من مذكرات سجين
مصطفى المغربي قاسوا أبعاده ، ووزنه ، وجاسوا خلال تضاريسه. سألوه عن أمه وأبيه . عن بيته الذي يؤويه ، عن تفاصيل علاقاته، وأصدقائه ، والمرأة التي يحبها .. طعامه المفضل ، وجريدته الأثيرة ، عن أفكاره، وأحلامه ، وآماله، وعن عقده ، عن عقيدته ، وعدد الركعات التي يصليها ، والآيات التي يتلوها، والخمرة التي كان يشربها ... وووو... ثم ألقوا به في حفرة باردة مظلمة كالقبر.وهو في قبره ذاك راح يفكر .. ماالذي اقترفه ليعتقل في منتصف الليل.ويتعرض لكل هذا العسف ؟. وبعد لأي اكتشف أن تهمته : حرف مضيء، اختلسه ذات ليلة من قصيدة، ودسه بين تلافيف قلبه لتكتشفه دورية تتسرب بين الحنايا والعروق، تشتم النوايا وتقرأ الأفكار، وتتجول بين تلافيف الدماغ باحثة عن عصافير تنقر نثيت الحزن، وتبحث عن قش لبناء عش دافئ، وفضاء رحب جميل للشدو.عندما ألقوه على الإسفلت عاريا ، تكور على نفسه ،ثم انخرط في حوار داخلي .. محاولا تجاهل الصرخات التي تخترق جدران الزنزانة، وتؤثت صمت الليل برهبة فظيعة . في حواره تذكر القصيدة ، والشاعر والأمسية ، والرفاق ، وحبيبته فاطمة، واستحضر كل التفاصيل :، قسمات الوجوه ، وأكاليل الورد الأحمر ، وزجاجات الماء المعدني ، وهدير الهتاف والتصفيق، وإيقاع الشعارات الثورية ، ودموع الشاعر . والكلمات التي كانت تتناثر كالطلقات ، تهز الجدران ، والعواطف والأجساد ، محاولة خلخلة ثوابت استعصت على محاولات التحريك.ابتسم وهو يتذكر وثوبه إلى المنصة، وكيف اختطف الميكروفون وراح يردد _ وقد انتابته الهستريا _ من أنا إن لم أكن أنا ؟من أنا إن لم أطعم الجوعى .من خبزي.إن لم أرو العطاش من نبع روحيإن لم أوزع الماء ، والضياء ، والهواءإن لم أكن ضحية العيد وسلوة الجلاد إن لم تنضح الأرواح بالحب إن لم أتصدق بالدماء...ثقب صراخه الجدران ، والآذان ، فأقبل السجان ليعجن معالم وجهه ، وليصبح خلقا آخر . [c1] *الدار البيضاء سبتمبر1974 [/c]