هاني فحص قليل جدا من الشك يساور المراقب من بعيد او قريب للوضع في العراق، حول ما استطاع الدكتور ابراهيم جعفري ان يحققه من تعصيب أكثرية شيعية ملحوظة حوله. وفي حين ان هذه الأكثرية تشكل مصدر قوة له ولأمثاله من القيادات التي تخوض العملية السياسية بأعصاب الجماعة أولا وبالوقائع والتاريخ وقائع أكثر منها نوايا حتى لو كانت هذه الأعصاب يمكن ان تنطوي على ما يمكن ان يقوض فكرة الدولة، فإن هذه الأكثرية سوف تتحول الى الصدام او الفراق مع من يمثلها أو يستقطبها من خلال تنشيط ذاكرة المظالم والفواجع، وذلك متوقع في العراق الذي عجزت الحكومة الموقتة ومعها الطبقة الحاكمة عن تأمين أمن الجماعة فيه وتحقيق مطالبها الملحة والتي ازدادت إلحاحا بالإهمال او العجز عن تحقيق المطالب الاجتماعية والعمرانية والتربوية والمعيشية، مضافا الى ذلك العجز، عدم استطاعة الكثير من قيادات الصف الأول من مجلس الحكم الى حكومة جعفري المؤقتة، ان يقدم مثالا حيويا وشفافا للشعب العراقي بكل مكوناته وحساسياته. هذا ولا يبدو في الأفق ان هناك مؤشرات واضحة على إمكان تحقيق المطالب التي تزداد إلحاحا بازدياد الاضطراب الأمني والارتباك او القصور او التقصير الإداري خاصة في المجال التنموي.. وهذا يحمل احتمالا كبيرا بأن تعود الجماعة الشيعية التي أيدت وناصرت، الى الحساب الدقيق مع من ناصرته، خاصة أنه لن يكون بإمكانه ان يتجاهل سياسيا وإداريا، ممثلي الجماعة الاخرى السنية او الكردية مثلا إلا إذا كان يتجه فعلا الى عراق لا يقوم على المشاركة مما يضعه على خط التقسيم... وهذه أكبر الكبائر في السياسة والاجتماع، وتمثل فتحا للعراق على مستقبل إلغائه بالكامل حضورا او فعالية وقرارا، وكيانا في الأساس، هذا وليس في عقل الجعفري ولا حزب الدعوة ولا حلفائه الجدد المنشقين عنه من حزب الدعوة والتيار الصدري اي إشارة واضحة او غامضة الى توجه تجزيئي للعراق لديهم. إذاً، فإن هذه الحالة من التعصيب ليس من شأنها ان تحل مشكلة الشيعة إلا بمشكلة اخرى لهم وللعراق، اي الغاء الدولة بجزء من المجتمع، وعندئذ لا تبقى هناك دولة، ومع ذهاب الدولة يذهب المجتمع. إن تجارب عدة تؤكد ان استقواء المجتمع، او مكوناته او بعضها على الدولة، من موقع الرغبة في تحقيق مصالح الجماعة على حساب الجماعات الاخرى، أي خارج سقف الدولة المانع من ذلك فرضا، ينتهي الى إسقاط الدولة على رؤوس الجميع، في حين يكون المجتمع قد تشظى وسقط على رأس الدولة... ليأتي طرف آخر، اميركي او عربي او اسلامي او مشترك، ويعقد للعراق طائفا كالطائف اللبناني ليبني الدولة العراقية على شظايا العراق، الذي يصبح بدوره كأنه سلة (سلاطعين) معلقة بزند ما، يحركها صاحب الزند ساعة يشاء كي تتصارع ويحل مشكلاتها منفردا او بالشراكة مع اطراف خارجية متعددة، شأن لبنان قبل الطائف وبعده... ويصبح شعار العراق أولا كما هو شعار لبنان اولا، تحت يافطة الاستقلال كشعار لا يأتي من فراغ بعد التجربة، ولكنه قد يذهب في اتجاه ارتهان أقسى من الأول، ان لم يعد مشروع الدولة الى وعي الاطراف جميعا، ليعيدوا انتاج التسوية بالتنازلات العميقة والمتبادلة حفظا للجميع بالجميع، كما يحدث تقريبا حول طاولة الحوار في لبنان الآن.. إن المشكلة في العراق مركبة كما هو العراق مركب، ولكن اهم أبعادها او عناصرها هو مسألة الدولة والعملية السياسية المؤدية الى بنائها في بلد أعاده النظام السابق الى ما قبل المجتمع من خلال الدولة الاختزالية والمنفصلة عن بنية اجتماعها والتي أسست نفسها على تحويل الاختلاف بين مكونات اجتماعها الى تناقض وصراع الغائي وعاشت على مساحة هذا الصراع... من هنا في العراق نقع على تناقض عجيب وليس غريبا على شعوبنا وبلادنا... يأتي هذا التناقض من معادلة إما الجماعة الاثنية (الطائفة مثلا) وإما الدولة، من دون فرق بين قومية وقومية، المسؤولية هنا عربية بلحاظ الرغبة الأكثرية في الاحتواء... وبين طائفة وطائفة، او حزب وحزب إذا كان هناك من أحزاب حقيقية، والجميع يشكون في ذلك وإن كان البعض يكابرون... وهنا تكون ورطة الاكثرية قد اكتملت عندما تلجأ الى العددية من دون مراعاة احتمال التعددية السياسية التي وإن غابت لظروف طارئة عن المشهد، فلا بد ان تبقى كامنة، كما هي طبيعة الأمور وتجارب التاريخ. بناء على الغلبة العددية يتم السعي الى الغلبة على الدولة، اي مصادرتها او احتكارها، او الأخذ بالنصيب الأوفى منها، ما يمكن تسميته ترتيب وقائع على موجب الغلبة على أساس العدو المراوغ.. وفي كل التجارب حصل ان الاغلبية الحقيقية او المتوهمة في مجتمعات التعدد الفعلي، والتي اعتبرت الغلبة النسبية غلبة مطلقة، انتهت الى أوهام ترتبت عليها خسائر عظمى (الموارنة والفلسطينيون واليهود والسوريون في لبنان. والآن اصبح على المسلمين ان يحذروا من إعادة تجربة من سبقهم).. ويمكن بشيء من ملاحظة الفوارق اعتبار غلبة البعث مموها للسنة العرب في العراق أمرا قريبا من حالة لبنان وغيرها وتحذيرا من مستقبل العراق؛ مستقبل العراق في المنظور الشيعي العصبي ومثيله السني الذي لا يقل توترا وتسامحا في التدقيق عن غيره. ختاما نعيد القول بأن الشيعة في العراق إذا ما تصرفوا ورتبوا الأوضاع على أنهم الأكثرية فقط.. فإنهم سوف يكونون قد وضعوا أنفسهم على طريق تجعلهم أقلية.. قومية من جهة... ومذهبية من جهة، ما يجعل العراق ملعبا مفتوحا.. ومفتوحا على كل شيء. ربما يكون الحل... او الشروع في الحل، بصرف النظر عن استمرار الجعفري وتشكيل وزارته الوحدوية او عدم تمكنه من ذلك... ربما يكون الحل في تظهير وتجسيد التعددية السياسية في الوسط الشيعي داخل الائتلاف ما حصل ويخاف عليه من الانتكاس بالعصبية المقابلة لدى السنة العرب... وما هو مؤسس في العمق لدى الأكراد، من دون شق الائتلاف الشيعي بل بالابقاء عليه مرجعية تعددية اي حوارية او توافقية في الشأن الوطني الشيعي.. وهنا ينفتح الاحتمال او الاحتياط الوطني على شبكة تحالفات شيعية سنية كردية داخل المجلس الوطني تجعل مشروع الدولة والمشروع الوطني احتمالا مستقبليا اقوى لأنه تعددي.. اي ديموقراطي في المحصلة، يبني الدولة لمجموع مكوناتها بجميع مكوناتها.. ويكف الوضع الاشكالي عن إنتاج المعادلة الصعبة: القوي في طائفته ضعيف وطنيا لان الطائفة في وجه الوطن.. والقوي وطنيا ضعيف طائفيا لأن الوطن في وجه الطائفة.. والطائفة والوطن بريئان من ذلك. ربما كان على من وعد نفسه بوطن ودولة وحرية وإيمان بالله ان يبحث عن مكان آخر لينجو من حصار الطائفة وصعوبة الوطن.
العـراق... بيـن الجماعة والدولة
أخبار متعلقة