سالم جبران أثارت محطة "الجزيرة" التلفزيونية، مؤخراً، جرحاً قديماً لم يندمل يوماً، وهو مصير "اليهود أبناء العرب" الذين نجحت الحركة الصهيونية في تهجيرهم جميعاً تقريباً من الدول العربية إلى إسرائيل، بعد الحرب الفلسطينية عام 1948 مباشرة، عندما كانت دولة إسرائيل دولة ناشئة ضعيفة وقليلة السكان وبحاجة ماسة إلى السكان وأيضاً إلى الأيدي العاملة.شعرت بالأسى على المصير الفلسطيني والمصير العربي العام، وأنا استمع إلى الكاتب اليهودي من أصل عراقي، سامي ميخائيل وهو يقول إنه عاش في العراق حتى سن التاسعة عشرة، وكان يحس انه ابن الطائفة اليهودية ولكنه لم يكن متدينا، وكانت تربطه أواصر نضالية مع الحركة الشيوعية والحركة اليسارية والوطنية العراقية عموماً. وكان عميق الإحساس والالتزام للمواطنة العراقية. وقال البروفيسور شمعون بلاص (أديب وقاص) إنه يهودي عربي أو عربي يهودي وكان عراقياً أصيلاً لم يحب وطناً غير العراق، العربية لغته الأُم والثقافة العربية العريقة، الكلاسيكية والحديثة هي ثقافته الوحيدة.وأذكر هنا مثقفاً بارزاً آخر هاجر إلى إسرائيل من العراق وصار أحد أبرز الأكاديميين المتخصصين بالثقافة العربية وهو البروفيسور ساسون سوميخ، حدّثنا مراراً عن ارتباطه بالحركة الثقافية العراقية الناهضة في أواخر الأربعينيات ولقاءاته مع الشاعر بدر شاكر السياب والشاعر بلند الحيدري وإعجابه حتى الانبهار بالشاعر محمد مهدي الجواهري ومتابعته التفصيلية للحياة الثقافية والأدبية والفكرية في بغداد.ساسون سوميخ هذا، قال مرة في مؤتمر علمي في جامعة تل أبيب: "أنا لست مستشرقاً. المستشرق هو الغريب عن الشرق الذي يتخصص بتاريخ الشرق وثقافته. أما أنا فابن طبيعي وشرعي للشرق، جذوري عراقية وشربت من ماء دجلة والفرات".وهناك مثقف آخر. أيضاً من أصل عراقي، المرحوم سمير نقاش، عاش عمره في إسرائيل مغترباً مكاناً ولغة وانتماء، ولم يكتب يوماً قصة طويلة أو قصيرة إلاّ باللغة العربية.إن الجيل الأول من المهاجرين اليهود من الدول العربية إلى إسرائيل أحسَّ باقتلاع رهيب، وشعر خلال سنوات طويلة بالأسف والألم الشديدين كما شعر بالغربة الموجعة، وهو يُنقَل بالمؤامرة من وطنه الأصلي، الطبيعي إلى وطن لا يعرفه.مهم جداً أن نسمع ما يقوله مثقفون يهود وهو أنهم هُجِِّروا إلى إسرائيل بالتآمر والرشوة عبر صفقات بين الحركة الصهيونية والأنظمة العربية الفاسدة والعميلة آنذاك، وقد أخذت هذه الأنظمة مبلغاً من المال عن كل يهودي استجلب من البلاد العربية إلى إسرائيل.كان اليهود في الدول العربية، عموماً، من النخبة الاقتصادية والتجارية الهامة، وكانوا نخبة ثقافية ومهنية متقدمة أيضاً، وكانت نسبة عالية من الشباب اليهود نشطاء في المسرح وفي الأدب وفي الصحافة. وكانت عند الطائفة اليهودية في بغداد مدرستان ثانويتان ممتازتان هما "شماش" و" إليانس" ودرّس فيهما أُدباء عرب كبار أمثال الدكتور عبد اللطيف شرارة والدكتور الفيلسوف حسين مروة. هاتان المدرستان نشرتا الثقافة النهضوية العربية ولم تعلما اللغة العبرية القديمة، كما أن قشرة قليلة من يهود العراق كانوا متدينين.حدثني مثقف عراقي، مهاجر في لندن، أن اليهود العراقيين كانوا ثلاثة أقسام: قسم لم يعمل بالسياسة إطلاقاً وترقى في الوظائف الحكومية، بالمناسبة، أول وزير مالية في حكومة الملك فيصل الأول كان يهودياً عراقياً، وهذا لم يحرج الملك فيصل ولم يحرج هذا الخبير الاقتصادي اليهودي.إن عودة إلى بدايات النهضة في مصر وتونس والمغرب ولبنان تذكرنا بأن العديد من اليهود، رجالاً ونساءً، اشتغلوا في الثقافة والصحافة والفنون والغناء والمسرح، كانوا نشطاء مع الحركة الوطنية بقيادة سعد زغلول.كان بالإمكان، نظرياً وعملياً، أن ينصهر اليهود في الدول العربية في الشعوب العربية، في المجتمعات العربية، لو أن القومية العربية كانت قومية ديمقراطية تصهر كل المواطنين على أساس المساواة، في انتماء واحد للوطن. إن هجرة الأكثرية الساحقة من يهود الدول العربية إلى إسرائيل هو فشل للقومية العربية، للمجتمعات العربية، أكثر ما هو نجاح للحركة الصهيونية.إن التيارات الرئيسية في الحركات القومية العربية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، كانت منغلقة، ترتبط بطبقة، ملاّكي الأرض وذات اتجاهات للتعصب الديني الإسلامي. وهذا ساعد على زرع الاغتراب بين اليهود العرب أو بين العرب اليهود، وحولهم إلى لقمة سائغة، سهلة للمكائد الصهيونية.في اعتقادنا أن هناك في تاريخ الأُمم أغلاطاً من غير الممكن إصلاحها. فالجيل الأول من المهاجرين من الدول العربية إلى إسرائيل قد توفي. والأجيال التالية لم تعد تعرف العربية وتعرف العبرية كلغة أُم، كما أنهم اندمجوا في الحياة العامة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهناك مجموعة غير قليلة أصبحت من الطبقة الثقافية العليا في المجتمع اليهودي الإسرائيلي.ولكن لو أن الحركة الوطنية الفلسطينية، والعربية عموماً، تعاملت طول الوقت تعاملاً صحيحاً وموضوعياً مع اليهود العرب، في إسرائيل، كان بالإمكان التأثير عليهم ليكونوا أنصار المصالحة والتعايش مع الفلسطينيين ومع شعوب الأُمّة العربية عموماً.إن الكذب القومي والتطرف القومي قادا إلى تسهيل عملية نقل اليهود من الدول العربية إلى إسرائيل. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن الكذب القومي والتطرف القومي يقودان دائماً إلى نقيض المصلحة القومية الحقيقية.ودي هنا أن أُشير إلى تطورات سكانية وقومية وثقافية في العالم العربي اليوم شبيهة بمأساة رحيل اليهود العرب. قرأنا، قبل أيام، أن المسيحيين كانوا حوالي خمسة ملايين ونصف المليون في العراق، في آخر عهد صدام حسين. والآن بقي منهم لا أكثر من مليون ونصف المليون. كما أن أقليات غير عربية اختارت أيضاً الرحيل من العراق. والتعصب الديني يخلق صدعاً خطيراً بين السُنة والشيعة، وأيضاً بين العرب والأكراد.إن إقدام الإرهابيين على حرق خمس كنائس في يوم واحد ردّاً على جرائم الغزاة الأمريكيين، هو قول وحشي للمسيحيين العراقيين أن هذه البلاد ليست بلادكم.كذلك نقرأ تقارير مستمرة حول الهجرة المسيحية المقلقة من مصر وكذلك أحداث التوتر الطائفي الإسلامي المسيحي، في مصر. وهذا كان عبر التاريخ كله غريباً عن روح مصر، وروح مسلميها وأقباطها.إن الأُصولية الدينية المتطرفة أحدثت وتحدث شرخاً عميقاً في الجسد الاجتماعي للأُمّة العربية، فبدل أن نقول إننا أُمّة واحدة ذات مصالح جماعية مشتركة، فإننا نحول الانتماء الديني إلى حاجز وحدّ فاصل، مع شعورٍ دائم بالخطر عند الأقلية الدينية.إننا نقول، بكل الصراحة والوضوح، إننا إذا أردنا وحدة حقيقية لأُمتنا، فإننا بحاجة إلى بلورة فكر قومي ومسلك قومي يقومان على المساواة والمشاركة، والديمقراطية والتعددية، بما في ذلك التعددية الدينية، مع تأكيد المصالح القومية والاقتصادية المشتركة والروابط الثقافية واللغوية والتاريخية المشتركة. هناك مصلحة حياتية وثقافية واقتصادية واجتماعية مشتركة، في تجنيد كل الطاقات في أمتنا، الثقافية والعلمية والمهنية، لخلق انتماء مشترك واحد، وهوية مشتركة واحدة. مصلحة قومية استراتيجية مشتركة وأن لا يكون أي تمييز أو تهميش أو تحييد لأحد أو لفئة نتيجة الانتماء الديني أو الجغرافي أو سواهما.مقابل التعصب الديني الأُصولي المتطرف ومقابل التعصب القومي المتطرف هناك حاجة مصيرية لخلق انتماء واحد مشترك يقوم على الديمقراطية والمساواة والتعددية والاعتدال وقبول الآخر المختلف، وعلى هذا الأساس يتم بناء أُمّة عربية عصرية مفتوحة على الحضارة، تأخذ بلا خوف وتُعطي، وتشارك في المصير الإنساني، بلا انعزال وبلا رهبة.مقابل القومية المتخلفة ذات البصمات الطائفية الدينية، بحاجة إلى القومية المعاصرة التي تصهر كل أهل الوطن إطاراً ثقافياً واجتماعياً وحضارياً مشتركاً، وتجعل كل سكان الدول العربية يشاركون، في الانتماء وفي العطاء وفي المسؤولية عن الوطن وبناء المستقبل. هذا ليس حلماً عاطفياً بل هو حاجة وطنية، حياتية ومصيرية._______* شاعر وصحفي ومن ابرز المفكرين والكتاب العرب في اسرائيل
جرح قديم .. وجراح جديدة محتملة!
أخبار متعلقة