أسلمة القضايا المدنية
شتيوي الغيثي في واقعنا المحلي والعربي عموماً تُطرح القضايا المدنية، والتي هي ممارسات حياتية يومية تتشارك فيها المجتمعات البشرية كونها حاجة عامة لكل إنسان، ولا تخص مجتمعاً بعينه مهما كانت درجة محافظته أو مهما كانت درجة تقدمه أو تخلفه الحضاري، من وجهة النظر الدينية ويتم الفصل فيها من خلال وجهة النظر هذه، على أن القضايا المدنية ما هي إلا نوع من القضايا الدينية كون القضايا الدينية أشمل، بالنسبة للعقل الشمولي الديني، وتدخل في كل صغيرة وكبيرة في هذه الحياة بدءاً من تكوين الدولة الإسلامية إلى أصغر حاجة في حياتنا كالحاجات الحيوية في الجسد البشري، وهذه ذهنية عامة في الخطابات الشمولية الدينية منها وغير الدينية، والمشكلة ليست في القضايا المدنية بحكم أنها قضايا قابلة للأخذ والرد وبحكم طابعها المتغير، بقدر ما أن المشكلة في ذهنية الكثير من ممثلي الخطاب الديني الذين يعتبرون أنفسهم أوصياء على كل المجتمع وعلى العالم، ولا يمكن قبول أي قضية حياتية أو مدنية في سياقات أي عمل مدني إلا من خلال مباركة ممثلي الخطاب الديني، وفي هذه التصرفات نوع من التقييد الفكري والحياتي على المجتمع وعلى الناس وعلى العقول، والأسوأ من ذلك أن مساحة المحرم بالنسبة للخطابات الدينية التقليدية قديماً وحديثاً، تتسع دائرته لتدخل الأمور المباحة دينياً ومدنياً أحياناً في دائرته لتصبح دائرة المباح محصورة في قضايا محددة ومعينة، وكأن الأصل في الأمور جميعها الحرمة حتى يتبرع البعض ممن يمتلك جرأة التفكير ويمارس جرمها، ليقوم بإعادة النظر في بعض قضايانا المدنية وتحليلها في ما بعد لنكتشف أن كثيراً مما كنا نعتقد أنه من المسلمات التي لا نستطيع إلا أن نقبلها كتكليف ديني ما هي إلا آراء فقهية فيها من الخلاف أكثر مما فيها من الإجماع، ولا تمثل في الغالب إلا رأي أصحابها، أو هي ظرفية القول والزمان والمكان والممارسة. ومازلنا نذكر في هذا السياق كيف كانت الدعوات القديمة لأسلمة العلوم؟! وكيف كانت تجيّر كثير من الأفكار الإنسانية عامة لصالح الخطاب الديني بقليل من التوفيقية التي لم يكن لها لزوم في الأصل، إلا في عقول مستخدميها والقائلين بها، كون الأفكار الإنسانية هي في الغالب لا تتحدد في مجتمع بعينه ولا تعنيه وحده، ذلك أن الاستفادة منها كانت عامة على كل من أراد الاستفادة منها على وجه هذه المعمورة، إذ ليس من اللازم أن نبحث لها في سياقاتنا الإسلامية أو في تاريخينا العربي عند بعض مفكرينا ما يمكن أن يكون له أصل إسلامي حتى يتم القبول أو الرفض لها من هذا القبيل، على ما لهذه الأفكار من الوضوح في صلاحيتها وفائدتها في الأراضي الإسلامية، والمبالغة الغريبة في قضية الإعجاز القرآني، حيث البحث والتنقيب عن أي نظرية ولو بسيطة في مفردات الآيات القرآنية الكريمة؛ حتى ولو كان السياق القرآني لا يقول بها، لتصبح هذه النظرية حسبما هو جار نظرية إسلامية، وهذا داخل فيما قلناه حول التوفيقية التي لم يكن لها أي لزوم حتى تصح في مجتمعاتنا أو لا تصح. قضية قيادة المرأة - نموذجنا هنا - مع أنها أصبحت قضية مكرورة، قد دخلت من هذا القبيل، أي إنها قضية طُرحت من الوجهة الدينية التقليدية دون غيرها، في الوقت الذي كان من المفترض أن يكون النقاش حولها هو من الناحية المدنية، وإلى أي مدى يمكن قبولها من هذه الوجهة دون أن تأخذ طابعها الديني، والذي كان من المفترض ألا يكون له هنا بسبب أن القضية قضية مدنية وليست دينية ومن يضعها في السياق الديني يكون قد وضع الأمر في غير موضعه، ذلك أن مثل هذه الأمور لا يبت فيها غير المجتمع والدولة وليس للديني فيها مجال كونها خارجة عن مجاله، إلا أن الأمر كان على غير ما قد طرح، فقد دار الجدل في هذه القضية من الناحية الدينية في حين أن كل الأعذار وقضايا التحريم والتحذيرات المبالغ فيها لم تكن مقنعة أبداً. لا لأن المسألة كانت بالصعوبة التي يراها البعض؛ بل لأن المجال الذي دخلت فيه القضية ليس هو المجال الذي كان من المفترض أن تدخل فيه وتدار من خلاله، فالقضايا المدنية الخالصة لا يمكن أن تدخل فيها سياقات الديني الخالص، فطابع الاثنين مختلف أشد الاختلاف، وقضية قيادة المرأة داخلة في هذه المسألة، بل واضح منها أنها قضية مدنية من أولها إلى آخرها. ومن هذه الزاوية، يكون من المناسب أن نذكر أن دراسة ظهرت لأربعة باحثين من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية حول قيادة المرأة، وقد نشرتها صحيفة الوطن يوم الجمعة الفائت، وهؤلاء الباحثون الأربعة هم على التوالي: الدكتور محمد بن محسن التويجري. الدكتور سعد بن سعيد الزهراني. الدكتور صالح بن عبدالله أبوعباة. والدكتور معتز بن سعيد عبدالله، وقد كشفت الدراسة أن عدم السماح بقيادة المرأة للسيارة بالمملكة يعد "من الأسباب الرئيسية لانتشار ظاهرة قيادة صغار السن للسيارات مما تسبب في ارتفاع نسبة الحوادث المرورية التي يتسببون فيها وتكون معظمها مأساوية، مشيرة إلى أن ازدياد عدد أفراد الأسرة الواحدة وحرص العديد من هذه الأسر على عدم استخدام السائق الأجنبي، وتعارض ظروف بعض أرباب الأسر للقيام بنقل أسرهم وحاجة المرأة إلى التنقل أدت إلى الاتجاه لقيادة صغار السن للسيارات وتكليفهم بأدوار اجتماعية غير مناسبة لأعمارهم ومنها نقل النساء على وجه الخصوص فيما تزداد هذه المشكلة صعوبة في ظل تعدد الزوجات" وقد أكدت الدراسة أن "المملكة شهدت خلال العقود الثلاثة الماضية ازدهارا اقتصاديا انعكس على مستوى معيشة الأفراد وأدى إلى تمتعهم بالوفرة المالية مما أدى بدوره إلى زيادة أعداد السيارات التي تمتلكها الأسرة السعودية والتي كان من نتائجها أن جميع أفراد الأسر يتعلمون القيادة في سن مبكرة ويستمرون في القيادة دون اعتراض من الوالدين أو من القائمين على تنشئتهم الاجتماعية، في حين اعتبر البعض أن قيادة أبنائهم الصغار للسيارة تعد مظهرا للوجاهة الاجتماعية دون محاسبة للأبناء على أية أخطاء يرتكبونها من جراء قيادتهم للسيارات وما يترتب عليها من انتهاكات لقواعد المرور وأنظمته " كما هو منشور نصاً في صحيفة الوطن. والجديد في هذه الدراسة أنها دراسة مدنية لا تأخذ في أبعادها المجال الديني اقتناعاً منها أن قيادة المرأة شأن مدني، وهذا ما هو واضح في الدراسة حيث تعتمد على العمل الميداني دون التطرق إلى الوضع الديني، وإذا عرفنا أن هذه الدراسة قد خرجت من جامعة إسلامية كجامعة الإمام، ومن غير أن تتطرق إلى المجال الديني في القضية فإن ذلك يعد تطوراً في السياق الديني المحلي في هذه القضية في حين أنه ما تزال تطرح القضية في مجالها الديني، وعلى ذلك فنحن نأمل أن تكون كل قضايانا المدنية لا تناقش إلا من خلال المدني وأن يكون الديني فاعلاً في مجاله.نقلا عن جريدة "الوطن" السعودية