حافظ مصطفى عليالتأثير الأكثر على ثقافتنا وسلوكنا اليوم هل هو قادم من ثقافة التأثير النابعة من الشكل او النابعة من المضمون؟وكيف نرصد إشكالية ألعلاقة بين الشكل والمضمون من منظور تاريخي اجتماعي؟ نتناول هنا تلك العلاقة من ناحية سوسيولوجية أي أننا نجد في حقبة تاريخية اجتماعية اثر الشكل أكثر وأخرى اثر المضمون أكثر، وفي عصرنا هذا اصبح الشكل والمضمون أكثر التصاقاً ببعضهما وبالكاد يستطيع الدارسون الفصل بينهما دون أن يصلوا إلى النقاط المشتركة بينهما التي لا تنفصل.ففي الماضي كان الانجذاب نحو المضمون أكثر من الشكل والسبب يعود إلى قلة خيارات الأشكال المتناولة للمضمون، فمثلاً القصيدة ذات القافية ومنهاجها كانت شكلاً معيناً يحمل مضامين متعددة، لم ينشغل بال الفرد بالشكل أو القالب بل انشغل في تعدد المضامين المثارة.وعندما تعددت أشكال القصيدة والتي يطلق عليها بالحديثة أو الحرة أو قصيدة المقطوعة غير الملتزمة بالقافية ورتابة التفعيلات بحسب البحور، وأصبح مضمونها المتناول مبهماً يشعر به المتلقي بطريقته وبحسب تصوره أو مرجعيته واستمرت القصيدة العمودية- ليس فيها صدر وعجز- في الظهور ايضاً وظهر النثر الفني غير المسجوع وعرفت الاقصودة-هجين بين الأقصوصة والقصيدة- عندما تعددت الأشكال الأدبية المتناولة للمضمون صار الاهتمام بالشكل يرقى إلى مستوى المضمون، إما لماذا هذا التطور والتنوع في الشكل فالسبب يعود بشكل مختصر جداً- لأنه ليس موضوعنا الأساسي- إلى تعدد أنماط الحياة الاجتماعية والفكرية والإرهاب السياسي بالإضافة إلى محاولة الإنسان الخروج عن رتابة الآلة في المجتمع العصري الصناعي وتشابه أعمدة النور في الشوارع وروتينية الحياة- والبعض يرى أن لحركة الترجمة أثراً في تبني النصوص الأدبية الحديثة. وهذا التنافس بين الشكل والمضمون من اجل الاستحواذ على اهتمام القارئ أو المستمع لم يقتصر على مجال الأدب بل انتقل الى المقتنيات ففي العقود الماضية حينما كانت السيطرة للمضمون يذكر بعض المعمرين ان شراء سيارة مستخدمة يعتمد بالدرجة الأولى على قوة( الماكينة) وسلامتها ويأتي الشكل في الدرجة الثانية، أي الاهتمام بالوظيفة وليس بالهيئة الخارجية لهذه الوظيفة وتحكي بعض المراجع في مجال الدراسات الانثرو بيولوجية الثقافية أن الرموز التي رسمها الإنسان في البدء لم تكن تتسم بالدقة من حيث الشكل بقدر ماكانت دقيقة من حيث الوظيفة وفي حقبة لاحقة ظهر الرسم التجريدي المتقن للملامح والطبيعة وكان ذلك التجريد أشبة إلى حدٍ بعيد بالقصيدة الكلاسيكية ذات الوزن والقافية.ومن الأمثلة المتداولة في تراثنا التي تؤكد الاهتمام في الماضي بالمضمون على حساب الشكل( خذ الجار قبل الدار) و(ليس كل مايلمع ذهباً) و(من برع الله الله ومن داخل يعلم الله)أو( ياما تحت السواهي دواهي) وكثيرة هي الأمثال التي تؤكد على الفكر الاجتماعي المحدق نحو المضمون ذلك أن الأشكال في الماضي لم تكن مبهرة. أما اليوم وبفضل التضيع والاتجاه الاستهلاكي لم يعد ينظر إلى السيارة كوسيلة نقل بل ينظر إلى شكلها ووظائفها الأخرى أثناء رحلة السير، ولم يعد للجار أهمية طالما المنزل جميلاً وكان للإعلان دور أساسي في الاهتمام بالشكل وازدادت أهمية الشكل إلى حد اندماجه مع المضمون فلم يعد مضمون القصيدة كيفما يشاء ،وذلك يحدث في اللوحة التشكيلية ايضاً حيث أصبح للشكل رؤية أخرى في تفسير المضمون بحسب تفسيرات الأشخاص بمختلف مشاريعهم الذين يتعمقون في محاولاتهم لفهم المضمون المدور في الشكل ليصح المبدع الرسام أو الشاعر غير مطالب بالتفسير بل مستمع لتفسير الآخرين كونه في حالة انفصال نفسي عن لحظة ولادة النص بشكله ومضمونه ولعل الوعي الذي خلقته التكنولوجية كان له ولآلته في تشكيل كثير من المفاهيم وباعتبار أن تقنية الاتصالات جزء من تطور التكنولوجية فقد أفصح هذا الجزء عن طبيعة التأثير الذي تقوم به التكنولوجيا بشكل أوضح في تشكيل البنيان الاجتماعي، فانطلاقاً من مقولة مارشال ( ماكلوهان) الشهيرة منذ الستينات “ العالم قرية واحدة” في أشارة منه إلى دور تقنية الاتصالات في تقريب المسافات والزمن والوعي والعلاقات الاجتماعية. ومن خلال نظرية (ماكلوهان) التي تتحدث عن اثر التكنولوجيا والاتصالات على المجتمع يتضح مدى انعدام حدود التماس بين طبيعة واثر أجهزة الاتصالات على المجتمع وطبيعة واثر البناء الاجتماعي على تقنية.الاتصالات من خلال التعدد والانتقائية في التعرض بحسب مرجعية البناء الثقافي الراديو جهاز اتصالي يناسب الاميين لكنهم لاينضوا الا لمايريدون الاستماع اليه من مضامين وقد جاء استمرار هذا النوع من الاجهزة مناسباً لمجتمع الاميين لسهولة حملة ورخصة وعدم تعقيدة التقني. بطبيعة الحال فان جهاز الراديو هو شكل اتصالي من حيث العلاقة مع حاسة السمع بشرف هذا الجهاز على أشكال برامجية ومضامين متنوعة والتناغم بين الشكل والمضمون يحدده تناغم آخر في البناء الاجتماعي (الشكل) وفي المرجعية الثقافية للمجتمع” المضمون” إذ لابد حين يقدم برنامج عن الإرشاد الزراعي كمضمون في الإذاعة المسموعة ان تجمع المعلومات من الحقل نفسه لتقدم الإرشادات على شكل مقابلات حية او من خلال قراءة سردية للإرشادات تتخللها أغان او موسيقى ذات علاقة بالمضمون. فيحدث التناغم بين الشكلية البرامجي والاجتماعي وبين المضمونين مضمون البرنامج والمنحى الثقافي للبناء الاجتماعي من الناحية السوسيولوجية فيحدث التأثير المتبادل وقس على ذلك بالنسبة الى التلفزيون ذو الأثر الأكبر على السلوك لعلاقته مع حاستي السمع والبصر والهيمنة الصورة على الإدراك ولدورة في عملية التنشئة الاجتماعية إلا أن الدراسات الإعلامية والاجتماعية المختلفة استطاعت ان تسلط الضوء على مخاطر التلفزيون الذي له أشكال برامجية ذات مضامين مختلفة وبالتالي وضع المخارج للحد من خطورته.ففي التلفزيون نجد ان البناء التنظيمي الاجتماعي وجد ضالته في إمكانية الاختيار بين المثبوت عبر القنوات الفضائية ووضع الرقابة وإعطاء التوجيهات الأبوية نحو النشئ بعدم التعرض لبعض القنوات فيحدث التداخل والتنافر لتواضع المثبوت من القنوات المحلية من حيث الشكل والمضمون خلافاً للراديو المحلية التي يلعب الخيال لدى المتلقي دوراً رئيسياً في تقبل مضامينها وأشكالها البرامجية المتصورة من خلال الأذن. فالبناء الفوقي مثل الثقافة والقانون والسياسة في أي مجتمع تعد مضامين للبناء التحتي كإطارات منتجة(أشكال) تعبر عن حالة البناء المادي بسلبياتها وايجابياتها.
أخبار متعلقة