ربما ان القدر لم يمنح الفنان شريف ناجي مايكفي من العمر لتحقيق كل طموحاته الفنية، اذ توفي في وقت مبكر من عمره ، "لكنه عاش العمر الذي كتبه الله له" وخلال هذا العمر القصير والعمر الفني الاقصر، استطاع ان يفرض وجوده على الساحة الغنائية اليمنية كصوت جديد، وكملحن له نكهته الخاصة.كان شريف ناجي قاضياً استهواه الغناء فاستطاع ان يوفق بين جلال القاضي وهيبته وبين احساس الفنان وموهبته ، كان من ناحية يؤمن بدوره كقاض منوط به تطبيق القانون وتحقيق العدل وفي نفس الوقت مؤمناً بدور الفن في ترقية الانسان والسمو به.لكن شريف ناجي لم يستطع ان يصل الى هذه المعادلة بسهولة فقد كان يحس على الدوام بانه ثمة تناقض بين الوظيفتين وظيفة القضاء ، ووظيفة الغناء.كان ثمة قيود كثيرة تقف حائلاً دونه والدخول في التجربة او فلنقل مغامرته المستقبلية فشريف ناجي الواعي، المؤمن بموهبته كملحن وصوت كان نهباً لصراع نفسي حاد لم يكن يفرضه فقد تكوينه وتنشىئته الاسرية الريفية بل اكثر من ذلك وظيفته كقاض مع ما يقتضيه منصبه من هيبة ومكانة تليقان برجل عدل، فهو خريج المعهد العالي للقضاء في عدن ، تدرج في سلك القضاء و شغل وظائف قضائية في عدن وابين واخر منصب تولاه كان مدير دائرة التدريب والتأهيل بوزارة العدل - فرع عدن.وكان هذا الصراع النفسي مصدر قلق دائم له فمن ذا يتقبل رؤية رجل يجلس في الصباح على منصة القضاء حاكماً بين الناس، ونفس الرجل جالساً في المساء فوق المسرح محتضناَ عوده وصادحاً بالغناء ، او مطلاً على الناس من التلفزيون بصورته وصوته ؟! وضع لم يكن ماهو أغرب منه لرجل بمكانة شريف ناجي ... القاضي..!ومع ذلك ،، مع كل ماكان وظل يشعر به من احترام وجلال نحو القضاء بوصفه من رجال القانون الذين يفرضون هيبته ويعملون على تحقيق العدالة بين الناس، ومع كل ماكان يعيشه من صراع نفسي ازاء التناقض بين عمله كقاضي واشتغاله بالفن ، الا ان مشاعره الرقيقة وطبع الفنان الحساس فيه كانا يتغلبان على كل شعور اخر، ويدفعانه الى خوض تجربته ومغامرته الفنية وكأني به كان يرفض الاقامة في جلباب القاضي، والاختناق داخل جدران المحاكم ، او ان تقف وظيفته قيداً ثابتاً عليه وعلى موهبته وصوته ، وكأنه اكتشف في الفن والغناء طاقة دافقة للابتكار والتجديد، وهو ما انعكس في الحانه واغانيه.ثنائية معقدة عذبت شريف ناجي كثيراً ولازمته لزمن طويل.لكن هذه الثنائية لم تكن معاناته الوحيدة فهو ابن بكر لمعاناة مبكرة ، ينحدر شريف ناجي الذي ولد في " زارة" بمحافظة ابين عام 1953م من اسرة ريفية يعود جذورها الى بيحان بشبوة ، وعاش حياة بؤس وشقاء واضطر للعمل ولم يتجاوز عمره الرابعة عشرة في العديد من المهن الصعبة لصبي في سنه ، لكي يتحمل مسؤولية اسرته، ولعل هذه الحياة ، بكل مافيها من قسوة ومعاناة ماجعل الاحساس والشعور يتفجران في داخله، ولم يكن هناك ماهو اقرب من الفن، الشعر والغناء للتعبير عن الآمه ومواجعه ، والاقتراب من هموم الناس، وكان هذا مكونه الذاتي الاول الذي اكتشف من خلاله موهبته كفنان..لكن موهبته لم تأت من فراغ فشريف ناجي وان كان ينتمي الى اسرة ريفية لكنها اسرة لها علاقة بالثقافة اي بالشعر الشعبي ذلك الموروث الثقافي العريق الذي هو جزء اصيل من الثقافة الشعبية والموروث الوطني فوالده الشيخ ناجي بن احمد المصعبي، شاعر من اهم شعراء الزجل والحكمة ، وله مساجلات معروفة ومشهورة مع فطاحلة شعراء الزجل في ابين وشبوة ، وصنعاء ، وكان شعره يدور حول درء الفتنة والاقتتال القبلي، وحول الوطن والدعوة الى تحريره من الاحتلال الاجنبي ، وقد ساهم شعره واشعار سواه من الشعراء اليمنيين في الهام نضال الشعب اليمني من اجل الحرية والاستقلال والثورة على الظلم ، وعن هذا الاب وموروثة الشعري ورث شريف ناجي حب الشعر وله فيه محاولات واضاف اليه موهبتي التلحين والغناء..فكان هذا مكونه الثاني..اما مكونه الثالث ، فمدينة عدن التي انتقل للاستقرار فيها بصفة نهائية منذ عام 1975م، وعدن كما هو معروف عنه مستوعب الغناء اليمني بكل الوانه ، والحاضنة لكل جديد ،وقد لعبت هذه المدينة دورها المعهود في اعادة صياغة شخصيته فأصبح جزءً من نسيجها البشري، وكعادتها ايضاً عندما ترى موهبة تتفتح في ربيعها المنعش ، تتلقفها بالحب، والحنو، وتدفع بها الى عالم الاضواء، فوجد نفسه وهو الموهوب المرهف الاحساس والشعور منجذباً الى ذلك العالم الذي احبه وحلم به عالم الفن والموسيقى والغناء فلم يعد جزءً من نسيج عدن الانساني فحسب بل جزءً من نسيجها الفني ايضاً.عام 1976م سجل اغنيته الاولى لاذاعة عدن فكان ذلك ايذانا بمولد فنان وصوت غنائي جديد سرعان ماسوف يثبت حضوره الفني وموهبته الاكيدة.وسرعان ما تصبح " ياغائب متى باتعود؟" وهي من الحانه واول ماسجله للإذاعة ، ومن كلمات الشاعر ناصر علوي الحميقاني طريقاً مفتوحاً لتشكيل ثنائية ناجحة بينه وبين هذا الشاعر فنجحا معاً في العديد من الاغاني منها : " ياللي وصفت الحسيني" و" انت جيت من نفسك"و " لوحبيبك عسل".ولفتت هذه الالحان وصوت شريف ناجي الملئ بالشجن والعذوبة انظار شعراء اخرين اليه، فلحن وغنى لكل من احمد سيف ثابت ، وعلي عمر صالح ، والسلطان ناصر جعبل، وميمونة ابوبكر، وحقق حضوراً لافتاً خلال المهرجانات والحفلات الغنائية في سبعينيات القرن الماضي وصار مطرباً مطلوباً ومنتشراً عبر الاعراس واشرطة " الكاسيت" كما قام بتسجيل بعض اغانيه في الخارج، في كل من السعودية والكويت والامارات. وفي كل مالحن وغنى شريف ناجي كان نسيج وحده لم يكن يشبه احداً سوى نفسه . فنان مبدع له اسلوبه الخاص في التلحين ، كما له اسلوبه الخاص في الاداء والغناء صوت مليء بالعذوبة والشجن، يتشكل بجمالية يمكن تسميتها جمالية البساطة وتكمن هذه الجمالية في كونها العلاقة بين الفنان وحياته او نفسه وهذه الفطرية هي ماجعل الناس تحبه وتقبل على اغانيه وتجعل فنانين اخرين يعجبون بأغانيه ويحرصون على غنائها امثال الفنان السعودي خالد جمعة والفنان المقيم في السعودية حسن السري ، وفنانة من السعودية ايضاً لايحضرني اسمها، والفنانة الاماراتية احلام.في السنوات الاخيرة تمكن المرض من فناننا الذي غادرنا الى العالم الاخر عام 2004، قبل ذلك اجتاحه نوع من الحزن وربما الكآبة التي عادة ماتلازم امثاله من اصحاب الارواح العذبة . وفوق هذا كان عنده عزة نفس، وانفة وكبرياء تجعله يجتر المه وحزنه وحده بالرغم من علاقاته الواسعة بالعديد من اصحاب الشأن والنفوذ ، لكن كرامته كانت تأبى عليه ان يمسها احد ، او حتى يقترب منها ، فانكفأ في بيته مع احزانه وآلامه حتى ودع الحياة.ظلم شريف ناجي في حياته ، فلم ينل مايستحق من الاهتمام وبما يليق بموهبته كملحن وفنان.وظلم بعد وفاته ، فلم يلق ماهو جدير به من التقدير والتكريم.ولعل هذا هو قدر المبدعين في اليمن.... لكن يبقى لهم اعمالهم الرائعة التي عطروا بها ايامنا .. ويبقى لهم حب الناس، وما اعظمه من حب....
|
رياضة
شريف ناجي .. صراع الهيبة والموهبة!
أخبار متعلقة