لا شك أن الذي يقرأ شعر غزال المقدشية يلفت انتباهه منذ الوهلة الأولى تلك الجرأة والشجاعة التي تمثلها غزال في شعرها،وهي صفة قلما نجدها في شعر غيرها من رجال عصرها،لذا فقد استوجب علينا ضرورة التلبث عند هذه الصفة،لا سيما وقد رافقت شعرها وصارت هي المسحة الغالبة عليه في جوانب متعددة من حياتها، وفي زمن يفتقد إلى من يتحلى بتلك الصفة في مواجهة عادات المجتمع وتقاليده.وعلى الرغم من كل تلك القيود الاجتماعية التي حاولت إزاحة المرأة عن حلبة المشاركة،وحصرها في جوانب وزوايا محددة،فإنها لم تكن منعزلة عن واقعها،وما يدور في محيطها الاجتماعي.فقد استطاعت أن تقف إلى جانب أخيها الرجل في التعبير عن هموم وقضايا مجتمعها بما تمتلك من قدرات إبداعية كان الشعر في مقدمتها.وإذا كانت محافظة ذمار قد احتلت مكانة مرموقة في المشهد الشعري المعاصر في اليمن على مستوى الشعر الفصيح والعامي حين أنجبت البردوني ، والحضراني ، والوريث ، والديلمي ، وعصبة،والمرامي ،والعنسي ، والهروجي ، وسح لول ، والميثالي..الخ ،فقد كانت أيضاً في عشرينيات القرن الماضي محل انطلاق عدد من الشاعرات أمثال غزال المقدشية،وظبيه النميرية،وقد أثرت في هذه الإطلالة السريعة التوقف عن الجرأة والشجاعة في شعر غزال المقدشية.وإذا كانت أهمية شعر الشاعر- كما يقول النقاد- تكمن في مقدرته على تصوير عصره وتصوير نفسه هو كإنسان يشاهد،ويتعذب ويتألم ويثور ويحب ويبغض ويفرح،فإن الشاعرة غزال المقدشية بحق قد عبرت بكل جرأة وشجاعة عن عصرها،وكانت لسانه الناطق،وقد دوت سمعتها في القرى والمدن كشاعرة اشتهرت بالصلابة والشجاعة كشهرتها بالجمال.وتروي الأخبار(1) أنها كانت تحرس حقول أبيها في أشد الليالي خوفاً،وقد كان والدها يأمن عليها من ذئاب البشر واقتناع الرجال عن مراودتها لثقته بقوتها وشجاعتها.لذا فقد شاركت ذلك الوضع المأساوي المظلم لأولئك المتنفذين من المثمرين ومحصلي الزكاة في عصرها على الرغم أنهم كانوا يحضون بالاحترام والتبجيل من بقية أفراد المجتمع،لا لأنهم كانوا قدوة لغيرهم،ولكن خوفاً من الضرر الذي سيلحق بأولئك الأفراد في حالة المقاومة أو الاعتراض لأولئك المثمرين.وهو موقف لم يجرؤ عليه الرجال،بينما استطاعت غزال المقدشية أن تتصدى له وتفضح نواياه الدنيئة فقد وقفت في وجهه دون خوف من خلال سلاحها(الشعر)الذي ترددت أصداؤه وما يزال حتى اليوم حين تقول:يا رجال البلد[c1] *** [/c]قد المثمر مخالفجا يطوف الذرة[c1] *** [/c]أم جا يطوف المكالف قال يشتي غزال[c1] *** [/c]وإلا يزيد الغرامةباضربه بالقــذال[c1] *** [/c]وإلا أربطه بالعمامةلا رجع يا رجال[c1] *** [/c]ما شي علي ملامه(2)ولعل هذه الشجاعة المتناهية قد استمدتها الشاعرة من بيئتها المليئة بالصراعات والأحداث،وربما إنها قد استمدتها من قبيلتها(المقدشية)التي ما تزال حتى اليوم بهذه الصفة.وإن كان الدكتور المقالح قد جعل الشعر هو الذي أعطاها الشجاعة على مواجهة الأحداث والتصدي للرجال،بل إنه هو الذي منحها الشهرة والمكانة في ريف بلادها بل وفي اليمن عامة(3).وقد استطاعت الشاعرة في هذا المقطع أن تستغل الطاقات الإيحائية لأداة النداء(يا)كي تلفت انتباه أبناء قبيلتها(رجال البلد)إلى سلوكيات ذلك المثمر الذي انحرف عن مهمته التي كلف بها إلى مغازلة النساء بدلالة اللفظ(قد المثمر مخالف)حين تستثمر دلالة حرف التحقيق(قد)لتؤكد مخالفة المثمر.ولم تكتف الشاعرة بتصوير هذا المثمر،وهو ينحرف عن مهامه بل رسمت له ملامح العدوانية والجشع حين يستغل المنصب لأهوائه الشخصية الدنيئة،وذلك من خلال المقابلة الحركية بين شطري البيت الثاني حين تستثمر الشاعرة الطاقة الإيحائية للحركة الضدية بين شطري البيت(جا يطوف الذرة،جا يطوف المكالف)،وكذا الدلالة الإيحائية المستمدة من حركة الفعل المضارع(يشتي،يزيد).وإذا كانت الشاعرة في المقطع السابق قد أفصحت- بكل شجاعة- عن علاقة المثمر بالمزارع الذي ينسحب على علاقة الحاكم بالمحكوم في تلك العهود المظلمة،فإنها تقف في مقطع آخر وبجرأة مماثلة لتكشف عن جانب آخر من عصرها،وهو النظام الاجتماعي القائم على الطبقية،حين ترفضه وتبين مساوئه في حقبة ساد فيها التمجد بالحسب والنسب والفخر بالإنتماء إليهما،وفي الوقت ذاته لم نجد من الشعراء من يجرؤ على مواجهة تلك الفوارق الطبقية فهي تقول:قالوا غزال وأمها سرعة بنات الخمس[c1] *** [/c]ما به خمس يا عباد الله ما به سدسمن قد ترفع لوى رأسه وعد البقش[c1] *** [/c]وقال لا بأس كم يحبس وكم يحتبس سوا سوا يا عباد الله متساوية[c1] *** [/c]ما حد ولد حر والثاني ولد جايةعيال تسعة وقالوا بعضنا بيت ناس[c1] *** [/c]وبعضنا بيت ثاني عينه ثانية(4)والمتأمل لهذا المقطع يلاحظ أن الشاعرة تورد تقولات المتخرصين بدلالة الاستهلال بـ(قالوا)كي تعري تلك المزاعم والتكهنات حين تعلن رفضها وعدم إيمانها بتلك العادات السلبية مستثمرة أداة النفي(ما)التي تكررت مرتين(ما به خمس،ما به سدس)مستخدمة الرمز العددي للتعبير عن ذلك النظام الطبقي القائم(خمس،سدس).ولعل استخدام الشاعرة لأسلوب النداء(يا عباد الله)فيه تذكير وتنبيه لأولئك المتقولين بعبوديتهم لله وحده.وفي البيت الثاني ترسم الشاعرة صورة بصرية حركية لتلك الشخصية المنتفخة كبراً بدلالة الأفعال(ترفع،لوى)مفضية إلى صورة بصرية حركية تعليلية مرتبطة بالصورة الأولى لتكمل المشهد حين يأتي لفظ(عد البقش)التي توحي بمؤثرات المال على صاحبة حين يخرج من دلالته المألوفة التي تحمل معنى الحياة إلى دلالة أخرى،إذ يتحول إلى وسيلة من وسائل الإذلال والظلم،وهو ما يفهم من تكرار لفظ(كم)التي تحمل في طياتها المبالغة في إحداث الشرور(كم يحبس)وسرعان ما يقود الشاعرة لتؤكد رفضها لذلك النظام الطبقي الذي يفرق بين الإنسان وأخيه الإنسان بعد أن وحد الله البشر وخلقهم متساوين فلا حر ولا عبد،لذا فقد جاءت بألفاظ تنبض بروح العدل والمساواة( سوا،سوا،متساوية)وفي هذا توظيف للقول المأثور(متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)وكذا للإيحاءات المستمدة من الحديث الشريف(الناس سواسية كأسنان المشط..)وقد اشتدت الخلافات والمنازعات في عصر غزال المقدشية بين قبيلتين عنس والحداء المتجاورتين.وكانت أهم الأسباب المؤدية للخلاف بينهما هي المراعي أو الحدود،وكانت غالباً ما تنتهي بحرب بين القبيلتين،وكان الشعراء هم الناطقون باسم القبيلة فهم يتدخلون لإطفاء فتيل الحرب أو إشعالها وتثويرها.وكان على شاعر القبيلة أن يتصدى لشعراء القبيلة الأخرى بما يمتلك من موهبة شعرية،وقد كانت غزال المقدشية هي الأجهر صوتاً والأكثر جرأة وشجاعة في مواجهو شعراء قبيلة الحداء،ولعل هذا هو ما دفع الدكتور عبد العزيز المقالح ليرى أنها(قد كانت وحدها شاعرة قبيلة المقادشية في حين كان لقبيلة الحداء أكثر من شاعر منهم جبران توبان،وسرحان توبان،وعلي أحمد سالم البخيتي،والجميزة،وكان عليها أن تتصدى لهم جميعاً((5).وتروي الأخبار أنه حصل بينها وبين الشاعر الجميزة مساجلات شعرية حتى عجز ذلك الشاعر عن منافستها في ميدان الشعر فلجأ إلى سرق جملها المقلب(خرصان)لذا فقد قررت أن تشكوه إلى الله فهو ملاذ المظلومين فتقول:يا الله يا منصف المظلوم بك نتكل[c1] *** [/c]لأنته مهل يا إله العرش فانا عجل أنصفتني من علي صالح جميزة قتل[c1] *** [/c]جعله الصوب يمس من رسيسها يزل غزال قالت تعالوا يا وجيه القبل[c1] *** [/c]أدي لكم حكم لا ينزل ولا يندولالهيج به هيج والنعجة بدلها رخل[c1] *** [/c]حاكبر يوم قلتم يا غزال الغزل (6)والمتأمل لهذا المقطع يلمح الاحتراق النفسي الذي أفرزه الطرف المصرح به(علي صالح جميزة)إذا تظهر ملامح هذا الاحتراق من خلال الصورة في صيغة الخطاب لله عز وجل(لانته مهل،فانا عجل)فهي تريد أن تخفف من أزمتها النفسية الداخلية.وفي البيت الثالث تصرح الشاعرة باسمها في مطلع البيت لتوحي لنا بالدور الذي قامت به إزاء تلك القضية،وهو استهلال يمنح الشاعرة ملامح المبادرة الموجهة للطرف الآخر(وجيه القبل)الدالة على ذكائها الفكري وثقافتها القضائية حين تقول(أدي لكم حكم)ثم تصرح به في البيت الأخير عبر هندسة لفظية تكمن في قولها(الهيج به هيج والنعجة بدلها رخل).وهي تقنية لها صداها في مخيال التلقي حين تكشف عن قاعدة قضائية(7) مستمدة من قوله تعالى(وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص) (8)،لذا فلا غرابة أن يضعها الدكتور عبد العزيز المقالح ضمن شعراء الأحكام (9).ولم يقتصر هجومها على ذلك الشاعر الجميزة(سارق الجمل)فحسب بل أخذت تهاجم كل من وقف إلى جانبه بكل جرأة وشجاعة فها هي تهاجم الشاعر سرحان الأسلمي أحد شعراء قبيلة الحداء الذي وقف إلى جانب الجميزة فقالت:يا الأسلمي ذي فعلت السم والعله[c1] *** [/c]فكيت باب البلا والدار ذي مقفولودنيت من وادي المطلاح لا النصله[c1] *** [/c]وفعلت نفسك على خلق الله المسئول قد سار يطل ولا أستر يحكم النزله[c1] *** [/c]ما يدري إلا وهو وسط الهوى مزقولهو يصلب الحول ذي ما ينسل البتله[c1] *** [/c]والحب يويه ذي قد واديه مغيولمن شل مال القبايل فالقضا مثله[c1] *** [/c]ويدي الدين منه عرض وإلا طول ذلحين بشريك من قتله وراء قتله[c1] *** [/c]لا ما يقع يوم حد قاتل وحد مقتولالعله أيش ذي يداوي هذه العله؟[c1] *** [/c]أيش ذي يداوي حريق القلب ذي معلول؟وإذا كانت تلك هي مواقفها الجريئة والشجاعة وهي تتصدى بشعرها لكل من يحاول النيل منها أو من قبيلتها فإن لها نفس الجرأة والشجاعة،وهي تكتب أشعار الحب وقصائد الغزال حين أرغمت على أن تتزوج من رجل لا تحبه فترفض ذلك وتصرح بشعرها عن أسم حبيبها الذي تعلقت به منذ كانت طفلة.وهو موقف لم يجرؤ عليه الرجال في ذلك العصر،فما بالك بالنساء!أمام سلطة الأب والمجتمع فهي تقول:يا ناس ما كان ودي غير ناصر قراع[c1] *** [/c]ذي كان رفيقي من أيام كان ثوبي ذراع (11)وإذا كانت الشاعرة قد نظمت هذا الشعر معتمدة على ذكائها الفطري واستعدادها للنبوغ دون أن تلحق بمدارس التعليم فما بالك لو أنها صقلت هذا الذكاء الفطري بنوع من التعليل!لا شك أنها ستمثل أعلى درجات النبوغ.ولا غرابة أن يماثل البردوني بين غزال المقدشية وظبية النميرية بنازك الملائكة وفدوى طوقان لو أتيحت لهما فرصة الالتحاق بالتعليم (12).[c1]الهوامش:[/c]هذه المشاركة ألقيت في الصباحية النقدية التي احتضنتها كلية الآداب جامعة ذمار عام 2007م(غزال المقدشية..الإنسانية والشاعرة).* وقد أوضح عبد المنعم المقدشي أن هذا البيت منتحل على الشاعرة وأنها من أسرة عريقة وهذا يدفع إلى ضرورة تحقيق ودراسة شعر غزال.[c1]المراجع [/c]1) ينظر رحلة في الشعر اليمني قديمة وحديثه،عبدالله البردوني،دار الفكر،دمشق،ط 5،1995م،ص 334.2) نفسه.3) شعر العامية في اليمن دراسة تاريخية ونقدية،د.عبد العزيز المقالح،دار العودة بيروت،ط 1978م،ص 403.4) رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه،ص 335.5) شعر العامية في اليمن،ص 408.6) نفسه،ص 406.7) غزال المقدشية شاعرة ومصلحة اجتماعية،عبد القوي العفيري،بحث مخطوط.8) المائدة الآية (44).9) شعر العامية في اليمن،ص 403.10) نفسه،ص 407.11) نفسه،ص 404.12) رحلة في الشعر اليمني،قديمه وحديثه،ص 333.
|
ثقافة
الجرأة والشجاعة في شعر غزال المقدشية
أخبار متعلقة