في مجموعة (سقوط طائر الخشب) لعبدالله سالم باوزير
[c1]علي حسن العيدروس[/c] درس بروب مجموعة من الحكايات الروسية بوصفها بنية حركية يمكن تفكيكها واستنباط العلاقات التي تربط بين مختلف وظائفها في مسار قصصي معين والمثال الوظائفي الذي استنتجه من هذه الدراسة هو البنية الشكلية الواحدة التي تولد عدداً غير محدود من حكايات ذات تراكيب واشكال مختلفة ينطبق على كل اشكال الوعي الشعبي باعتبار الحكايات الشعبية تراثاً مشتركاً عند مختلف الشعوب لتوحد المخيلة الانسانية وتقارب الفكر البشري الاول .ان الحدث يعتبر وظيفة مادام رهن سلسلة من الاحداث السابقة التي تبرره ومن الاحداث اللاحقة التي تنتج عنه، فالحكاية هي اطار مركب تتوزع فيه الوظائف وترتبط وتلتحم وثيق الالتحام، تستقطبها غاية واحدة هي إصلاح الافتقار الحاصل في الوضع الاصل وقد حاول غريماس شكلنة المثال الوظائفي ليصبح قابلا للتطبيق على كل الانماط القصصية باعتبار الافتقار " الاحتجاج" هو وظيفة تبلورها مجموعة من الاحداث تسعى الى اصلاح هذا الافتقار في مجمل الحكايات كالافتقار الى المال او الى السلوك القويم ... وبصفة عامة هو وظيفة ضرورية اذ هي التي تحبك العقدة ففي تحليل النص على اساس وظيفة الافتقار يتم بين الاشارات الكلامية او الاحداث التي تبلور نوع الافتقار واسباب حصوله في الوضع الاصل ثم الاختبار الترشيحي المتمثل في المساعي المبذولة لاصلاح الافتقار لنصل بعد ذلك الى الاختبار الرئيسي لانتصار تلك المساعي واصلاح الافتقار . فمثلاِ في تحليل الحكاية الشعبية الفرنسية ( اللحية الزرقاء) من تأليف بيرو ( Perrult) في القرن السابع عشر الميلادي ، فالافتقار فيها هو عدم قدرة صاحب اللحية الزرقاء على الزواج من احدى بنتي جارته لدمامة خلقه بسبب لحيته الزرقاء المخيفة وهوافتقار جمالي ويتبدى حصول الافتقار في الوضع الاصل بعد رفض الفتاتين قبول الزواج منه " كان في قديم الزمان رجل مفرط الغنى ولكنه دميم الخلقة مخيف بسبب لحيته الزرقاء ..، وكانت تسكن بجوار قصره امرأة ذات وقار فخاطبها في احدى بنتيها ولكن ابت الفتاتان التزوج به "[c1]الاختبار الترشيحي[/c]سعى صاحب اللحية الزرقاء لاصلاح الافتقار بواسطة اغراء الفتاتين بنموذج من الحياة المرفهة الكادحة مستخدما سلطة المال وسحره " فعرض عليهما .. ان يقضيا بضعة ايام في احد قصوره بالريف وبعد مرور ثمانية أيام من اللهو قبلته الفتاة الصغرى زوجا لها.[c1]الاختبار الرئيسي[/c]تم اصلاح الافتقار بزواج الفتاة الصغرى من اللحية الزرقاء.وحكايات باوزير في مجموعة سقوط طائر الخشب مليئة بالافتقارات الاجتماعية والاخلاقية والاقتصادية والسياسية التي ينوء بها المجتمع اليمني بشكل خاص مما يجعل تطبيق هذا اللون من التحليل ممكنا حتى وان لم يكن بنفس النسبة التي اجريت على حكايات بروب وغريماس من بعده .وما يميز حكايات باوزير في هذه المجموعة موضع الدرس هو عدم وضع الحلول الجاهزة كما هو الحال في الحكايات الشعبية القديمة مما يعني ان الاختبار الرئيسي سيختلف في شكله فهو لن يقدم حلا لاصلاح الافتقار بل يقدم دعوة يجعل من القارئ فيها مشاركاً في سد الفجوات ومنتجاً اخر للنص وعاملاً اساسياً في اصلاح الافتقار بمعنى انه هو من يحدد شكل الاختبار الرئيسي وذلك لتقدم فن السرد في حكايات باوزير واكتسابه تكنيكا سردياً ارقى من تكنيك السرد في الحكايات الشعبية القديمة.ففي قصة ذاكرة المدينة نجد الافتقار الحاصل في الوضع الاصل هو افتقار سلوكي وهو الرؤية التي ترتكز عليها بنية النص في مسارها السردي ككل، فالسلوك السلبي الصادر من سكان المدينة تجاه الحجرة الصلدة المدلاة من العارضة الخشبية العليا للباب الغربي للمدينة مع ماسببته لهم من ضرر هي الصورة التي تجسد حصول الافتقار ويمثل الخوف الاعمى الذي خلقته منظومة النظام الديكتاتوري هو سبب حصول ذلك الافتقار " في منتصف تلك الليلة هبت المدينة باسرها من سباتها على دقات طبول السلطان معلنة خروج كل من بلغ الحلم من النساء والرجال الى خارج المدينة ... وفي سرعة هرع كل سكان المدينة في الشوارع نساؤها ورجالها شبابها وشيوخها متجهين الى الباب الغربي حيث قد سبقتهم الى ذلك يد السلطان فقد تدلى من العارضة الخشبية العليا للباب حبل قصير ينتهي طرفه بحجرة صلدة في حجم قبضة اليد تدلت تحت مستوى الرأس بقليل... عبر الاول فأصاب الحجر جبهته تأوه وانطلق يعدو.. وتبعه الثاني فنالت الحجرة من مقدمة رأسه صرخ اي ماهذا ؟ ثم انطلق بعد الاول، وجاءالثالث وكان طويلاً فلطمت الحجرة انفه صاح وشتم ".[c1]الاختبار الترشيحي[/c]يوضع الافتقار في مجهر اختبار تترشح عنه المساعي المبذولة ممن لازمهم الافتقار بغية التخلص منه نحو اصلاح ذلك النقص غير ان ما يحصل في النص هنا هو تعميق صورة الافتقار وامتداد زمنه ومكانه لينتقل الاختبار الى خارج النص وبالتحديد الى القارئ الضمني الذي هو جزء من بنية النص في مجمل شخوصها .. فالنص اذن يضع الناس في مواجهة مع انفسهم امام نتيجة سلوكهم السلبي ويدفعهم نحو اعادة حساباتهم لتغيير تلك السلبية التي تفاقمت لاستمرائهم لها، إذ لم يحاولوا مقاومة ذلك الضرر الذي طالهم جميعا او حتى السعي لتخفيفه الا ماكان منهم من استياء او شتم " ولكن اهل المدينة بعد ذلك كلما مر احدهم عبر ذلك الباب اخذ يرفع يده اليمنى الى رأسه يتحسس بها موضع الضربة التي اصابته من حجرة السلطان تلك الليلة".[c1]الاختبار الرئيسي[/c]وهو الاختبار الذي يتحقق من خلاله اصلاح الافتقار عبر الاختبار الترشيحي او المساعي المبذولة لاصلاح الافتقار ولان النص خرج بالاختبار الترشيحي من عوالم متن النص الى خارجه زمنا ومكاناً فان اصلاح الافتقار لن يأتي من متن النص ممثلاً في شخوصه الذين لازمهم ذلك الافتقار بل بفتحه على القارئ الضمني الذي أوكله خلق تلك المساعي بعد المواجهة الدراماتيكية مع شخوص النص الذين هم صورته المكبلة ،فاصلاح الافتقار ليس حلا جاهزاً يقدمه النص كما هو الحال في الحكايات الشعبية القديمة بل هو دعوة تغيير يفتحها النص للقارئ تمارس معه تحدياً بغية سده للفجوات في النص تجعل منه مشاركاً في انتاج النص الذي لا ينتهي تكوينه بمجرد زمنه ومكانه ومساحته التي تشكل بها.وفي نموذج آخر نجد الافتقار الحاصل في الوضع الاصل هو افتقار اقتصادي يمثل ايضاً الرؤية التي ترتكز عليها بنية النص الافتقار الى المعيشة الرغدة في الوطن الامر الذي دفع الزملاء الثلاثة الى مغادرة الوطن والبحث عنها في الغربة تعبيراً عن رفضهم لمنظومة النظام الاقتصادي غير القادر على تحقيق رغبات المجتمع في اشارة الى الايديولوجية الجوفاء التي يرتكز عليها ذلك النظام الاقتصادي " هكذا تمضي بهم الحياة منذ ان اختاروا ذلك المنفى الذي غرهم ببريق الذهب والنقود".[c1]الاختبار الترشيحي[/c]وضع النص الافتقار موضع اختبار ترشحت عنه مساعي الزملاء الثلاثة لاصلاحه تمثل في سفرهم لارض الغربة وتحمل المشاق من خلال العمل المتواصل " في الواحدة ظهراً احتشد الزملاء الثلاثة في دورة المياه التي اعدت كمطبخ ايضاً - لتجهيز وجبة الغداء، واخذوا يتزاحمون في الاعداد لذلك ، وفي الثانية قدم الغداء على صحيفة الصباح التي لم يقرأها احد منهم بعد، والتهموا غذاءهم في عجلة من امرهم وعادوا يتسابقون الى معملهم لغسل الاطباق ثم عادوا الى غرفتهم الوحيدة لينالوا قسطا من الراحة تعينهم على مواصلة اعمالهم في الثالثة بعد الظهر، وليعودا بعد ذلك الى منزلهم في وقت متأخر من الليل وهم في غاية الارهاق".غير ان ذلك الاختبار الذي وضع الزملاء الثلاثة افتقارهم امامه لم يكن هو الاختبار الحقيقي الذي تبلوره رؤية النص فالعبارة التي وردت في متنه " ذلك المنفى الذي غرهم ببريق الذهب" توحي بأن المساعي في اصلها لم تكن سليمة فقد اعتمد الزملاء الثلاثة على الإغراء والوهم في تحقيق الحياة الرغدة وتكبدوا مشاق تركتهم - يعيشون حياة المنفى فالنص اذن يتضمن نوعاً آخر من الاختبار يكون بالسعي الدؤوب داخل الوطن ومواجهة اسباب الافتقار الحقيقية طالما أن الاختبار خارج الوطن لم يحقق اصلاح الافتقار بالشكل المؤمل.ولهذا فإن الاختبار الرئيس الذي من شأنه ان يتم به اصلاح الافتقار يجب ان يكون ايضاً داخل الوطن وعدم الهروب والتخلص منه وتغيير آليته الاقتصادية يتوسمها النص من ذلك المتلقي بعد ان اثبت عدم جدوى الاختبار الترشيحي للافتقار داخل النص ومرة اخرى نرى النص لايقدم الحل جاهزاً ويتحدى القارئ في سد فجواته مما يمنح النص ديناميكية متجددة مع كل قراءة.وفي نص آخر يضع امامنا في سياقه السردي افتقاراً ثقافياً للأيديولوجيا السائدة في مرحلة ما وعدم كفايتها في تحقيق مستوى ثقافي معين في ادنى حدوده فعدم الاهتمام بالادباء والمبدعين الحقيقيين ورعايتهم وتبني ابداعاتهم هي الصورة الجلية لحصول الافتقار في الوضع الاصل اذ كان الصوت المسموع هو صوت السياسة لا غير فلهذا صمتت اقلام ابداعية كثيرة بينما فتح الباب لمن هم دون الكفاءة الادمية او من الرقاصين والطبالين.[c1]الاختبار الترشيحي[/c]لقد وضع الاديب بدلا عن النظام السياسي الافتقار تحت هذا اللون من الاختبار فسعى محاولا فرض نفسه على الساحة الادبية كأديب جدير بالاهتمام ولفت نظر السلطة إليه " حاول النهوض على قدميه من جديد وقدم الكثير من اعماله للنشر كلها حجبت عن الظهور".[c1]الاختبار الرئيسي[/c]ان اصلاح الافتقار الذي يمثله هذا الاختبار جاء متأخراً وبعد عناء شديد بذله الاديب اثناء الاختبار الترشيحي ومع ذلك يكاد يكون الاصلاح منعدما بسبب الروتين الاداري البيروقراطي الذي لاينم عن رؤية ايجابية من السلطة نحو الادباء والمبدعين الامر الذي عجل بموت الاديب قبل حصوله على فرصة اظهار إبداعه وبذلك لم تكن الاستجابة المتأخرة من السلطة تمثل اصلاحاً حقيقياً للافتقار " وقبل حوالي شهرين علمت بقبوله كعضو في وفد مسافر الى الخارج... ذهبت منزله لابارك له ولكن عندما مثل امامي لم اجد اي تغيير سار على وجهه .. بعد ذلك اللقاء بحوالي اسبوعين فوجئت بمن نقل لي خبر وفاته" وبهذا يضع النص مسؤولية السعي لاصلاح مثل هذا الافتقار وتحقيق هذا الاصلاح على المجتمع كافة ممثلاً بالقارئ والمتلقي بعد ان كشف امامهم نتائج هذا الافتقار.وفي نموذج اخر يطرح النص افتقاراً ثقافياً حاصلاً في الوضع الاصل وهو افتقار المثقف والناقد للمفاهيم الصحيحة للحداثة في الادب والشعر والنقد منه خاصة وبالتالي افتقارهم لسلامة التجربة والخوض فيها دون امتلاك ادواتها فما يكتبون باسم الحداثة ماهو الا لملمة من قصاصات قصائد مختلفة تنتج عملا غامضا فحسب فيتوجه نحوه النقاد ويستعرضون على القراء مخزونات افكارهم.ان اكبر دليل على حصول الافتقار هو تلك القصيدة التي القاها الشاعر امام حشد من المثقفين والنقاد والتي هي في الواقع لاتتعدى وصفة طبية شعبية لامرأة يئست من الحمل وقد صفق لها النقاد واشادوا بحداثتها.[c1]" المسك والحسك والزعفرانوالهدهد اليتيموحزمتان من خيوط الفجرمن ليل بهيمتؤخذ بانتظام ياسادتي ياكرامفي الليل والنهار مرتانوربنا كريمالاختبار الترشيحي[/c]لم يحاول المجتمع وضع افتقاره على هذا الاختبار في اشارة من النص الى سلبية افراده الذين تقع على عاتقهم هذه المسؤولية وتحمل النص هذه المسؤولية من خلال التصوير الساخر للانتاج الشعري الحديث بصورته المهلهلة ليقدم دعوة تصحيحية تبدأ من القارئ أو المتلقى والذي من شأن الاستجابة لها ان تحقق مساعي لاصلاح الافتقار.[c1]الاختبار الرئيسي [/c]أن النتيجة لهذا الاختبار والمتمثلة في اصلاح الافتقار مؤجلة تعتمد على استجابة المجتمع للدعوة المفتوحة التي نادى بها النص من خلال تكثيف الاسلوب الساخر لتصوير الافتقار الحاصل في الوضع الاصل.