هذا سؤال يتردد في الأذهان حتي وإن لم تلفظه الشفاه، وقد كان هو قناعة الأوروبيين الذين جمعوا ما بين الإيمان بالإسلام والتخلف العام، فحينما كان هذا الإيمان يكون التخلف ( اقتصاديًا، واجتماعيًا، وسياسيًا ) ففهموا من هذا أن هناك علاقة سببية بين هذا التخلف والإيمان بالإسلام.ولكن الأمر يتطلب نظرًا أعمق وتحليلاً أدق. فالإيمان بالإسلام إذا كان تعبيرًا عن حسن فهم الإسلام، فمن المستحيل أن يكون عامل تخلف.كان الإيمان بالإسلام هو السبب الأول في تحرير شعوب سوريا والعراق ومصر والشمال الأفريقي من ربقة التبعية لفارس وبيزنطة اللتين كانتا تفرضان السياسة الطبقية وتستعبدان شعوب المنطقة.وكان الإيمان بالإسلام هو المسئول عن الحضارة الزاهرة للعراق أيام حكم العباسيين، عندما كانت بغداد تنافس روما رقيًا وازدهارًا وتفضلها من ناحية القيم الإنسانية، كما تدين قرطبة بحضارتها الإنسانية إلي الإسلام، ويعود الفضل في انتصار المماليك علي الصليبيين، وعلى التتار إلى الإسلام. فالإسلام عندما فهم كعامل تحرير وحضارة نهض بالمنطقة وجعل لها السيادة في العالم وحماها من العدوان. ولكن إذا أسيء فهم الإسلام، فعندئذ ينقلب الأمر، ويصبح الإسلام عامل حفاظ وجمود، وحائلاً دون التقدم والتحرر.وللأسف الشديد فإن هذا هو ما حدث بعد انقضاء العهود الزاهرة للإسلام، وبعد أن انطفأت القناديل في بغداد، وقرطبة، والقاهرة، وساد ظلام الجهل والتخلف. وهذا هو الحادث الآن، فإذا أردنا العلاج، فعلينا أن ندرس لماذا تحول عامل التقدم إلي عامل تخلف.سأشير هنا إلي ثلاثة عوامل أرى أنها رئيسية.من أهم الأسباب أن الدين عندما يظهر علي يدي الرسل والأنبياء يكون دعوة تحرير ويكون الأنبياء قادة جماهير، ويلتف حول الأنبياء المجموعة التي آمنت عن صدق واقتناع بالدين كحركة تغيير كبرى وإنقاذ الناس من الظلمات إلي النور، ومن هنا يقوم الدين بثورة انتهاضية شاملة كافة الاتجاهات وتتوفر فيها حرارة الإيمان ونبل الغاية والقيادة الفريدة للأنبياء الذين لا يريدون أجرًا ولا شكورًا ويعملون بالروح الرسالية ولا يعرفون الزهو أو الغرور أو الطغيان.ولكن بعد أن تنتهي هذه الفترة، تبدأ حرارة الإيمان في البرود، ويتحول الإيمان نفسه من إيمان اقتناع إلي إيمان وراثة وتغيب قيادة الأنبياء الرشيدة الفريدة ثم تظهر المؤسسة الدينية وتحتكر الدعوة للدين وتخضع لما يؤثر علي الرجال من طموح، أو استبداد، أو ضعف خاصة إذا كان لها طابع الاحتكار المفسد بطبيعته، وهكذا يسود التقليد عامة الناس وتسود الأغراض والأهواء قادتهم.ولا شك أن رسول الإسلام(ص) كان يعلم بما يمكن أن تنتهي إليه الأمور في المسلمين وأنهم سيسيرون في المسار الذي سار فيه من سبقهم ومن هنا كان حرصه علي التجديد ، وكان يقول لأصحابه جددوا إيمانكم ويؤمن أن الله تعالي يقيض لهذا الدين من يجدده على رأس كل مائة عام، دون أن تنجح ضرورة جهود هذا المجدد. ومن الأسباب الهامة التي ربما تعود إلي طبيعة الأديان أنها فيها عنصرًا مطبوعًا يجعل المؤمنين يزيدون في الإيمان بالدين وبالذات العبادات على حساب حقهم في الحياة الدنيا، ولا يستطيعون تحقيق التوازن المطلوب بينهما، وهو اتجاه يزداد قوة مع زيادة فساد المؤسسة الدينية وغلبة الجهالة والتقليد.ويصعب جدًا اقتناع عامة الناس بأن العبادة التي أرادها القرآن في آية مشهورة أسئ فهمها وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ، إن العبادة هي - كما قال ابن تيمية (اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة)، فحتى هذا التعريف الجامع من إمام من أبرز الأئمة، يؤول ويفهم أن ما يرضي الله أولاً أو أصلاً هي العبادة، أو الشعائر العبادية، وبوجه خاص الصلاة والتعبد والبعد عن الدنيا.فكيف يمكن لمجتمع أن تتقدم دنياه إذا كانت مشاعره كلها عازفة عن الدنيا؟ إن الوحدة التي صنعتها الخلافة أيام هارون الرشيد والمأمون وازدياد الثروات وانفتاح الأسواق كلها كانت تؤذن بثورة تجارية تعقبها ثورة صناعية كما حدث في بريطانيا، خاصة وأن العلوم التطبيقية والطبيعية كانت مزدهرة، ولكن حال دون أن تظهر البنوك،وهي التي توسع وسائل التبادل التجاري والاقتصادي تحريم الربا، كما أن علم الطبيعة والفلك والطب والكيمياء التي ازدهرت لم تجد شعبًا يتقبلها ويعنى بها ويزود مجموعة العلماء بمبداءات شعبية وإضافات جماهيرية، كما لم تجد حكامًا يحتضنون العلماء لأنهم إنما كانوا يحتضنون الفقهاء الموافقين والشعراء المداحين، ولهذا لم تحدث ثورة تجارية ولا صناعية في بغداد رغم تهيئة الأسباب لذلك.ويمكن من باب الاستدلال بالمخالفة أن نقول إن التنظيم الجماهيري الوحيد الذي عرفه المجتمع الإسلامي كان التصوف وكان ردًا على ابتعاد الفقه عن الحياة وسوء توزيع الثروة وعدم اهتمام الحكام بالشعوب ولا العمل علي إصلاح المرافق والنهضة بالزراعة والتجارة، مما أوجد الأثرياء الذين يملكون العديد من الألف ألف أو المليون، كما نقول بينما الشعب يعاني الصعوبات والمشقات والضغوط، فتركت الجماهير هذا المجتمع الظالم، المستبد وانغمست في عالم خيالي، قدم لها الإشباع العاطفي والتنظيم الاجتماعي.ولا يمكن أن نصلح الاتجاه المتجذر في الإسلام عن تغليب العبادة علي الدنيا بمحاولة التسوية ما بين الدين وعباداته والدنيا وما تتطلبه من علم وعمل، بل وفنون وآداب، لأن كفة الدار الآخرة ستغلب لا محالة، وإنما يتم العلاج بإقناع الجماهير إن العبادة هي ما يحبه الله، وأن الله يحب الإتقان في العمل، والله يحب الجد والاجتهاد، والله تعالي يحب العلوم على اختلافها، والله تعالي يحب أن تؤتى رخصه لمن يعجز عن أداء عزائمه ، وأن الفنون والآداب هي من حرث الدنيا التي يؤتي الله من يريدها، وإن حاسبه الله عليها يوم القيامة، وهو يستطيع أن يفعل من الحسنات ويؤدي من الصالحات ما يجعل حسناته تزيد علي سيئاته.بهذا وحده يمكن أن نجابه الفهم المتجذر بفهم مقابل مبني علي أسس ويعوض النقص.أخيرًا فإن من الأسباب التي تفقد الأديان حرارتها وفعالياتها وتوهن من أثارها الطيبة، ولم ينج منها الإسلام، وإن كان أفضل حالاً من غيره، نزعة التشكل أو التقولب في عباداته، وبوجه أخص في الصلاة و الحج التي تكاد أن تكون كلها طقوسًا، ولا يمكن أن نلوم الأديان لأنها أرادت إيجاد صلة بين الناس والله ولو تركت ذلك لكل فرد لأساء الكثيرون، أو أخطأوا أو تثاقلوا، فكان من الضروري أن توضع صورة محددة للصلاة فهي ضرورة لا خلاص منها، ولكنها من ناحية أخري أفقدت الصلاة جزءًا من تأثيرها لو أمكن للفرد أن يقيمها من تلقاء نفسه بطريقته الخاصة، وعندما يكون متهيئًا لذلك، وقد فطن القرآن نفسه عندما قال: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ، ففضل ذكر الله علي الصلاة، كما فطن إليه الرسول عندما جعل الدعاء مخ العبادة ، والدعاء وذكر الله يتوفر لهما التلقائية، والحرية، وأنها لا تحدث إلا عندما يحس الفرد نفسه بحاجته إليها ويمكن للفرد أن يجمع بينهما فيصلي الصلاة المفروضة ويأخذ في الذكر والدعاء بقدر ما يتجاوب مع مشاعره، وتبقى الصلاة نوعًا من الالتزام أو الحبل الذي يصل المسلم بالله خمس مرات، وهذا، حتى علي قولبته يؤدي الكثير.كما لا نعدم في الحج - وهي أكثر العبادات طقوسية إضافة منشئة إذا أحسنا الإفادة من ميزاته التي لا توجد في غيره - ولا يوجد له مثيل في الأديان الأخرى، من معاني المساواة الكاملة وطمس كل علامات التميز أو الاستعلاء والإفادة من هذه الفرصة التي لا يمكن إيجاد مثيل لها في عقد الاجتماعات ما بين ممثلي الدول الإسلامية المختلفة وإرساء أساس للتواصل ويتم هذا قبل أو بعد أداء المناسك، وإذا أريد تفعيل الإجماع فهذه هي المناسبة التي يمكن أن تحقق ذلك.[c1]* مفكر اسلامي مصري [/c]
هل الإيمان بالإسلام يؤدي إلى التخلف؟
أخبار متعلقة