كانوا يتعمدون تعطيل عدد من الاتفاقات والشروط التي كان يضعها الفريق اليمني الممثل لشعب الجنوب الحر". وتستطرد قائلة : " أشعر بالفخر لمشاركتي في ذلك اليوم التاريخي.. كنت حينها في العشرين من عمري تقريباً إلا أن حجم المسؤولية كانت أكبر مني وكنت أعيها تماماً " . أطلقت ملكة تنهيدة خافتة وكأنها أنة حزينة خرجت من أعماقها .. سألتها وماذا بعد ؟ ردت مبتسمة : " نلنا الاستقلال ولكننا لم ننل الأمان .. بدأ الأخوة ورفاق السلاح يقتلون بعضهم البعض .. دب الخلاف بينهم وتغيرت أمور كثيرة .. و كغيري من أصحاب المواقف المغايرة للأطراف الأخرى في التنظيم السياسي للجبهة القومية شعرت بالمضايقات الاستفزازية ، فتقدمت للحصول على منحة دراسية في فرنسا التي وصلتها في يناير عام 1971م لأبتعد عن الكثير من التهديدات .. والتي لم أسلم منها حتى أثناء عودتي إلى عدن لقضاء الأجازة الصيفية بين الأهل والأقارب .. وفي مطار عدن تم منعي من المغادرة والعودة إلى فرنسا وتم احتجاز جواز السفر من قبل (مباحث أمن الثورة) .. لم أدرِ إلى أين ألجأ .. حينها قررت الهروب متخفية إلى محافظة لحج ومنها إلى منطقة القبيطة مشياً على الأقدام وكنت متنكرة بلباس نساء الريف الأغبر ودهنت وجهي بالكركم( الهرد ) وشعري بالحناء كما تفعل النساء في الريف اليمني .. ولم أكن أملك فلساً واحداً ولا طعام .. قضيت يومين في أحد البيوت هناك وفي اليوم الثالث سرت وحدي في تلك المناطق المقفرة وفي الساعة الخامسة من فجر أحد أيام السبت، وكان الناس هناك يستعدون لبدء نشاط سوق السبت، حسب التقاليد عندهم في تحديد يوم للتسوق، تمكن أحد العسكر اليمنيين من التعرف علي بعد أن شك فيّ وعرف بأنني هاربة من عدن وهمّ بتسليمي إلى السلطات في عدن لولا أن أنزل الله تعالى الرحمة في قلبه وتركني أمضي في طريقي .. إذ مشيت إلى منطقة الراهدة ومنها وجدت سيارة لمسافرين حملتني إلى مدينة تعز في الشمال اليمني .. بعدها سافرت إلى صنعاء براً ، ساعدني في ذلك أحد أعضاء جبهة التحرير المحظورة في الجنوب، وفي صنعاء وجدت بعض المضايقات عندما علمت السلطات هناك بوجودي في منزل أحد أعضاء جبهة التحرير الذي استقبلني بكل ترحيب وحفاوة وتم التحقيق معي واستجوابي من قبلها لمدة شهر كامل لكن عندما علمت السلطات بأن سبب هروبي من عدن من أجل مواصلة الدراسة وما تعرضت له من مضايقات هناك قدمت كل الدعم وذللت لي الصعوبات بأن تم استخراج جواز سفر جديد وتذكرة سفر إلى فرنسا ومبلغ 500 ريال يمني وكان هذا المبلغ يساوي الكثير حينها .. وأثناء ذلك اتصلت بالسفير الفرنسي في صنعاء وأخبرته بأنني مواطنة يمنية تحصلت على منحة دراسية في فرنسا .. ورحب بدوره بذلك وساعدني على مواصلة الدراسة وكانت السلطات في عدن ألغت منحتي الدراسية .. وهكذا درست اللغة الفرنسية في كلية الآداب في جامعة (بيزنسو) في باريس وبعد عامين من التخرج درست في معهد الإدارة الدولية في كلية العلوم السياسية - القسم الدبلوماسي - في باريس أيضاً وأثناء الدراسة تم ابتعاثي إلى (أتوه) في كندا للمشاركة في دورة تدريبية . . نلت شهادة الماجستير عام 1976م بتفوق وأحضر الآن لنيل الدكتوراه من جامعة السوربون في العلوم السياسية والإدارية ".[c1]كان هذا اللقاء بالمناضلة الجميلة ملكة عبد اللاه قبل أكثر من عقد من الزمان ...[/c]