نبض القلم
لقد اقتضت إرادة الله تعالى أن يكون لهذا الكون قوانين تنظم حركته، وأن كل شيء في هذا الوجود خاضع لقانون ثابت لا يتبدل أو يتحول ، والإنسان بوصفه جزءاً من خلق الله تمضي عليه هذه القوانين ، ومنها قانون الاختلاف ، الذي نجده يتجلى بوضوح في الاختلاف بين الإنسان وأخيه الإنسان، في اللون وفي اللسان ، وفي الفكر ، بل وفي كثير من التكوينات العضوية ، قال تعالى “ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم” ( هود/ 118 / 119) فأخبر سبحانه وتعالى أن الناس ما يزالون مختلفين ، مع أنه لو أراد أن يجعلهم متفقين لكان على ذلك قديرا، فالاختلاف واقع بمشيئة الله ، ومرتبط بحكمته، ولا يعني استثناء المختلفين. من رحمة الله، أن الاختلاف ينافي الرحمة. والاختلاف نوعان: اختلاف مذموم ، واختلاف محمود.ويدخل ضمن الاختلاف المذموم ذلك الاختلاف الناجم عن إتباع الهوى والتعصب الممقوت ، لشخص أو جماعة ، كما يدخل ضمن التقليد والتعصب الأعمى الذي يؤدي إلى الفتن وإشعال الحروب ويكون سببه جهل المختلفين بحقيقة الأمر فيتنازعون فيه، أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهم الآخر. أما الاختلاف المحمود فهو ذلك الاختلاف الناجم عن تنوع العقول والأفهام والمعارف، وهو اختلاف تخصيب فكري ، يزداد به الفكر متانة وقوة وسعة وامتداداً، وهذا النوع من الاختلاف وقع من الصحابة والتابعين، والعلماء والفقهاء ، ولا يذم أحدهم الآخر بسبب الخلاف الذي وقع منه ، لأنهم جميعهم طلاب حق ، فإذا وقعوا في الخطأ في طلبهم للحق فهم معذورون لأنه ليس كل من يتوخى الحق يصيبه. والاختلاف المحمود في الإسلام مصدر ثروة تشريعية عظيمة ، وتراث فقهي رائع يستوعب حاجات الناس في مختلف الظروف والأحوال، ولذلك قال العلماء : إن إلزام الناس كلهم في مشارق الأرض ومغاربها بحكم موحد فيه حرج شديد، وتضييق كبير، فاختلاف الرأي في غير المسائل الأساسية و الثابتة توسعة على الناس .وهذا ما أكده الإمام مالك رضي الله عنه عندما رفض أن يكون كتابه ( الموطأ) دستوراً للأمة الإسلامية حين عرض عليه المنصور أن يعلق الموطأ في جدار الكعبة ويحمل الناس عليه حسماً للخلاف ، فرد عليه مالك قائلاً : لا تفعل ، وحجته في ذلك أن الصحابة تفرقوا في الآفاق ،ولا يريد إلزامهم بالأحاديث التي أوردها في كتابه دون سواها بل يتركهم على ما هم عليه بحسب اجتهاد. فقهائهم ، غير أن هناك منطقة قطعية لا اجتهاد فيها، وهي المنطقة التي تجسد الوحدة الفكرية والسلوكية للأمة ، فلا يجوز أن تدخل هذه المنطقة في دائرة الاجتهاد ، بل الواجب أن يتعاون الجميع على تنفيذها ، تجسيداً لوحدة الأمة ، فهناك مسائل يقينية لا مجال للاجتهاد فيها، منها ما هو معلوم من الدين بالضرورة مثل عدد الركعات في الصلوات الخمس ، ومنها ما هو قطعي النص والدلالة ، لوجود الدليل القرآني والسنة النبوية المتواترة ، مثل قوله تعالى: “ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة “ ( البقرة 110) وهذه لها تفصيلاتها الفرعية التي تدخل في دائرة الاجتهاد ومنها ما هو مجمع عليه من مجتهدي الأمة وأولي العلم والرأي فيها.ومعلوم أن المسائل الأساسية في الدين والتي الخلاف فيها يفضي إلى التشتت والنزاع وتفريق الكلمة تأتي أدلتها قطعية لا تحتمل التأويل و الاختلاف في الدين أما ما وراء ذلك من الأحكام فليس للاختلاف فيه ضرر أو مفسدة ، بل هو توسعة للأمة ، وفسحة أمامها لتأخذ من الأحكام ما يحقق مصالحها ، ويتفق مع ما تتطلبه الحياة بكل متغيراتها الزمانية والمكانية ، ولذلك قال العلماء إن الأدلة لو جاءت كلها قطعية لكان هذا حجراً على العقول البشرية ، وفي هذا ما فيه من جمود الأفكار ، وقالوا إن قطعية النصوص تجعلنا نقف عاجزين أمام المسائل المتجددة في كل عصر ، والتي يحتاج الناس لمعرفة حكمها ، ولا يكون ذلك ممكنا إلا إذا نظر المجتهدون في النصوص واستنبطوا أحكاماً لما يستجد من الحوادث ، بما يحقق مصالح الناس في كل عصر ، ولهذا اعتمد العلماء القول بتغيير الفتوى بحسب تغير الزمان والمكان والأحوال والأعراف.ولعل ذلك ما يجعل بعض الفتاوى في مسألة واحدة مختلفة عن بعضها. [c1]* خطيب جامع الهاشمي الشيخ عثمان[/c]