راجي بطحيش / كاتب وسيناريست فلسطيني لا شك ان السينما المصرية شهدت خلال العام 2006 وتشهد خلال الثلث الأول من عام 2007 تغييرات مفصلية لا يمكن تجاوزها ببعض الجمل النقدية النمطية المتعالية. فالسينما المصرية هي السينما الوحيدة في المنطقة العربية وفي الشرق الأوسط والتي تنتج أفلامها برؤوس أموال محلية خالصة وخاصة حيث لا تتدخل الدولة بأدنى دعم لهذه الصناعة وتفوق مشاهدتها في مصر وبعض البلدان العربية مشاهدة الأفلام الأمريكية من حيث المدخولات وعدد الأفلام في كل صالة عرض ولا تحدث هذه الظاهرة الا في الولايات المتحدة نفسها والهند بطبيعة الحال فيما يخص السينما الهندية.تعتبر السينما المصرية بجدارة سينما عقود بمعنى أن زلزالا أو منعطفا يعصف بهذه الصناعة في بداية كل عقد من السنوات ليحدد معالم هذا العقد بدقة متناهية فيعتبر عقد السبعينات مثلا عقد غيبوبة نكسة 1967 وقد سادت في هذا العقد الأفلام المصرية - السورية - اللبنانية المشوهة والتي لا يستوعب العقل البشري مدى فجاجتها وسخافتها في آن كما سادت في هذا العقد السبعيني الأفلام السياسية التي تهاجم نظام عبد الناصر مباشرة وتمجد عصر السادات بصفته المنقذ وجالب النصر إضافة الى الأفلام الكثيرة التي تسرد حياة البرجوازية القاهرية المنغمسة بالملذات وثقافة النوادي والملاهي الليلية ثم تأتي الثمانينات لتبدأ في مستهلها ما استطيع بثقة أن أسميها “ثورة” الواقعية الجديدة والتي شكلت صرخة حقيقية ضد الفقر والظلم والتهميش والتي قادها بروعة كل من محمد خان،عاطف الطيب، رأفت الميهي وقد تبعهم بعدها وبلغة مغايرة كل من خيري بشارة وداوود عبد السيد ويسري نصراللة وغيرهم إضافة الى العديد العديد من “أفلام المقاولات” والتي كانت تصوّر خلال أيام خصيصا للسوق الإستهلاكي الخليجي والذي انعدمت فيه دور السينما أو الثقافة السينمائية آنذاك. [c1]من فلم الأبواب المغلقة للمخرج عاطف حتاتة [/c]وجاءت التسعينات بنتيجتين متضاربتين انخفض فيها الإنتاج كما الى الحضيض ونجت من بين هذا السقوط المدوي الأفلام العلامات بمخرجيها الكبار وخاصة في الست سنوات الأولى من أعوام التسعين فقدم خيري بشارة مثلا اجمل أفلامه مثل “كابوريا” عام 1990، “ايس كريم في جليم” عام 1992، “امريكا شيكا بيكا” 1992 “حرب الفراولة” 1993 وغيرها...كما قدم عاطف الطيب الذي توفي في العام 1995 أجمل وأعذب فيلمين له على الإطلاق “دماء على الإسفلت” 1992 و “ليلة ساخنة” 1994 والذي أقفل من خلاله مع نور الشريف الدائرة التي بدأها معه في “سواق الأوتوبيس” عام 1982، كما قدم رأفت الميهي ثلاثيته الشهيرةوالغرائبية مع ليلى علوي(والتي شكلت بدورها ظاهرة ملفتة في التسعينات) ويسجل في التسعينيات أيضا توقيع يسري نصراللة على فيلمه الفضائحي البديع “مرسيدس” والذي بالإمكان تدريس حواراته ومشاهده في معاهد السينما كنموذج لمخزون الدلالات والإسقاطات الغزير في عمل فني واحد...وفي التسعينيات دائما...نشأت ظاهرة الثالوث (عادل إمام-وحيد حامد-شريف عرفه) ليقدما معا خمسة أعمال هي أقوى ما قدم في السينما المصرية من كوميديا سياسية وبالأخص “اللعب مع الكبار” 1991 و “المنسي” عام 1993 وقد انزلق هذا الثلاثي تمثيلا- كتابة-إخراجا في مسايرة موجة سينما الشباب الكارثية مع بداية ال-2000 وشهد العام 1996 أول فيلم “لمجدي أحمد علي” وهو “يا دنيا يا غرامي” والذي لقي سنة عرضه شهرة واسعة على الصعيدين النقدي والجماهيري بفضل موضوعه النسوي بإمتياز ولغته الرقيقة المؤثرة..كما قدم المخرج والممثل “زكي فطين عبد الوهاب وفي ذات العام فيلمه الشائك “رومانتيكا” والذي يعيبه خيارة الأوتوبيوغرافي على نسق “الأستاذ” يوسف شاهين في الثرثرة التي لا تنتهي عن الذات...ولكن ذلك لا يقلل بالطبع من أهمية الفيلم كحدث سينمائي ملفت وقتها. ويشكل رضوان الكاشف ذلك المشروع المبتور الذي لم يكتمل ولم يسعفة الوقت والموت بأن يتبلور ويصبح نهجا أو مقولة حتى.. ففي العام 1993 قدم رضوان الكاشف عمله الطويل الأول “ليه يا بنفسج” وجاء كتتمة طبيعية لتيار الواقعية الجديدة أو كما سماها بعض النقاد المحافظون”سينما المهمشين” وبهذا وبرغم موهبة المخرج اللافتة الا أنه لم يقدم أي جديد مفصلي متوقع من مخرج واعد في هذا الفيلم باستثناء بعض الملامح الفنية المميزة وظهر رضوان الكاشف مجددا من خلال فيلم “عرق البلح” والذي فشل فشلا ذريعا في دور العرض لسبب مهم أنه ظهر في العام 1999 وهو العام الذي كانت قد تكرست فيه ظاهرة الكوميديون الجدد بعد النجاح المدوي “لصعيدي في الجامعة الأمريكية” في العام 1998 والذي شهدته شخصيا في شوارع القاهرة في صيف ذلك العام...ضاع “عرق البلح” وسط الموجة الجديدة وتكدست شرائطه في المستودعات مع انه احد أهم الأفلام “الجنوبية” شعرية في تاريخ السينما العربية..عاد رضوان الكاشف في العام 2002 من خلال فيلم متوسط لا يذكر ابدا بفنية “عرق البلح” وهو “الساحر” مستغلا فيه نجومية محمود عبد العزيز السينمائية (والذي ثبت بعدها أنها كانت تتجه متسارعة نحو الأفول) ولكن هذا الفيلم وعلى الرغم من وسطيته وتكراره احتوى على مشاهد وحوارات عذبة تحسب له وخاصة انها جاءت في قمة انهيار السينما من خلال الموجة الكوميدية ذات اللون الواحد والتدميرية التي سادت وقتها. وكإستمرارية لأفلامه التي حققها خلال المنتصف الثاني من الثمانينات قدم المخرج الكبير داوود عبد السيد أعمالا هامة، تختلف كلية عن بعضها البعض سردا وفنية ولكنها شكلت ولاتزال تشكل عند عرضها فضائيا علامات في مكتبة السينما العربية عامة ومن أهمها فنية وأكثرها شعبية وقربا من الجماهير “الكيت كات” عام 1991 والفيلم الشديد البهاء “البحث عن سيّد مرزوق” عام 1992 و”أرض الخوف” عام 1999 وهو متعة بصرية وسمعية خالصة برأيي حيث يجسد معادلة الفكر والتشويق في ذات واحدة و “مواطن ومخبر وحرامي” عام 2001 وهو رؤية لاذعة سابقة لعصرها بغلاف شاعري يؤسس لكل ما هو آت...من سرد سينمائي. بإستثناء ما ذكرت وما حققه يوسف شاهين وتلميذه خالد يوسف من أفلام متفاوتة الأهمية حلت بالسينما ومن الفترة 1999 - 2005 لعنة تتلخص بإنتاج 20 فيلما بالعام فقط احتلت معظمها أفلام الكوميديا الخالية من صيرورة السيناريوهات المعهودة واعتمدت هذه الأفلام على غباء وتخلف نجومها العقلي ونكتهم الساقطة والأحداث المفتعلة والشخصيات المشوهة إضافة الى الأغاني الفظة الحتمية في بداية،وسط ونهاية الشريط بقيادة عصابة الكوميديا المخجلة(هنيدي-محمد سعد-هاني رمزي-أحمد ادم.. وغيرهم)...وقد يكون أكثر ما أفجعني عندما شاهدت بعض هذه الأفلام تلك العنصرية الوقحة والإسقاطات والأراء المسبقة الفظة ضد كل ما لا يشبه عالم الشخصيات الرئيسية ومنظومة قيمها..فتمتليء أفلام “هنيدي” مثلا بالسخرية العنصرية من لون بشرة الشخصيات الأفريقية السوداء ووصمها بالعجز الخلقي إضافة الى المحاسبة الأخلاقية الغير مبررة لكل ما هو اوروبي أو امريكي(همام في امستردام،هاللو امريكا) إضافة الى التهكم والتنكيل الجسدي بقصار القامة-الأقزام (الرجل الأبيض المتوسط- صاحب صاحبة) وأصحاب الوزن الزائد (جاءنا البيان التالي)..والسخرية من النساء القبيحات (خالتي فرنسا) وتهميش النساء عامة في كافة الأفلام وتحويلهن الى مكملات وجزء من الديكور وأداة لتنفيذ الرقصات خلف النجم المطرب...والعجيب في الأمر هو التورط الملفت من قبل نجوم كبار أمثال المخرج “شريف عرفة” كما ذكرت سابقا والممثلة الموهوبة “عبلا كامل” والتي غدت لاحقا رمزا لهذا التيار التجاري الجارف( خالتي فرنسا، كلم ماما، اللمبي). [c1]نبيلة عبيد من احد أفلام الثمانينات [/c]ولم أفهم حتى الأن تلك اللهفة النقدية التي رافقت عرض فيلم “سهر الليالي” كونه حدثا سينمائيا مفصليا وقد أتفهم قليلا وأخمن على الأصح أن كل الإطراء نبع أساسا من اليأس الشديد من امكانية ظهور عمل يستحق الكتابة عنه ففيلم “سهر الليالي” 2003 وإذا قسناه بأفلام ذات حبكة مشابهة ك”يا دنيا يا غرامي” يعرض مشاكل زوجية عميقة لأربعة أزواج تربطهم صداقة وتاريخ مشترك تتأجج أسطوريا في نفس الليلة وتخمد بقدرة الهية غير مبررة في نهاية الفيلم وكأن الحياة هي بهذه البساطة غير المفهومة... ونفس المعضلة تحدث في “حب البنات”2004للسينما ريست نفسه –تامر حبيب- فمشاكل ومآسي الحياة وعقدنا النفسية تنتظر أغنية سالسا راقصة كي تحّل. أول دلالة على قرب الحلحلة بدأت مع اعلان تأسيس “جود نيوز” الشركة السينمائية الطموحة للصحفي الشهير عماد الدين أديب وبدء تصوير “عمارة يعقوبيان “ و”حليم” وعرضهما في صيف 2006 انتابني وقتها شعورا أن شيئا ما قديتحرك نحو الأفضل في موسم عرض 2006 وبداية 2007 وفعلا.. فقد دارت عجلة الأنتاج وعرض حوالي 40 فيلما أي بزيادة تقدّر ب 80 % عن السنوات السابقة كما تراجعت الأفلام الكوميدية إياها ونجحت كوميديا أكثر ظرفا وتتمثل بأفلام الممثل ومقدم برامج الأطفال أحمد حلمي (ظرف طارق-جعلتني مجرما-مطب صناعي) وتميز عام 2006 بتنوع الأشكال السينمائية ونجاحها جميعا والحقيقة ان هذا التنوع كان قد بدأ في موسم 2005 مع أفلام مثل “خال من الكولسترول” و”خريف ادم” الا ان هذه الأفلام لم تلقى نجاحا جماهيريا يذكر ساعة عرضها. أحد اهم ما ميز 2006 هو عودة مخرج الثمانينات محمد خان بفيلم عادي بعنوان “بنات وسط البلد” يذكرنا بصعوبة الوصول الى روعة مشهد واحد من مشاهد “أحلام هند وكاميليا”1988...أما الحدث الثاني فهو “أوقات فراغ” والذي يشكل صفعة في وجه صناع السينما “الشبابية” بنظرته الواقعية ولغته المميزة وسوداويته المبررة جدا...وفي عام 2006 يصحح تامر حبيب مساره التفاؤلي جدا ويقدم “عن العشق والهوى” ومن الأفلام الجميلة أيضا والتي لفتتني برقتها الغير متكلفة “ملك وكتابة” وهو مباراة تمثيلية ممتعة بين محمود حميدة والرائعة هند صبري إضافة الى الممثل الواعد دائما وفي كل عمل يقدمه خالد ابو النجا...وعلى الرغم من الخيبة التي سببها “عمارة يعقوبيان” وبعده “حليم” الى انه ودون شك فيلم مهم وعلامة في تاريخ السينما المصرية وخاصة انه يؤسس لعودة صنف سينمائي جاد وجريء الى قلب المشهد السينمائي المصري والعربي...وخلافا للسنوات السابقة التي سيطر فيها الهذيان الكوميدي(غيرالمضحك أصلا) على الفعل السينمائي في مصر فإنه وفي عام 2006 تفوقت الأفلام الجيدة والمتوسطة عدديا وجماهيريا على الأفلام الأخرى فإضافة الى ما ذكرت عرضت في العام 2006 أفلام جيدة مثل: “ليلة سقوط بغداد”، “منتهى اللذة”، “ويجا”، “دم الغزال”، “كلام في الحب”، “دنيا”، “ما تيجي نرقص”، “لعبة الحب” وغيرها.يتضح مما يعرض وما يصور حاليا وحتى الثلث الأول من 2007 أن الإتجاه الإصلاحي كما وكيفا مستمر بثبات فمن الأفلام الجيدة والتي شاهدتها بداية العام في القاهرة والتي تحمل فكرا ورؤية اخراجية منعشة “خيانة مشروعة” لخالد يوسف بطولة هاني سلامة حيث يتمحور حول الغريزة الإنسانية لزرع الفتنة بين الأخرين وقد يعيبه طوله النابع من مشاهد الحركة(الأكشن) المزروعة قسرا دون أي وجه حق.. يذكر ان هذا الفيلم ما زال يحقق نجاحا جماهيريا ملفتا وقد تجاوزت ايراداته في مصر وحدها حتى الأن مستوى ال-13 مليون جنيه..كما يعود محمد خان للسنة الثانية على التوالي بفيلمه الجديد “في شقة مصر الجديدة” وقد يكون هذا دليل صحة مبشر ان هذا المخرج لن يختفي من جديد. كما عرضت/أو تعرض منذ بداية 2007 أفلام واعدة تعطي انطباعا بانها جيدة مثل: “ استغماية”، “مفيش غير كدة”، “كشف حساب”، “ قص ولزق”، “أنا مش معاهم” و “ التوربيني”. [c1]نقلا عن / (ايلاف) [/c]
|
رياضة
السينما المصرية : أبداية نهاية الانهيار ؟
أخبار متعلقة