يعتبر الفنان عمر محفوظ غابة من مشاهير المحترفين المغنين القدامى في جنوب اليمن والجزيرة العربية، وكان من الحافظين لكل ألوان الغناء اليمني القديم إلا أنه حين دخل مجال الاحتراف الغنائي بعد أن ترك مهنة (الدلالة) في عدن أحس بمنافسة قوية من معاصريه المطربين المقتدرين في الغناء الكلاسيكي اليمني، والذي لم يكن الاستاذ (غابة) من أساطينه الميامين، ولذلك عندما تفتش في تسجيلاته (الاسطوانية) لن تجد من ذلك شيئاً وكان على الأستاذ عمر، والحالة هذه أن يفكر في أسلوب جديد في الغناء يتلاءم وطبيعته ومواهبه، حتى يستطيع أن يجد له مكاناً بين أساطين الغناء التقليدي، فاتجه إلى اللون الشعبي في جنوب اليمن بصورة عامة ، والمنولوجات الناقدة لبعض مظاهر الحياة في المجتمع. والغريب في الأمر أن الأستاذ عمر لم يكن هو نفسه يدرك أن هذا اللون من الفن يسمى (منلوج)، وقد سألته عندما كتبت " أغانينا الشعبية " 1959، أجاب: نعم. وكان يقدم إلى جانب ذلك الأغاني الضاحكة التي لا تحمل أي معنى ولا تخدم أو تعالج أي نوع من القضايا، وهي أغاني (الفرانكو، هندي، صومالي،عربي) وكل هذه الأعمال من تأليفه وتلحينه . وفي الأسلوب الأخير الضاحك نورد هذا النموذج:تعال يا عزيزي (كمون دير) إنجليزيمرحبا سيدي (يس سير) انجليزيتعالى ياصديقي (بيتودوس) هندياجلس يا أخي (فريستو ولال) صوماليوالاستاذ الغابة بدخوله مضطراً عالماً جديداً في الغناء للاعتبارات التي أوردناها، كان دون شك في البداية مغامراً بحياته في مجال الاحتراف الغنائي، ولكنه في الحقيقة وجد نفسه حين فكر في هذه المغامرة، لأن العم عمر - كما كنت أناديه- كان لا يصلح إلا مضحكاً، والواحد منا يحس بملكته في الإضحاك عندما يقابله، ولذلك لقي تجاوباً سريعاً من الناس البسطاء، ومن القطاع النسائي في المدينة والريف بصورة خاصة اللاتي إذا ما ما سمعن بوجوده في حفلة زواج هرعن بحماس يزغردن للفنان الضاحك من وراء حجاب ويضحكن من اعماق قلوبهن لترقيص حواجبه والإبتسامه تملأ مساحة وجهه الوسيم .وكان من عادته إذا ما اراد أن يلهب حماس النساء له بالزغاريد التي لا تنقطع يضع العود جانبآ؛ ويتناول الكمنجة، وأثناء عزفه عليها يرعش القوس ويزغرد باتقان فيخيل للنساء اللاتي يرقبنه من فتحات ضيقة في السقيفة، إن رعشة القوس على الكمنجة هي التي احدثت الزغرودة؛ ويتم التجاوب منهن بالزغاريد التي تشق عنان السماء؛ ويكرر العملية على الكمنجة أكثر من مرة حتى انتهاء الأغنية . والجدير بالإشارة أن إعجاب النساء أدى به مرغماً الى الدخول في مغامرات عاطفية خطيرة على حياته مع نساء البيوتات الكبيرة، ويعود هذا الإعجاب الخاص إلى شخصيته الظريفة ، وفنه الظريف كما أسلفنا، وكان أول مطرب يهتم بشؤونهن وأزيائهن، وبعضنا لا يزال يذكر هذا المنلوج الذي يقول فيه:وقد تحدثنا خطفاً عن المنلوجست عمر محفوظ غابة في (أغانينا الشعبية) 1959م في سياق حديثنا عن المنلوج، والرسالة المنوطة به في النقد الاجتماعي والثورة على الأوضاع الحاكمة وقتئذ، قلنا: " إن الغابة كان يسمع عن الحادث" فما يكاد ينفعل به حتى يؤلف فيه هذا النوع من النظم. الذي يخيل إلي أنه كان يتناسب مع طبيعته واستفادته لهذا اللون من الغناء الذي كان صاحبنا ينظر اليه كلون مرح من الطرب ويكفيه من أنه يضحك جماهيره، مثال ذلك:يا الذي في جبوتي يا عرب يا صومالما يجب منكم تفعلوا هيجانأنتو في هذا البلد كلكم إخوانالمصطفى قد قال إن المسلمين إخوانوغابة قد قال هذا المنلوج ولحنه على إثر واحد من التصادمات الكثيرة التي كان يلتحم فيها العرب بالصومال في جبوتي، والتي لا بد لنا هنا من القول بأنها لن تنتهي إلا بانتهاء الأصل فيها وهو الاستعمار.ومناسبة شراء السيارات بالتقسيط، أو قل هذا اللون من البيع الذي لم يألفه الناس بتلك الطريقة، والتي يخيل للمرء إنها تدخل بلادنا للمرة الأولى في تاريخها، تلك المناسبة لم تكن لتستهوي (القمندان) لوحده، إنها أيضاً استهوت غيره، استهوت المطرب عمر محفوظ غابة الذي ألف ولحن منلوجاً في هذا الموضوع، أولعت به الناس، وغنته طويلاً وهو منلوج يسجل الحدث بشكل فيه من النقد، وفيه من السخرية، ما يسجل لهذا اللون من التعامل الاقتصادي مكانة في تاريخ بلادنا، ولنقرأ منه الأبيات التالية:وفي معنى هذا المنلوج كشف لي الأستاذ حسين الصافي مدير الإذاعة والتلفزيون الأسبق في عدن عن معلومة جديدة عندما قال: (إن استيراد السيارات في ذلك الوقت كان من نصيب أحد التجار الوطنيين من آل بازرعة في عدن، وبدخول التاجر (قهوجي) الهندي الأصل هذا المجال وفكرة التقسيط الرائجة التي جاء بها في بيع السيارات، أصابت سيارات البازرعة بالكساد التجاري، الأمر الذي أثار عمر فألف ولحن هذا المنلوج لينصر التاجر الوطني بازرعة على منافسه الأجنبي.والمطرب عمر محفوظ غابة بجهده الشخص قام بنشاطات فنية واسعة في أنحاء الخليج العربي، وفي بعض البلاد العربية ومن بينها سوريا حيث قام والمطرب عبدالرب تكرير بتسجيل بعض أغانيه على اسطوانات يصاحبهما المطرب نوري الملاح من سوريا، وإلى جانب ذلك قام برحلات فنية عديدة في كثير من البلاد الأفريقية. وفي أخريات أيامه ضمه الأستاذ حسين الصافي الى فرقة كعازف على الكمان واستطاع الأستاذ عمر بحيويته المتدفقة أن ينسجم كلية مع أبنائه من العازفين. وحدث ذات يوم أن سخر منه أحد المطربين المحدثين المشهورين وهو يعمل بروفات مع الفرقة ، وطلب منه أن يتوقف عن العزف مع الفرقة، فهاله الموقف خاصة عندما رأى السخرية قد أثارت ضحك العازفين عليه فوضع الكمنجة على مقعده، وانتفض قائماً وقال للمطرب: أتسخر مني ياولد وأنا في هذا السن؟! أما كان من الأجدر بك أن تسأل العجوز كيف كانت في شبابها على الحجاب تمزق طربال المخدرة من أجل أن ترى وتسمع هذا الذي تسخر منه اليوم ؟ وانسحب من القاعة.وبعد ، يعتبر الفنان عمر محفوظ غابة من المطربين القدماء الذي لحن أغانيه، وخاصة المنلوجات وكان له لونه الخاص به، وشهرته في جنوب بلاد اليمن والجزيرة تنطلق من هذا اللون الذي اتخذه مسلكاً فنياً في حياته الفنية وقد توفي عام 1965م.
|
رياضة
فن الغناءاليمني القديم ومشاهيره
أخبار متعلقة