الثابت أنّ حركة "حماس" شاركت في الانتخابات التشريعية ، ليس فقط على أساس قواعد العملية الديمقراطية ، بل وعلى أساس قواعد العملية السياسية للسلطة الوطنية الفلسطينية بما تنطوي عليه من اتفاقات والتزامات دولية.والثابت أيضاً أنّ "حماس" خاضت هذه الانتخابات وفازت فيها على أساس برنامجها الانتخابي، ثمّ أبدت رغبة بعد الفوز في تشكيل حكومة ائتلاف وطني واسعة التمثيل ، تكون حركة "فتح" طرفاً أساسياً فيها ، لكن الأخيرة ترفض المشاركة حتى كتابة هذه السطور، لأنّ برنامجها الانتخابي يختلف جذرياً عن برنامج "حماس" بحسب تصريحات قادة "فتح" .. ناهيك عن أنّ البرنامج الانتخابي لرئيس السلطة الوطنية محمود عباس والذي أنتخبه الشعب الفلسطيني على أساسه يختلف هو الآخر جذرياً عن البرنامج الانتخابي لحركة "حماس ".والحال أنّ الوضع المعقد الذي أسفر عن فوز "حماس" لا يعود فقط إلى وجود تناقض جوهري بين برنامجين انتخابيين فائزين ، أحدهما على رأس السلطة والآخر على رأس الحكومة.. بل أنّه يعود بدرجة أساسية إلى حرص "حماس" على إشراك "فتح" في حكومتها بمعنى دمج برنامجين انتخابيين متناقضين في الحكومة تمهيداً للتخلص من عواقب وجود برنامجين متناقضين أحدهما في رأس السلطة والآخر في الحكومة !!. لا ريب في أن ما يميز برنامج "حماس" الانتخابي وخطابها السياسي والإعلامي هو رفضها لاتفاق أوسلو وخارطة الطريق التي أقرتها اللجنة الرباعية الدولية ، وتمسكها بالمقاومة المسلحة ورفضها مبدأ وجود دولة عبرية الى جوار دولة فلسطينية ، وإصرارها على تحرير فلسطين بقوة السلاح من البحر الى النهر ، بمعنى تدمير دولة اسرائيل . وقد وجدت حماس في حرب الابادة الشاملة التي شنها أرييل شارون ضد الشعب الفلسطيني منذ وصوله الى السلطة في اسرائيل ، وقيامه بفرض حصار جائر على الرئيس ياسر عرفات في مقر الرئاسة الفلسطينية برام الله حتى الموت ، مناخاًملائماً لتسويق خطابها السياسي والإعلامي وتمرير برنامجها الانتخابي والوصول إلى سدة حكومة السلطة الوطنية، الأمر الذي يستلزم تحليل المقدمات التي أدت الى النتائج الراهنة في المشهد الفلسطيني بكل ما فيه من تناقضات وتحديات . ما من شك في أن شارون قام منذ وصوله الى السلطة في مارس 2001 بشن حرب إبادة شاملة ذات أهداف مترابطة أهمها تمزيق أوصال الشعب الفلسطيني وتجويعه ، وتقويض سلطته الوطنية ، وصولاً إلى الإجهاز على مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة.بالمقابل لم يكن لدى الفلسطينيين والعرب عموماً إستراتيجية واضحة ومحددة، لمشروع سلام شامل يتجاوز تداعيات اتفاقات كامب ديفيد ووادي عربة ، وأوسلو ومدريد، حيث بدت الدول والشعوب العربية عاجزةً عن فعل أي شيء ، ومنقسمة على نفسها في المواقف إزاء مستقبل الصراع العربي- الإسرائيلي، ومتهافتة بين وقتٍ وآخر على خيارات متناقضة.. بعضها يحاول التكيف مع المتغيرات الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي ترحّم عليه الشيخ يوسف القرضاوي عبر قناة "الجزيرة" الفضائية ، حيث وصف وجوده بأنّه كان رحمة بالعرب والمسلمين!!؟ وبعضها الآخر يمارس لعبة الضغوط المزدوجة، تارةً من خلال إطلاق العنان للشعارات الراديكالية القديمة، وتارة أخرى من خلال ترك الأبواب مفتوحة على خيار المفاوضات السلمية لحل الصراع العربي- الاسرائيلي في إطار قرارات الشرعية الدولية.بين وضوح الموقف الإسرائيلي، وغياب إستراتيجية عربية واضحة، بدت السلطة الوطنية والفصائل السياسية أقل وضوحاً في أهدافها، وأكثر تخبطاً في خياراتها.. فالفصائل الفلسطينية منقسمة على نفسها في الموقف من اتفاقات أوسلو ومدريد التي أفرزت السلطة الوطنية، حيث مارس بعض هذه الفصائل ـ ولا يزال يمارس ـ لعبة مزدوجة، فهي من جهة تعارض اتفاقات أوسلو ومدريد ، وترفض الاعتراف بنتائجها بما في ذلك مقاطعة الإشتراك في المؤسسات التنفيذية والتشريعية للسلطة الوطنية، فيما تحاول من جهةٍ أخرى الاستفادة من السلطة الوطنية والاحتماء بها، لصالح نهجها المعلن بالاستمرار في الكفاح المسلح حتى التحرير الكامل من البحر الى النهر ، وهو ما ينطبق على "حماس" قبل قبولها المشاركة في الانتخابات وفوزها بأغلبية المقاعد التي تؤهلها لتشكيل حكومة تضعها أمام مسؤوليات ومهام والتزامات مختلفة عمّا كانت تقوم به عندما كانت في موقعها بالمعارضة لا تعترف بالسلطة الفلسطينية وترفض المشاركة في أجهزتها !!؟بدأت مفاوضات أوسلو ومدريد في بداية التسعينيات بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية برعاية أمريكية وتأييد دولي وعربي في عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الأب. وتمّ التوقيع في واشنطن على الاتفاقات التي توصل إليها الطرفان في تلك المفاوضات حيث جرت مراسيم التوقيع في البيت الأبيض بحضور الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون.. وقد اشترطت الولايات المتحدة وإسرائيل شطب كل ما يشير في الميثاق الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية، إلى تمسكها بالكفاح المسلح من أجل إزالة دولة إسرائيل.. ووافق المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية على تعديل ميثاقها بمقتضى هذه الاتفاقيات، فيما تحفظت المنظمات الفلسطينية الموالية لسوريا والعراق وإيران آنذاك على ذلك، أما حركة "حماس" فقد أعلنت أنّ هذه الاتفاقات والتفاهمات والتعديلات لا تعنيها في شيء، لأنّها ـ ببساطة ـ ليست عضواً في منظمة التحرير الفلسطينية ، الأمر الذي يضع تساؤلات كبيرة حول سلوك "حماس" بعد ان اصبحت عضواً أساسياً ومهماً في منظمة التحرير الفلسطينية بمقتضى فوزها بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني !؟في هذا السياق أعلنت "حماس" انتقالها إلى ممارسة الكفاح المسلح بعد التوقيع على هذه الاتفاقيات مباشرة، ولأول مرة منذ تأسيسها أواخر السبعينيات . وكانت "حماس" قد بدأت عملها باسم الجمعية الإسلامية للبر والتقوى وروابط "أم القرى" الخيرية في أواخر السبعينيات بتراخيص رسمية من سلطات الاحتلال في قطاع غزة، حيث أعلن مؤسسوها آنذاك ، وجميعهم من الاخوان المسلمين ، أنّها حركة دعوية دينية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعمل على حراسة الدين الإسلامي في مواجهة "الشيوعية" من خلال إنشاء مدارس العلوم الدينية " الشرعية"، وتكوين الجمعيات الخيرية وافتتاح المراكز الخدمية بهدف درء أية مفاسد تلحق بالمجتمع وتمس عقيدته.وكان بنك التقوى الذي أنشأه الاخوان المسلمون في أوروبا هو الوسيلة القانونية الرئيسية التي حصلت من خلالها "حماس" على مصادر سخية لتمويل نشاطها داخل الأراضي المحتلة في مختلف مراحل تأسيسها وتطورها، حيث كانت مجالات نشاطها العلنية هي الأخرى قانونية، فالأموال المرسلة من الخارج كانت تصل إلى حسابات مصرفية باسم مؤسسات تعليمية وصحية ودعوية وإغاثية مصرّح لها من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي بالعمل من الناحية القانونية.وعندما اندلعت انتفاضة الحجارة في منتصف الثمانينيات تحوّل الاخوان المسلمون من العمل الدعوي الخيري المحض إلى العمل السياسي المباشر، وأعلنوا حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على قاعدة الرصيد الذي تكوّن لدى الاخوان المسلمين بواسطة العمل الخيري والاجتماعي في الضفة والقطاع بعد حرب 1967م.. بيد أنّهم أشاروا في بيان التأسيس إلى أنّها حركة سياسية سلمية، ثمّ أوضحوا أهدافها ومنطلقاتها في ميثاق حركة "حماس" الذي يتكوّن من مقدمة و36 مادة موزعة على خمسة أبواب وخاتمة.واللافت للنظر أنّ مقدمة ميثاق حركة "حماس" تشير إلى أنّ " انطلاق الحركة جاء عندما نضجت الفكرة" دون أن توضح لماذا تأخرت الفكرة أكثر من عشرين عاماً منذ قيام الثورة الفلسطينية في منتصف الستينيات.. كما أكد ميثاق الحركة على نبذ العنف ( !!؟؟ ) ، أما هوية الحركة التي تتوقف عليها أهدافها فقد كانت غامضة.. فالمادة الثانية تعرف حركة "حماس" بأنّها جناح للاخوان المسلمين في فلسطين.. فيما تقول المادة الخامسة من الميثاق أنّ "حماس" هي حركة لكل مسلمي بقاع الأرض وان فلسطين وقف عام لكل المسلمين في العالم !!رفضت حركة "حماس" الإنضمام إلى القيادة الوطنية الموحدة لانتفاضة الحجارة، والتي شكلتها منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، وأناطت بها مهمة القيادة اليومية للانتفاضة في داخل الأراضي المحتلة.. وعللت الحركة هذا الرفض بأنّها ليست عضواً في منظمة التحرير الفلسطينية التي ضمّت كل فصائل الثورة الفلسطينية، لكن ذلك لا ينفي عن "حماس" مشاركتها في انتفاضة الحجارة التي استمرت عدة سنوات.بوسع القارئ المتأمل لميثاق "حماس" أن يدرك أسباب بقاء " حماس" خارج إطار منظمة التحرير الفلسطينية .. فالمادة (27) تتحدث عن المنظمة بوصفها"أقرب المقربين " ، وتؤكد على أنّه يوم تتبنى "م. ت. ف" الإسلام كمنهج حياة فنحن جنودها) وتطرح في هذه المادة إمكانية "التعاون" مع المنظمة في الأمور المتفق عليها !!وفرت الانتفاضة -والمدة الزمنية الطويلة التي استغرقتها- مجالاً حيوياً للتعاون والتفاعل بين الكوادر الوسطية لحركة "حماس" وزملائهم في منظمة التحرير الفلسطينية، بيد أنّ تلك الانتفاضة توقفت بموجب قرار صدرغداة التوصل إلى اتفاقات أوسلو ومدريد، تنفيذاً للشرط الإسرائيلي الذي ربط التوقيع عليها في واشنطن باتخاذ قرار من منظمة التحرير الفلسطينية بإيقاف الانتفاضة.. وقد عارضت المنظمات الفلسطينية الموالية لسوريا والعراق وإيران بالإضافة إلى "حماس" هذا القرار، وأعلنت هذه المنظمات آنذاك أنّها ستواصل انتفاضة الحجارة حتى إسقاط اتفاقيات أوسلو.. غير أنّ شيئاً من ذلك لم يحدث، فقد توقفت الانتفاضة مباشرة بعد صدور البيان الذي أعلنه ياسر عرفات من مقره في تونس آنذاك ، وتوجت بمسيرات جماهيرية ضخمة في المدن الرئيسة لقطاع غزة والضفة الغربية رفعت صور الزعيم ياسر عرفات دون أن تعترضها القوات الإسرائيلية لأول مرة منذ الاحتلال!!على الطرف الآخر، انقسم المجتمع الإسرائيلي بين تيارين، أحدهما مؤيد لاتفاقات "أوسلو" و"مدريد"، ويضم حزب " العمل" وحزب "ميريت" وبعض الأحزاب الصغيرة والجماعات غير الحكومية المؤيدة للسلام مع العرب، فيما رفض حزب " الليكود" المعارض هذه الاتفاقات وسانده في موقفه هذا بعض الأحزاب الأصولية المتطرفة في إسرائيل، وجاء اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين على يد مراهق متعصب في ذروة عملية التعبئة التي قام بها معارضو اتفاق " أوسلو"، الذين روجوا خطاباً سياسياً يرى بأنّ قيام السلطة الوطنية الفلسطينية يمهد لقيام الدولة الفلسطينية التي ستشكل خطراً على دولة اسرائيل ، باعتبارها المرحلة الأولى من مشروع تدمير إسرائيل وإبادة اليهود، انطلاقاً من أراضي هذه الدولة.بعد التوصل إلى اتفاقات "أوسلو" و"مدريد" والتوقيع عليها رسمياً في 13 سبتمبر 1993م برعاية الولايات المتحدة الأمريكية في البيت الأبيض بواشنطن، انقسم المجتمع الإسرائيلي إلى تيارين، أحدهما يؤيد تلك الاتفاقات، والآخر يرفضها ويحرض ضدها على نحوٍ ما شرحناه سابقاً.. وكان معارضو هذا الاتفاق يراهنون على الانتخابات المبكرة لانتخاب رئيس وزراء جديد بعد اغتيال اسحاق رابين الذي وقّع مع ياسر عرفات على تلك الاتفاقات، حيث تنافس مرشح حزب الليكود بنيامين نتنياهو ومرشح حزب العمل شيمون بيريز، وكان الفرق بينهما لصالح بيريز في مرحلة استطلاع الرأي، حتى جاءت العملية الانتحارية التي نفذها فدائيو حركة "حماس" في أحد الميادين العامة في تل أبيب عشية الانتخابات لتخدم نتنياهو الذي كسب تلك الانتخابات بفارق بسيط ، لكن وصول نتنياهو الى السلطة في اسرائيل دشن مرحلة جديدة تميزت بالإنقضاض المشترك على اتفاق "اوسلو" ـ الذي أفرز السلطة الوطنية الفلسطينية ـ من قبل حكومة نتنياهو في اسرائيل من جهة ، ومعارضي ذلك الاتفاق مدريد في الشارع الفلسطيني ، وفي مقدمتهم حركة "حماس" من جهة أخرى ، وهو ما سنأتي عليه في الحلقة الثالثة والأخيرة من هذا المقال في الاسبوع القادم بإذن الله .* نقلاً عن صحيفة '' 26 سبتمبر''
الثورة الفلسطينية في رحاب الديمقراطية ؟ (2-2)
أخبار متعلقة