عدن عبقرية المكان
عدن .. عبقرية المكان ذات بحر ، سقطت عدن نقطة في المحيط فتحلق حولها الدلافين والحوريات والحيتان فسورتها الجبال هناك ارادها الإله حيث ينبغي لمدن الاساطير أن تكون أكثر إكتمالاً ، وحين رأيتها لأول مرة ، كانت تتوسد الجبل ليلاً ، وعندما افقت صباحاً كانت تغسل قدميها العاريتين في مياه الخليج .. وهذه هي روح الجغرافيا ..عندما رأوها وكان ذلك لأول مرة رأوا زرقة البحر فشهقوا لعبقرية المكان ولم يرتو، فحفروا صهاريج الطويلة في الصخر الصلد فكانت عبقرية الانسان اجتمعت العبقريتان معاً فوشحوها بالاسماء فكانت في مدى البحر : جزيرة صيرة ، خليج حقات ، خليج الفيل ، الخليج الامامي ، الساحل الذهبي ، ساحل العشاق ، خورمكسر ، المعلا ، التواهي ، وكلها مثل حبات اللؤلؤ ، لا يكتمل عقده إلاّ بساحل أبين ، وعدن الصغرى ، وكود النمر ، والشيخ عثمان ..لعدن ، عبقريتها حتى في إختراع الاسماء : الطويلة ، العقبة ، البجيشة، البغدة ، الزعفران ، السوق الطويل ، سوق الطعام ، القطيع ، العيدروس ، الخساف ، شعب العماصير ، حافة البدو ، حافة اليهود ، حافة البينيان ، معلا كشة ، معلا دكة ، القلوعة ، حافة القريشة ، الهاشمي .. القاهرة ، المنصورة ، المسبح .. ذات بحر ، تدفق عليها الناس من كل الجنسيات البحر يأتي بالسفن ومع السفن الناس قراصنة وغزاة وطالبو عيش هنود وفرس وعرب وأفارقة سيزعم القبطان "هنس" بأن السكان المسالمين في عدن ، سطوا على السفينة " داريادولت" وسيأتي بأسطوله الحربي ، وبعد معركة شرسة دافع فيها الآهالي ، بأسلحتهم البدائية عن المدينة ، تسقط في قبضة الاحتلال البريطاني .. بعد أن فشلت محاولات من سبقوهم من برتغاليين وفرنسيين وسواهم .. وهذا هو التاريخ أو بعضه ..بعد ذلك بسنين سيترك " توني بس" فرنسا مشدوداً الى عبقرية المكان فينشئ امبراطوريته التجارية في عدن ويرحل (بيكاجي قهواجي) من الهند حاملاً معه احلام الثراء ، وغرابين فتتكاثر ثروته ، وغربانه حتى تملأ الأفق وسينظم إليهما آخرون من كل أصقاع الدنيا ..سيجرب الحضرمي شطارته المعهودة في التجارة في البيع والشراء فكان بازرعه وباشنفر ، وباعبيد وباهارون وباحميش وباعبود وكل " الباءات" التي تشقى في دكاكين ، الشحاري ، والمزروعة كالفطر في كل حوافي وأحياء عدن ..وهذا هو الاقتصاد ..وسيقطع الهنود على اختلاف دياناتهم المحيط تجذبهم نفس العبقرية سيخ وبينيان ، بهره ، هندوس و سيأتون بأبقارهم " المقدسة" ونارهم " المقدسة" وغربانهم وفئرانهم " المقدسة " أيضاً (!!) و سيقيمون معابدهم الى جانب المسجد والكنيسة ..وستأتي الشركات العابرة للقارات ال: بي .. بي ، كالتكس ، موبيل شل .. لها نشيدها ولعدن نشيدها الازلي ..ولكنها سترطن بكل اللغات وكل اللهجات ..وهذه هي الثقافة .. أو تلاقح الثقافات ..كان ابي قد وجد عملاً في دكان من دكاكين " الشحارية" وهو العمل الوحيد الذي يجيده وكانت الدكان في ذلك الحي البائس المصنوع من الخشب والصفيح في أحد أحياء الشيخ عثمان المسمى " المسبح" الغرفة الامامية هي الدكان ، والمساحة الخلفية هي المنزل الذي نسكنه وكنا ستة أخوة من البنين والبنات بالاضافة الى الوالد والوالدة ولسبب ما لا ادريه قرر أبي أن نستقر في عدن كمحطة وسطى بين المهجر الذي قدمنا منه ووطنه حضرموت الذي كنا ذاهبين إليه .. لكن لكم من الزمن ؟ .. لا أحد يدري .أول ما فكر به أبي ، أن يدخلني المدرسة ، فقد كان يريد أن يراني متعلماً ، وقد طاف بي كل مدارس الشيخ عثمان الحكومية ، ولكن لما كنت بدون " مخلقة" فقد رفضت جميعها قبولي تلميذاً عندها..من حسن حظي إن مدرسة أهلية أنشئت حديثاً في الشيخ عثمان ، لإنقاذ أولئك الذين هم أمثالي والذين لا يستطيعون دخول المدارس الحكومية بحكم القوانين السائدة ، وقد قبلتني تلميذاً في صفوفها .. كان اسمها كلية بلقيس وعميدها هو الاستاذ حسين الحبيشي ، وقد تتملذت على أيدي أساتذة مميزين أذكر من بينهم أحمد المروني ، والشيخ قاسم غالب ، ومربي صفي مدرس اللغة العربية ، محمد سالم شهاب ، وهم يومئذ من أعمدة الثقافة والتربية .كانت عدن التي فتنتني ، في ذلك الوقت من بداية الستينات من القرن العشرين المنصرم درة المدن ، ليس في اليمن وحدها ، بل في منطقة الجزيرة والخليج ، وكانت شهرتها تمتد الى الآفاق .. في آسيا ، وافريقيا ، واوروبا بوصفها طريق التجارة العالمية .. او أحد أهم تلك الطرق .وعدن قبل كل شيء هي قصة حضارة ، وتاريخ واقتصاد وتجارة وحياة ، وقصة شعب يتوق الى حريته وتشده عناصر كثيرة لكي يبحث عن كيانه الحر المستقل ، عناصر سياسية ووطنية واجتماعية ولهذا كانت تمور بالحركات السياسية والنقابية والادبية والفنية بكل ما فيها من تداعيات تصب كلها في النهر العظيم .. لكفاح الشعب وهذه هي السياسة ..في عمري ذاك لم يكن هذا الذي يجري في نطاق اهتماماتي بقدر ما كان يثير اهتمامي المدينة نفسها بصخبها وضجيجها واضوائها وحركتها التجارية التي لا تهدأ في ليل ولا في نهار ، آفاقها الممتدة بين الجبل والبحر ، على الاقل هذا ما كان يثير الطفل الذي كنته .وكان ذلك الخليط البشري من الاجناس واللغات واللهجات والاديان والالوان المتعايشة الذي كانت تمتاز به عدن دون سواها من المدن ، يعطيها خاصية المدن الاممية إنه شيء خاص تمتاز به دون بقية المدن اليمنية ..للأسف فقدت عدن اليوم الكثير من خصائصها تلك!!شيء آخر كان له تأثير عميق في تكويني الثقافي والادبي منحتني إياه عدن ، إنها تلك الحياة الفنية التي كانت تعيش ذروتها في تلك الايام .. وسيحفظ لهذه المدينة ، إنها حفظت للأغنية اليمنية أصالتها التراثية ورفدتها بعناصر التجديد والحداثة في آن ..كانت عدن الخزان الهائل الذي يستوعب أغاني التراث الصنعانية والاغاني اللحجية والحضرمية واليافعية وغيرها من ألوان الغناء وفي نفس الوقت كانت مفتوحة بحكم عبقريتها المكانية على الثقافات والفنون للشعوب الاخرى ، الوافدة إليها ومعها لكنها بعبقريتها استطاعت أن تصوغ أغنيتها الخاصة بها شكلاً ومضموناً كلمات وألحاناً واداءً فقدمت للأغنية اليمنية لوناً غنائياً جديداً سرعان ما ألفه الناس وأحبوه . وهذا أمر لا تستطيع أن تقدمه أية مدينة ما لم تكن متخمة بالاصالة ، وابوابها مشرعة على الدنيا وعلى الجديد القادم إليها من شتى أنحاء المعمورة لقد كانت مدينة سباقة الى التعايش وحوار الحضارات وتلاقح الثقافات والعلاقات السلمية بين البشر ..ولا مدينة في الدنيا تزعم أنها صاغت أغنية خاصة بها .. توجد أغنية مصرية لكن لاتوجد أغنية قاهرية وتوجد أغنية سورية لكن لا أحد يزعم بوجود أغنية دمشقية وهناك أغنية لبنانية لكن لا وجود لأغنية بيروتية وهكذا الحال بالنسبة للأغنية المغربية والتونسية والجزائرية والموريتانية والسودانية والخليجية .وحدها عدن استطاعت ذلك وحدها عدن صاغت اغنية خاصة بها اسمتها الاغنية العدنية ولو لم تكن هي الاصالة الحضارية ولو لم تكن تملك الثقافة المنفتحة لما استطاعت أن تصهر كل هذه الاقوام في مدينة واحدة ولكانت عدن رغم حرارتها أكثر فقراً واقسى برودة .وهذا هو الفن .. والحداثة ..ولقد منحتني هذه المدينة الدفء والحنان والشعور بالامن لكنها في نفس الوقت ألقت عليّ بمسؤوليات ثقيلة فلكي تكون مثلها يجب أن تكون محباً للحياة أن تكون بنفس حيويتها وذلك هو سرها .فمهما كنت قادماً إليها من بعيد من البحر أو البر أو وقعت عليها من الفضاء فإنها تعطيك إشارات محددة وإذا فهمتها اصبحت أنت والمدنية واحداً أما إذا أسأت التصرف وفوت تلك الاشارات والرموز وهي على العموم ليست صعبة فإنها تلفظك كما يلفظ البحر الاجسام الغريبة ..!باختصار إنها مدينة تؤنسن ذلك الذي يبغي ولديه الاستعداد لكي يكون إنساناً تضيف إليه معارف نادرة أساسية وهي تفعل ذلك مجاناً لكن الويل لك إن سلكت طريقاً غير الذي يسلكه الناس والويل لك إذا اقتلعت حجارة جبالها أو ردمت ولو متراً من بحرها .. ؟ حينئذ لا يستطيع أن يقف في وجهها او يمنع أحد ثورة البركان ..عدن كانت يومها مفعمة بالروح والفكر وزاخرة بالحياة ، وتشق طريقها الى حياة وفلسفة عيش خاصة بها لكنها مثمرة توزع الخير وتقدم السعادة لها وللجميع ..دعوني أذكركم بالاسماء اللامعة التي كانت تملأ الفضاء بالافكار والاعمال وبهجة الاشعار والغناء في تلك الايام : جمال عبدالناصر ، محمد حسنين هيكل ،واحمد سعيد ،عبدالوهاب ، عبدالحليم ، وأم كلثوم من راديو القاهرة وصوت العرب وكان الوطن العربي كله في تلك الايام يرتدي صوت الحرية والوحدة والاستقلال وأصداء الثورة الجزائرية تلهم الثوار في كل مكان .وفي المدى العدني كانت اسماء مثل عبدالله باذيب ، وعبدالله الاصنج ، ومحمد سالم باسندوة ، وحسين القاضي ، وعبدالله السلفي ، وسواهم تتردد كثيراً في الصحف وفي الشارع ويصل صداها الى الخارج ..أما محمد سعيد جرادة ، ولطفي أمان ، ومحمد عبده غانم ، وإدريس حنبلة ، وعلي لقمان ، فقد كانت أشعارهم نشيد الحرية ووجدان الشعب.وعلى صعيد الغناء فإن محمد مرشد ناجي ، ومحمد سعد إدريس عبدالله ، وأحمد قاسم ، وسالم بامدهف ، وخليل محمد خليل ، وأبو بكر سالم ، ومحمد عبده زيدي ، وياسين فارع ، وسواهم كانوا يصوغون بموسيقاهم واغانيهم الوجدان العاطفي والروحي والوطني للناس الذين يتخطفونها صباح مساء .وكما كانت عدن ، تتسع لكل ألوان الغناء اليمني ، الصنعاني ، واللحجي ، والحضرمي ، واليافعي ، وكذلك للغناء الهندي عبر الافلام الهندية فإنها أيضاً كانت تتسع لشتى الافكار والتيارات السياسية : القومية ، والبعثية ، والماركسية ، والليبرالية ، والاسلامية ..