د. إلهام مانع *[email protected]هل لاحظتم الخيط الذي يصل بين كل مقالتي السابقة. خيط متصل. أنسجه مراراً بالكلمات لأنه المحور في هذه اليوميات. قائم على فكرة واحدة لا تتغير: الإنسان، رجلاً كان أم امرأة، عاقل، راشد، بالغ. ولأنه عاقل، ولأنه راشد، ولأنه بالغ، فإنه قادر على اتخاذ قراراته بنفسه. قادر على أن يختار حياته كما يشاء. أن يشكلها كما يريد. وأن يتحمل مسؤولية اختياره.وهو قادر على فعل ذلك إذا أتيحت له الظروف المناسبة.لا يحتاج إلى وصاية عليه، أو على عقله. بعبارة مختصرة، الإنسان، رجلاً كان أم امرأة، حر. وُلد وهو حر، وُلُد كي يكون حراً. حق طبيعي له، رجلاً كان أم امرأة. حق طبيعي يرتبط جوهراً بكونه إنساناً، ذا عقل. تلك الفكرة هي التي تؤسس أيضاً للدعوة إلى حرية المرأة وتحررها. حرية وتحرر! لاحظوا أني أستخدم هنا عامدة متعمدة لفظين دأبنا دائماً على التعامل معهما على أنهما رديفان للانحلال وفساد الأخلاق. ألصقنا بالحرية والتحرر مضامين سلبية. ووصلنا إلى مرحلة عندما نقول إن تلك السيدة تدعو إلى حرية المرأة وتحررها، يصبح المعنى تلك السيدة تدعو إلى دعارة المرأة وعهرها! يصبح ذلك هو المعنى! وأصبحنا لذلك نخاف من الألفاظ. ألفاظ يفترض أنها تنويرية، تسعى إلى حياة أفضل للإنسان،إلى كرامته، وصيانة حقوقه، تتحول بفعل التكرار وغسيل الأدمغة إلى اتهامات نسعى إلى نفيها عن أنفسنا. "أنت علمانية، متحررة". شتيمة بالنسبة لشريحة واسعة من قطاعاتنا. وأنا أخوتي "علمانية ومتحررة". وأفخر بذلك. ليست تهمة كي أنفيها عن نفسي. بل هي طريقتي في التعامل مع الحياة. وأظن أني لو صمت بعد ذلك لأرتاح البعض كثيراً، لأن الصورة عندئذ ستكون متسقة. "نعم، هي علمانية ومتحررة. هي إذن كافرة لا تؤمن بالله". وقد تمنيت فعلاً لو أني ملحدة حتى أُريح من يقول لي هذا الكلام. لكن المشكلة في الموضوع، أني بالفعل أؤمن بالله عز وجل. وإيماني به قائم على رؤية عقلانية ومتمعنة لهذا الكون الشاسع الذي يُبهر المرء بتنوع وتعقيد خلقه. يُبهرني. وأقف أمامه مسحورة. ولذلك أكمل قائلة "أنا علمانية، متحررة، وأؤمن بالله تعالى"! لكن قناعتي تلك تظل في النهاية أمراً شخصياًَ، وحميمة. هنا يقف محدثي منزعجاً. لأن الصورة تبدو مقلوبة، لا تنسجم مع الإطار الفكري الذي يضعه لتفسير الأمور. كلمات مثل "علمانية، متحررة، حرة، ليبرالية" يفترض أن تنزع صفة الإيمان عن الشخص الذي تُلصق به تلك "الشتائم". وأنا أظل مصره على إمكانية أن يكون الإنسان كل ذلك، وفي الوقت نفسه أن يمارس علاقة روحانية طبيعية مع خالقه. لاحظوا أيضاً أني أتجنب دائماً التأكيد على صحة حديثي من عدمه باللجوء إلى القرآن أو السنة. رغم إدراكي أن هناك الكثير من الجوانب التي يمكن التدليل عليها من خلالهما. لكن الخيط الرابط بين كل تلك المقالات يقوم على مفهوم العقل. العقل أولاً. لكل منا عقل. وهبه لنا الخالق عز وجل كي نستخدمه. وهو الذي أتوجه إليه في حديثي هذا. فأنا على قناعة أخوتي، أننا قادرون على التفكير. قادرون على أن نستخدم خلايا عقلنا الرمادية. أن نعملها في شؤون حياتنا. ونشكلها إلى الأفضل. قادرون. لأن لنا عقل. ولأن لنا إرادة. لا ألجأ إلى القرآن والسنة عامدة لأني مدركة أيضاً أن تسييس الدين، والهجمة السلفية الشرسة التي نعايشها، أسسا لمفهوم العودة إلى النصوص الدينية في كل حوار يسعى إلى التجديد والتغيير. كلما تحدثنا نُريد أن نجدد كان علينا أن نبحث عن مصدر أو أساس ديني يضفي شرعية على حديثنا، لا نهدأ إلا إذا سمعنا ما يؤكد لنا أن السلف الصالح فعل ذلك قبل أربعة عشر قرناً. هذا الإطار الذي حددناه للتفكير لا أقبل به. أخرجُ منه، وأتحدثُ من خارجه. نحن قادرون على التدليل بالعقل على الفعل الدافع إلى التغيير. قادرون على ذلك. لأن لنا عقل. لأن لنا إرادة. ولأن الحياة قبل أربعة عشر قرناً تختلف جوهراً وتفصيلاً عن حياتنا في القرن الواحد والعشرين. ولأن آراء المفسرين ممن عاشوا في القرون الوسطى، وإن اشتملت على ثراء فكري وتعدد واسع في المواقف، إلا أنها تظل مرتبطة بواقعها وظرفها التاريخي. إذن أعود من جديد إلى التأكيد على اللفظين المرعبين، "الإيجابيين" في نظري: أنا امرأة "حرة ومتحررة".حرة في حياتي، حرة في بناء مستقبلي، وأتحمل مسؤولية حريتي لأني عاقلة، راشدة، بالغة. حرة، وقادرة أن أكون ما أشاء، إذا ما أتاح لي المجتمع البيئة المناسبة لفعل ذلك. وأنا متحررة. متحررة من تقاليد الخوف. من تقاليد الخزي. ومن تقاليد العار. من جبال الهم التي نتحملها على ظهورنا منذ طفولتنا. من مفهوم الشرف الذي تُقتل من أجله الفتاة في مجتمعاتنا. متحررة منه وأقول، شرفي ليس محصوراً في ثلاث قطرات من دم. شرفي في احترامي لنفسي، في احترامي لجسدي،في خُلقي في التعامل مع من حولي،وفي الكلمة التي أقولها وأنا أعنيها.وعندما أفعل كل ذلك أكون شريفة، تماماً كما أن الرجل عندما يفعل كل ذلك يكون هو الآخر شريفاً. * كاتبه يمنيّة
امرأة حرة ومتحررة !
أخبار متعلقة