العرقسوس .. شراب الملوك توارثه الصائمون
القاهرة/14اكتوبر/وكالة الصحافة العربية :حين ينطلق مدفع الإفطار ، ويلتف أفراد الأسرة حول المائدة .. تمتد الأطابع بتلقائية إلي أكواب (العرقسوس) المثلجة ، فيزول العطش وتتدفق الدماء في الشرايين ، وتنفتح شهية الصائم إلي الطعام ، و(العرقسوس ) نبات قديم عرفه المصريون القدماء ، وهو من النباتات الجذرية التي تمتد في الأرض ، وكان يقتصر استخدامه وشرابه علي الملوك ( الفراعنة ) ، وساد الاعتقاد أنه يطرد الشيطان من الجسد ، ويزيل الآلام والمتاعب النفسية .وهكذا توارثت الأجيال الحاكمة اعتبار ( العرقسوس ) ، شرابا ( ملكيا ) ، حتي جاء الفاطميون وبنوا القاهرة ( 969 م ـ 853 هـ ) في عهد المعز لدين الله الفاطمي ، وقائده جوهر الصقلي ، وخططت العاصمة الاسلامية الرابعة ، وبنيت المنازل والقصور ، وشيدت الميادين والأسواق .. وشهدت الأسواق( القاهرية ) تنوعا وثراءً في الحرف والبضائع ، ومنها سوق (العطارين) الذي احتل فيه ( العرقسوس ) مكانته ، فأقبل عليه الناس ليصير مشروب ( العامة ) ، خاصة في شهر رمضان . واستقرت في الذاكرة الفوائد الصحية لهذا الشراب ، فهو يشفي أمراض الكلي والالتهابات المعوية ، وقرحة المعدة والسعال ، ولذلك لاتخلو مائدة مصرية منه ، سواء في القاهرة أم المدن والقري المنتشرة في ربوع مصر.[c1]بائع العرقسوس [/c]ولعل صورة بائع ( العرقسوس ) من الصور الشعبية ، بزيه التقليدي ، وهو يحمل ( الإبريق ) المعدني أو الزجاجي، ويجذبه إليه بواسطة حزام جلدي عريض ، يلتف حول خصره ، ويتدلي منه (إناء) صغير للأكواب ، بينما يحمل البائع في يده اليمني ( صاجين ) نحاسيين ، يصدران صوتا مميزا و يحمل في يده اليسري ( إبريقاً ) بلاستيكياً صغيراً مملوءً بالماء المحبب إلي النفوس ( شفا وخميرة يا عرقسوس ) .وفي شهر رمضان يختفي بائع ( العرقسوس ) من الظهور في وقت الصيام ، ليبدأ عمله قبل ساعات قليلة عن الإفطار ، وذلك بأن يخرج إلي الميادين العامة ، ويفترش الرصيف ومعه ( أكياس ) معبأة بالعرقسوس ، ومجهزة بأحجام مختلفة حسب الطلب .وتدخل إلي المنافسة محلات ( العصير ) ، حيث تختفي العصائر ، ويقدم الباعة شراب العرقسوس المثلج ، وغالبا ما يشتد الزحام قبل انطلاق مدفع الإفطار بدقائق معدودة.وفي الأعوام الأخيرة ، أدخلت هذه المحلات تطويرا هائلا في صناعة (العرقسوس) ، حيث صممت الماكينات التي تصنع ( خلطة ) العرقسوس المثلج ، لتكون جاهزة للتحضير في المنازل ، وغالبا ما يطالعنا هذا المشهد في الأحياء الشعبية مثل السيدة زينب والظاهر والسيدة عائشة وغيرها ، حيث تشتعل المنافسة بين الباعة( الهواه ) الذين يحلو لهم بيع العصائر فوق ( الأرصفة ) ، و( البائع ) التقليدي الذي توارث المهنة عن أجداده ، وكلاهما يحترس من ( الماكينات ) المستحدثة ، التي تجتذب الزبائن ، وتحقق لهم متعة تحضير ( العرقسوس ) في المنزل .ومن الأشياء الطريفة أن بعض هؤلاء الباعة التقليديين ، رأوا أن يسايروا التطور ، فصارت لهم محلات تبيع ( العصائر ) ، ومن بينها شراب ( العرقسوس ) ، وتخلوا تماما عن زيهم الشعبي ، بينما لا يزال البعض منهم يمارس مهنته حتي الآن ، وهؤلاء تفننوا في تزيين الأواني المعدنية والزجاجية، حتي يلفتوا الأنظار إليهم ، وهم يدورون في الشوارع بعد صلاة العشاء والتراويح ، ليقبل عليهم الزبائن ويرشفون المشروب المثلج من الأكواب الفضية والمذهبة .[c1]فوائد صحية[/c]وغالبا ما تهتم برامج الصحة التي يقدمها التليفزيون والإذاعة المصرية ، بحث الصائمين علي تناول العرقسوس ، وذلك من خلال أطباء متخصصين ، يعددون فوائده ، ولكنهم يحذرون من تصارعه مع أدوية الضغط المرتفع ، حيث يقلل إلي حد كبير فاعليتها ، وذلك لأنه يجعل الجسم يحتفظ بالصوديوم .والعرقسوس مادة لينة ويستعمل كمهضم وطارد للحموضة من المعدة ، ويدخل مع بعض المواد الأخري مثل ورق الرند والشمر والينسون والسلمكي للشفاء من السعال ( الكحة ) ، ويوسع الشعب الهوائية .أما طريقة تحضيره فتتسم بالبساطة ، حيث يشتري المسحوق من العطارين أو محلات (البقالة) ، ويخلط بالكربون ، ويترك لمدة نصف ساعة ، ليصبح لونه أسود ، ويعصر ويصفي بشاشة بيضاء ، ويقدم في أكواب كبيرة علي مائدتي الإفطار والسحور .. ولم يعد شراب ( العرقسوس ) وقفا علي أهالي الأحياء الشعبية ، ولكن الأحياء الراقية أفسحت له مكانا في محلات ( العصائر ) والمقاهي ، حيث يقبل عليه الأثرياء ، لما به من فوائد جمة ، وكذلك السياح الذين يحرصون علي تناول هذا المشروب ( السحري ) أثناء وجودهم بالقاهرة .[c1]سوق الإسكندرية [/c]ولا يختلف الحال في مدينة الإسكندرية العريقة ، حيث يقبل الأهالي علي تناول (العرقسوس) في شهر رمضان ، وسائر شهور السنة ، حيث هناك سوق شهير للعطارة في منطقة (المنشية) ، ويفد إليه مئات الزبائن لشراء كميات هائلة من مسحوق ( العرقسوس ) بالتجزئة والجملة ، وإذا تجولنا في أحياء الإسكندرية الشعبية سنجد ( بائع العرقسوس ) بزيه التقليدي ،وهو يجوب الحواري والأزقة ، وهو يدق بالصاجات النحاسية البراقة ، ذات الأنغام المحببة للآذان ،وهو يطلق نداءاته ، ويلتف حوله الرجال والأطفال ، لتناول مشروبهم المفضل.ولا تخلو مدينة مصرية من هؤلاء الباعة التقليديين ، وإن كان انتشار محلات ( العصائر ) قد دفع بعضهم إلي التخلي عن زيهم التقليدي ، وارتداء الأزياء العصرية من أجل جلب الزبائن ، ولفت انتباههم إلي بضاعتهم الرائجة في شهر رمضان .[c1]مشروب عمومي [/c]أما القرية المصرية ، فنادرا ما يوجد بها هؤلاء الباعة ، ولذلك يحرص أهالي الريف ، عندما يزورون المدن أن يتحلقوا حول بائع ( العرقسوس ) ، ليتناولوا رشفاته المثلجة ،والابتسامة تعلو شفاههم ، ويحرص هؤلاء علي شراء مسحوق ( العرقسوس ) من أسواق العطارة ، ويعودون به إلي منازلهم ، لتقوم سيدة البيت بتحضيره علي مائدة ،طوال ليالي شهر رمضان .وهكذا يستأثر (العرقسوس ) باهتمام المصريين ، ليتحول إلي شراب ( عمومي ) ، بعد أن كان وقفا علي الملوك والأمراء في العهود القديمة ، وتظل نداءات الباعة متناغمة مع أصوات الصاجات النحاسية ، لينطلق صداها في الشوارع وأحياء الفقراء والأغنياء ، طوال ليالي الشهر الفضيل .