أحمد الحبيشي ومع ذلك يمكن القول ان الحضور الأبرز في مختلف مشاهد العيد كان لشجرة القات بامتياز ، على الرغم من ان اسعار القات اشتعلت ووصلت الى مستوى جنوني فاق كل تصور خلال ايام العيد !! قيل في القات كلام كثير.. وأريق على جوانبه مداد أكثر.. ولا يزال القات رغم كل ما قيل وكتب عنه واحدا ً من أكبر التحديات التي تواجه طموح اليمنيين للانعتاق من كل الكوابح التي تؤخر تطورهم وتقدمهم .لا يختلف اثنان حول الآثار السلبية لهذه الشجرة على الصحة والبيئة والأسرة والاقتصاد الوطني.. ولدينا ما يكفي من الدراسات والتقارير التي أوضحت مخاطر القات التي تؤدي إلى تدهور صحة المجتمع ، وانتشار الأمراض النفسية والعصبية مثل القلق والاكتئاب والأرق ، بالإضافة إلى أمراض ضغط الدم والإمساك وسرطان الفم ، ناهيك عن امتصاص الموارد المائية الشحيحة للبلاد ، وابتلاع الجزء الأعظم من ميزانية الأسرة ، على حساب حاجتها للغذاء والدواء والتعليم والادخار وتحسين مستوى المعيشة.بيد أنّ الأخطر من كل ما تقدّم ، هو قدرة القات على الاستجابة للحداثة أكثر من المجتمع نفسه.. فقد تمكنت هذه الشجرة من الانخراط في العمليات الجديدة التي تستهدف تحديث النظام السياسي وتغيير نمط حياة المجتمع في مختلف المجالات.استجاب القات لمقتضيات الديمقراطية التعددية ، فدخل مجالس السياسة واخترق الحياة الداخلية للأحزاب السياسية ، واقتحم منتديات المثقفين والأدباء والفنانين وأصبح صنوا ً لنشاطهم الإبداعي.. ثم اتجه صوب ملتقيات النساء التي ضاقت بها تقاليد المجتمع الموروثة عن عهود العزلة والانغلاق والتمييز ضد المرأة ، ونجح في استقطاب النساء إلى فضائه الواسع تجسيدا ً لمبدأ المساواة !!.مد القات نفوذه فاستولى على اهتمامات الشباب والطلاب ، وأثبت قدرته على سد الفراغ الذي يولده عجز المجتمع عن تلبية احتياجاتهم المادية والروحية المتنامية ، في عصر لا يجد الشباب لوجوده معنىً إلا ّ في حياة غنية بالقدرة على إشغال أوقات الفراغ ، وتنمية مواهب الشباب وتنويع خياراتهم وتوسيع مداركهم وخبراتهم .أصبح القات وسيلة لا غنى عنها في إنجاز المهام التي تضطلع بها النخب الإدارية والعلمية والعسكرية والاقتصادية المعنية بصياغة استراتيجيات التنمية ، ومعالجة مصاعب التطور، واستشراف آفاق المستقبل.حتى النخب الدينية المعنية بحراسة الدين والقيم الدينية ودعم الفضيلة والأخلاق الحميدة في المجتمع ، أصبحت ترتبط ـ هي الأخرى ـ بوشائج وثيقة مع هذه الشجرة.. ولذلك فإنّ المجتهدين من ( أهل العلم ) في اليمن خالفوا غيرهم من علماء الدين في بعض البلدان الإسلامية ، حيث أفتى علماؤنا بتحليل القات فيما حرمه آخرون على المسلمين في بلدانهم.وكما يوجد القات في مجالس علماء الدين وقادة الأحزاب وملتقيات النساء والشباب والطلاب والمثقفين وأسواق المال ومرابع القبائل ، وصالات الأفراح والعزاء، ومراكز البحوث ومعاهد تنمية الديمقراطية ، فقد تمكن أيضا ً من الاستيلاء على قاعات التحرير في الصحف الحكومية والحزبية والمستقلة ، واقتحام مقاهي الانترنت ، وصالات الفنادق الراقية التي تتبارى في تخصيص بعض قاعاتها للنزلاء (الموالعة) ، وتزويدها بخدمات الاتصالات والشبكات الفضائية !!.بقدر ما أثبتت شجرة القات قدرتها على الاستجابة للمتغيرات التي يشهدها المجتمع بتأثير العمليات السياسية الجديدة ، بقدر ما أثبتت هذه الشجرة أيضًا قدرتها على بلورة أشكال أخرى من الاستجابات المصاحبة لتنامي الطلب على القات.. فأصحاب مزارع القات لم يترددوا في تحديث طرق وأساليب الإنتاج والتسويق.. وتبعًا لذلك استجابت فروع اقتصادية أخرى لتحديث أساليب تعاملها مع حاجة مستهلكي القات لتطوير تقاليد التعاطي مع القات خصوصا ً وأنّ مزارعي ومستهلكي القات مؤمنون بالوحدة والديمقراطية والتعددية الحزبية ، وحريصون على صيانة مكاسب الثورة والجمهورية.. ولذلك شرعت المصانع في إنتاج أحدث المشروبات الغازية والمفروشات والأدخنة والمواد الحافظة ، وغيرها من الاستجابات اللازمة لإلحاق القات بعصر الحداثة والتنمية واقتصاد السوق..!!هكذا أصبح القات بيرق أحزابنا ، وعنوان ديمقراطيتنا ، ورمز خصوصيتنا.. ومصدر إلهام مبدعينا ، وصنو نسائنا وجليس شبابنا وعبق تاريخنا!!.وعليه ، فلا غرابة أن يصبح القات جزءًا أصيلاً من نسيج تخلفنا ، ومحددا ً رئيسياً لنمط حياتنا وركودنا ، ولصًا خفيف الظل يسرق مواردنا وصحتنا وأوقاتنا وأعمارنا!!.الأستاذ/ أحمد جابر عفيف كرس كثيرا ً من جهده ووقته لتنشيط الجمعية اليمنية لمواجهة أضرار القات التي يرأسها.. وقد استرعى انتباهي أحد تقارير هذه الجمعية الذي يشير إلى أنّ المواطنين في بلادنا يضيعون عشرين مليار ساعة عمل يوميًا بسبب مضغ القات ، فيما ينفق المجتمع على القات بحسب تقديرات البنك الدولي ومنظمات دولية مختصة بالزراعة ، ما يزيد عن خمسة مليارات من الدولارات سنويًا، بالإضافة إلى استنزاف أكثر من 30 من الموارد المائية الشحيحة ، ـ أصلاً ـ لزراعة القات ، الأمر الذي ينذر بوقوع كارثة جفاف وتصحر في حالة استمرار الوضع الحالي للموارد المائية !!.قبل حوالي ثلاث سنوات نظمت حكومة الأستاذ عبدالقادر باجمال مؤتمرا وطنيا لمناقشة خطر شجرة القات .. لكن المؤتمر عجز عن الاقتراب من مناطق الوجع واكتفى بإطلاق أطنان من التوصيات والتحذيرات التي أصابتنا بالكآبة بعد أن أصبح حضور القات طاغيًا في كل مجالات حياتنا.إنّ إدراك الخطر القادم لا يكفي، ما لم تعززه إرادة سياسية لمواجهته ، في إطار إستراتيجية وطنية تبدأ بتخفيض الطلب عليه.. وسيكون مفيدا جدا ً لو اقتربنا قليلا ً من منطقة الوجع بمناقشة فكرة تقليص أيام تعاطي القات بصورةٍ قانونية في العاصمة والمدن الرئيسة.. وهي خطوة لا غنى عنها في طريق الألف ميل .عن صحيفة /"26 سبتمبر"
لص خفيف الظل
أخبار متعلقة