أضواء
إشكالية الديمقراطية في منطقة الخليج العربي أنك لا تجد لها نظيراً في العالم!إذ أن هنالك أموراً بديهية لا تحتاج إلى “فتاوى” سياسية أو دينية. وأن الديمقراطية تدعم الحقوق وتسند الواجبات، وتتواءمُ مع حركة المجتمع وتطلعاته نحو مستقبل أفضل، والتحرر من أغلال الماضي و”تخرصاته” التي تُلحَقُ أحياناً بالدين وبالتالي يؤتى لها بتوجيهات وتنظيرات لا تتناسب وحركة البلاد واتجاهاتها الإنمائية والاستثمارية وانفتاحها على العالم الخارجي. كما أن الديمقراطية في الخليج العربي تتأثر بالواقع الجغرافي والتدخلات الإقليمية حتى في التوجهات الدينية الواضحة.ولقد برز تيارٌ في مجلس الأمة الكويتي يدعو إلى تأسيس هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر على غرار الهيئة الموجودة في المملكة العربية السعودية. نحن ندرك أن حالات استياء وامتعاض قوبلت بها هذه الهيئة في السعودية ردْحاً من الزمن، وأن الإعلام قد انتقد -وتحت بصر وسمع المملكة- ما يقوم به بعض أفراد هذه الهيئة من تجاوزات على حريات المواطنين فيما يتعلق بلباسهم وأزيائهم، بل وحتى نظرات الشباب وأماكن تجمعهم في “المولات” والأماكن العامة، ناهيك عن الحوادث التي جرت ضد أجانب ودبلوماسيين وصلت إلى حد التأزيم في علاقة دول هؤلاء مع المملكة. وفي عهد الملك عبدالله -وهو عهد انفتاحي يرفض التقوْقع والتخلف- ظهرت بوادر من الجهات الرسمية بتقنين عمل هذه الهيئة، وتقليص صلاحياتها، حتى لا تكون دولة داخل دولة، ووصل الأمر إلى اتهام بعض أفراد هذه الهيئة بالقتل وإيقافهم وتقديمهم إلى المحاكمة. ودوماً كان الحوار والتشنُّج يتمحور حول كون “أن من يتعرض للهيئة فإنه يريد النيل من الدين” -كما كتب أحد الكتاب السعوديين مؤخراً في صحيفة سعودية. وكلنا يستحضر ما قام به أفراد من الهيئة بالهجوم على مسرحية للشباب والاعتداء على الممثلين والمخرج، كما حصل انقضاض على محاضرة لأحد قادة تيار الإصلاح والتنوير في السعودية. ولسنا هنا بصدد حصر المواجهات والحكايات مع أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية، لكن الأدهى والأمرّ أن يعتزم نوابٌ في مجلس الأمة الكويتي تقديم اقتراح بقانون يقضي بتأسيس هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأن التيار الأصولي في الكويت يسعى إلى تعديل المادة الثانية من الدستور من أجل “حصر” مصادر التشريع في الشريعة الإسلامية!نحن لا نصدق أن نتجول في “مولات” الكويت ونجد من يلّوِّح لنا بالعصا، مستأْسداً بشرطي وهول يقول: “غطِّ حرمْتك.. غطها.. اتق الله”، والحرمة محجَّبة وليست فيها علة أو عذروب! نحن لا نصدق أن نمرَّ في شوارع الكويت ونجد من يلاحقنا بعيون فاحصة وكأننا مجرمون من أجل إثبات اتهام ولو “قصدي” ضدنا.نحن لا نصدق أن ديمقراطية الكويت التي “نسندُ” بها الظهر، يستولي عليها فكرٌ أحادي “يرفس” كل ما تحقق من مؤسسات حضارية في الكويت، ويتجاهل الدستور العتيق والحرية الجميلة التي وصلت إليها الكويت، بل ووحدة المُواطنة التي لم يقدر عليها الاحتلال العراقي، وتمسك الكويتيين برموز الشرعية على رغم خلو البلاد منها عام 1990.نحن لا نتصور أن يتخلى المجتمع الكويتي عن أسواقه الجميلة ويقوم بإلزامها بلبس النقاب، ولربما غداً بلباس المرأة الأفغانية!؟ ولا نتصور أن تسيطر فئة على الفن الكويتي فتهدم المسارح -كونها “مُنكراً” حسب رأي تلك الفئة- وتقوم بإغلاق الفضائيات التي تبث البهجة في قلوبنا، وتلك التي تتحفنا بالأخبار من كافة أنحاء العالم، أو أن تأمر بإغلاق مجلة “الكويت” أو “عالم المعرفة” لأن فيها فكراً قد يُفسر على أنه لا يدعو إلى المعروف بنشره قضايا تتعلق بالعقل أو الفلسفة! أو أن تقوم المسارح الكويتية بتسريح شبابها من الفنانين الكوميديين الذين يسعدوننا، بحكم أنهم ينشرون المنكر في المجتمع! وكذلك وقْف نشاط الشعراء والملحنين الذين يتحفوننا بالأغاني التي تسعدنا وقت “ضيقة الصدر”!نحن لا نتصور أن يُمنعَ الشبابُ الكويتي من لبس “الجينز” أو إطالة الشعر أو الاستمتاع بالحرية الشخصية! ونفس الشيء ينطبق على الفتاة التي وصلت إلى مراحل متقدمة من النضج والانفتاح وتداول الحوار الإيجابي مع الرجل خلال ستين أو سبعين عاماً! فكيف يمكن إعادة هذه المرأة إلى “بيت الطاعة” ووقف نشاطاتها في مؤسسات المجتمع المدني، أو عدم قبولها تحت قبة البرلمان!؟ إن المتوجسين من الحرية التي كفلها دستور الكويت المطبّق ردْحاً من الزمن، يحاولون إرجاع الكويت إلى عهد “الحريم”، وهدم كل مظاهر التقدم والتطور فيها؛ كما أن الأصولية المتعصبة -التي تهدف إلى إرجاع المجتمع الإسلامي إلى عهود الخلافة؛ من حيث فصل المرأة عن المجتمع أو رفض إعمال العقل أو مناقشة حوادث جرت قبل 16 قرناً، ورفض الآخر مهما كان، وأن غير المسلمين من الكفار الذين يجبُ تجنبهم، وإغلاق البلدان أمام الناس واستثمارات الشركات الكبرى، ونقض ارتباطات الدول مع العالم الخارجي وتحقيق دولة “النقاء” العرقي والعيش ضمن خيمة الدين والموت لا الدين والحياة- تلك الأصولية لا تناسب هذا العصر.لقد حصلت مواجهة واضحة بين حكومة الكويت والقبائل -التي دوماً يعوِّل عليها أيُّ نظام خليجي- كحليف وضامن للأمن والاستقرار بحكم المصالح التي ترتبط بها هذه القبائل مع النظام، قبل الانتخابات الأخيرة، فيما يعكس تحولاً في تلك العلاقة الاستراتيجية والتاريخية. واليوم تطل الأصولية برأسها كي تعزف على وترٍ حساس جداً أقوى من القبلية، وهو الدين الذي لا يختلف عليه اثنان!إن قدَرَ هذا الخليج أن يتبادل النماذجَ السيئة، ولا يتبادل أو يستنسخ النماذج الجيدة! لقد تم التضييق على المجتمع السعودي -من خلال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر- إلى درجة أن البعض قد “تعقَّد” من نفسه ومن مجتمعه، ولم يكن ليتم هذا برضا الحكومة، بل لحتميات سياسية واجتماعية وتحالفية. لكننا نقول إن الوضع في الكويت مختلف، وإن سيطرت على مجلس الأمة جماعة معينة، وإن الحرية الشخصية التي عاشها المجتمع الكويتي، وأنماط حياته في الملبس والمشرب والتمتع بالمؤسسات الحضارية التي وضعتها الدولة، لا يمكن أن تستبدل بالصور الظلامية التي لا تناسب العصر.إننا مجتمع مسلم، ولا أعتقد أن الإنسان المسلم يحتاج إلى ملاحقة من قبل بشر مثله كي يعلموه متى يصلِّي، ومتى يغض الطرف، ومتى يدخل هذا المحل، ومتى يخرج منه! وتكفينا الجامعات والمدارس والمساجد. كما أن الدين علاقة بين الإنسان وخالقه، ولا يجوز فرض الدين برؤية بشر يعتقدون أنهم “وكلاء” لله -والعياذ بالله- في الأرض.ليست جميع نساء الخليج من المُنقَّبات، ولسن كلهن بالضرورة من المُحَجَّبات، ولا من السافرات! وليست كل نساء الخليج تساق -كالنعجة- من مكان لآخر، حيث تأكُل بأمر الرجل، وتنام بأمر الرجل وتسبّح بحمد الله بأمر الرجل! ورجال الخليج يعرفون خالقهم ويتواصلون معه دون الحاجة إلى “وكلاء” يعلمونهم تقصير الثوب لما تحت الركبة، أو إطلاق اللحى دون تهذيبها -مع عدم تنظيفها مما يعلقُ بها- أو “لعق” المسواك بطريقة مُقززة ليل نهار في “المولات” والأماكن العامة والمطاعم بحكم أنه سُنة من سنن الرسول، صلى الله عليه وسلم. بعض رجال الخليج يؤمنون بالحوار مع الآخر، ويفكرون في المرأة كإنسان لا كأنثى، بل ولا يعتقدون أن (صوت معلمة الجامعة) عورة، أو صوت الوزيرة عورة، أو أن مشاهدة الدكتور -في المحاضرة- للطالبات ستؤدي إلى فساد أخلاق! نرجو ألا يخيب ظننا في ديمقراطية الكويت! فإذا ما انتكست هذه الديمقراطية، فإنها ستؤثر على الديمقراطيات القادمة في المنطقة بأسرها.[c1]* صحيفة “الاتحاد” الإماراتية[/c]