في ذكرى تأسيس البحوث الزراعية 1-2
د. يحيى عبدالله الدويلةتحتفل الهيئة العامة للبحوث الزراعية بمرور خمسين عاماً على تأسيس البحوث الزراعية في اليمن، وهي مناسبة تستحق وقفة قصيرة نقف عندها لتحليل وتشخيص الوضع الراهن وتحديد العقبات التي تقف أمام عجلة التطوير في منظومة العمل البحثي وإحداث تغيير شامل في آليات البحوث بحيث تكون قادرة على تحديات مواجهة التنمية واللحاق بعصر العولمة الذي يفرض على الدول الصغيرة بذل جهد أكبر لصد العاصفة القوية في ميدان المنافسة الاقتصادية غير المتكافئة الأمر الذي من أهمية البحث العلمي أكثر من أي وقت مضى.فتدشين العمل البحثي في محطة أبحاث الكود 1955م أعلن ولأول مرة في تاريخ الجزيرة العربية، عن بحثية تقوم بإجراء البحوث الزراعية لمعالجة المشكلات الزراعية التي تواجه محصول القطن، ثم توسع نشاطها في مطلع الاستقلال الوطني للمحافظات الجنوبية ليشمل محاصيل استوائية كانت منتشرة في الإقليم الساحلي الشرقي. وانهالت مشاريع تحسين انتاج المحاصيل والبساتين سواء الممولة من الفاو أو البنك الدولي. والحقيقة ان تلك المرحلة شهدت انتعاشاً مؤقتاً، حيث أن الكثير من الاصناف والتقنيات البحثية خرجت إلى الواقع الزراعي، ثم تعود الحال إلى نقطة الصفر بعد كل مشروع.على الرغم من التوسع الأفقي المتمثل في زيادة عدد المحطات البحثية وضخامة البنى البحثية الذي أقتصر على عدد السيارات والنباتات وصيانتها، إلا أن تطوراً نوعياً محسوساً لم يحدث، كتحديث البنية التحتية البحثية للمعامل، بل توقف تشغيلها حتى بات من الصعب القيام بأبسط التحاليل والتي كانت متوفرة في السابق أسهل بكثير من الوضع الحالي.وصاحب ذلك هجرة متنامية لأبرز الكوادر البحثية إما نتيجة المضايقات أو بحجة امتيازات النقل سواء إلى المرافق الحكومية ذات الامتيازات المادية أو إلى الدول المجاورة مع عدم التواصل مع البحوث بل إن تلك الكوادر تنصلت عن ارتباطها بتلك المحطات بسبب عدم السعي الجاد من قبل المحطات البحثية المعنية بتقدير حجم الفقد الذي ترتب عليه رحيل هؤلاء، ومن ثم التواصل معهم بطريقة تضمن الاستفادة منهم. وبالمقابل حدث أيضاً تكدس لكادر بحثي ضخم، دون التدقيق في النوعية والتطبيق الصارم في لوائح القبول والتعيين، بالإضافة إلى توزيع غير متكافئ بين المحطات في عدد الكوادر وكذا عدم التوازن في التخصصات.وبالقطع لا يمكن إنكار أن هناك عناصر مبدعة شامخة نذكر منهم من الاموات أمثال د. احمد سعيد المقطري، د. ابوبكر سالم المعلم، د. فضل مطلق وآخرين لا تسعفني الذاكرة في ذكرهم والذين قدموا الكثير وأعتبرهم شهداء البحث العلمي نكن لهم أسمى آيات الاحترام والتقدير، وأقل تقدير لتكريمهم هو تسمية بعض المنجزات البحثية بأسمائهم، وأعتقد أن هذا ما فعلته قيادة الهيئة حينما أطلقت تسمية بعض الأصناف بأسماء بعضهم وأرجو أن يمتد الأمر لدرجة أكبر من ذلك كتسمية بعض المراكز والمحطات البحثية بأسماء أولئك الذين قدموا الكثير للبحث العلمي الزراعي.والحقيقة أيضاً أن عدد من الكوادر العالية التأهيل ظلت ومازالت عقلية أسيرة الدوغمائية والبيروقراطية والمكتبية لا تجيد سواء النقد والطموح في تبوء مناصب قيادية دون أن يشفع لها في ذلك إنجازاتها البحثية في الصعود في السلم الوظيفي، وكان نتيجة ذلك الاعتماد على الكوادر البحثية المساعدة في التنفيذ والمتابعة دون اشراف حقيقي من قبل الكوادر القديمة والتي دائماً ما تقع في فخ التفاصيل والضياع في تهويمات التعميم بسبب ضعف في الخبرة على ممارسة العمل البحثي وامتلاكها عقلية تنزع نحو الاحكام المسبقة والمحددة والقاطعة إنها عقلية سلبية لا تستأنس غير المكتمل لا تؤمن بأن رحلة العلم هي أيضاً رحلة أخطاءه، وإن منهاجية البحث العلمي قائمة على استبعاد الخطأ وتثبيت الصواب، مما ساعد على نشؤ جو غير صحي من خلال ظهور تكتلات وتيارات كل تيار عادة ما يسهل خطابه بنسف الركائز التي يقوم عليها الفريق الآخر. علينا جميعاً أن نتمسك بأخلاقيات المهنة ونتعلم كيف نختلف ونتفق وكيف نظهر اعجاباً وإجلالاً بالشيء الجيد والقيم بدلاً من السقوط في مستنقع التكتلات والاحكام المسبقة.وبات إصلاح الخلل في الهرم الوظيفي البحثي أمراً عاجلاً من خلال عملية فرز قاسي للكوادر البحثية واستبعاد غير الجديرة بالاستمرار في العمل البحثي والتي لا يزال منها الكثير والتي أصبحت ظاهرة عامة إلى حد الوباء وعائقاً يهدد تطوير الهيئة من خلال متابعة الانجازات البحثية منذ تأسيس البحوث الزراعية. ومن جانب آخر إعادة النظر في التعيينات التي تمت دون التقيد بلوائح التعيين، وبالمقابل يأتي إعادة بناء للكوادر البحثية الجديرة بالبقاء والتي فرضت الظروف على الكثير منها عدم التأهيل والتدريب مما أعاق التعبير عن إنجازاتها البحثية إما بصورة عدم النشر أو نشر علمي ضامر، لا يرى معظمه النور إلا من خلال المجلات المحلية التي هي الأخرى في حالة تدني في المستوى.وعلى الرغم من توفر المهارات التخصصية ولله الحمد هي كثيرة ولدينا الكثير من الكوادر التي لا تقل كفاءة من حيث القدرة على التصميم والتحليل والتقييم والمراجعة وإجراء التحاليل وتشخيص المشكلات البحثية، غير أن الكثير منها أيضاً تفتقر إلى المهارات الأساسية كالبحث في مصادر المعلومات واستخدام الكمبيوتر والانترنت وتحاليل البيانات باستخدام البرامج الإحصائية المتقدمة والتواصل مع المزارعين، بالإضافة إلى عدم إدراك كثير من باحثينا لأهمية المتغيرات الدولية والنقلات النوعية الحاصلة في العالم. وقد بات اليوم واضحاً من أن هناك توجهاً يوحد بين دور البحوث والجامعة مما يفرض تكاملاً يستفيد منه كل طرف من الآخر، وذلك بمشاركة كوادر الجامعة في العملية البحثية ومشاركة كوادر البحوث في العملية التعليمية ومن ثم الاستفادة من التخصصات المتوفرة في الجامعة في سد النواقص والثغرات في الأنشطة البحثية وبالمقابل الاستفادة من التراكم المعرفي التي حققته البحوث في العملية التعليمية.على إن أهم ما في الأمر، هو ضعف الحوار بين المتخصصين في فروع الهيئة لا احد يعلم ما هو نشاط زميله المناظر له في التخصص في المحطات الأخرى، وقد سارعت الهيئة بإنشاء ما يسمى بمراكز الثقل والتي كانت فكرة جيدة وأهميتها لا تكمن فقط في تكوين مجاميع بحثية محصولية على مستوى الأقاليم ولكن يمكن الاستفادة منها في التكامل التخصصي بين أعضاء الفريق والاستفادة أيضاً من التنوع المناخي التي تتمتع به البلد. لكن الفكرة تم وأدها ولم يكتب لها النجاح ولا ندري ما هي الأسباب التي حالت دون استمراريتها.لقد تغير الحال ففي السابق كنا نشكو من عدم توفير المراجع العلمية أما اليوم مع ثورة الانترنت اصبح لكل باحث مكتبة تتوفر فيها كل المراجع يفتحها متى يشاء عبر الانترنت، مما يفرض تغيير مساهمة الهيئة في توفير مناخ يتلاءم مع ثورة المعلومات باعتبارها ركيزة اساسية للبحث العلمي من خلال تزويد المكتبات ومكاتب الباحثين بشبكة انترنت والاشتراك في نظام البحث والمجلات العلمية الاساسية.لابد من إعادة النظر في أسلوب الترقيات أكاديمية والابتعاد عن أسلوب المزاجية في ترقية بعض الباحثين دون الآخر، ودون اعتماد الإنجاز البحثي عند الترقية والأخذ في الاعتبار، اشتراط النشر الخارجي، وكذا إلزام الباحثين بنشر أوراق علمية من أطروحاتهم للاستفادة العامة والمحلية، ومن جانب آخر، فإنه على الرغم من تميز نظام الترقية في البحوث الزراعية عبر التاريخ الطويل للعمل البحثي، والتي تكللت بعمل نظام ترقية يجمع بين الإنجاز البحثي والترقية والتحفيز، كانت حصيلته انتقال عدد من الكوادر المساعدة والمشاركة في الأنشطة البحثية إلى لقب باحثين، إلا أن النظام الجديد لم يؤخذ في الاعتبار تحفيز هذه الفئة في ظل سياسات الهيئة الهادفة إلى عرقلة التأهيل وهو حق من حقوقها، الأمر الذي أدى إلى إهمال هذه الفئة لسنوات طويلة دون ترقيات وحوافز، كانت نتيجة ذلك إحباطها وعزوف بعضها عن استمرارية الإبداع والتوقف عن العطاء علماً أنه يقع على عاتق هذه الفئة تنفيذ ومتابعة معظم الأنشطة البحثية حتى الحاصلين حديثاً للشهادات العليا من الكوادر البحثية القديمة لا يؤخذ في الاعتبار إنجازاتها البحثية السابقة عند الترقية وكأن الأمر تعيين جديد. كل هذا يحتاج إلى مراجعة جادة من قبل قيادات الهيئة.(يتبع)* باحث زراعي ـ فسيولوجي نبات ـ محطة أبحاث إقليم المرتفعات الجنوبية ـ تعز