عرض/ كمال محمودتأسست شركة مصافي عدن في الخمسينيات من القرن الفارط ، وكانت المصفاة حينها ، فرعاً من فروع شركة مصافي (بي بي) البريطانية، ونشاط هذه المصفاة كان محددا بتكرير النفط ، للحصول على وقود السيارات والطائرات ، وبعض المشتقات النفطية الأخرى .غير أن هذه الشركة كغيرها من الشركات العملاقة ، تنبهت إلى أهمية الجانب الاجتماعي والثقافي في حياة موظفيها وعمالها ، لذا فقد قامت ببناء ناديين اجتماعيين ، ثقافيين في منطقة البريقة ، حيث تقع المصفاة ، أولهما كان للموظفين الأجانب من الإنجليز والجنسيات الأخرى ، من ذوي المناصب العليا بمن فيهم يمنيين ترقوا في مناصبهم في المصفاة،وقد كانوا قلة آنذاك ، والآخر للعمال والموظفين من اليمنيين من ذوي الدرجات والمناصب الأقل .وهي لم تكتف بهذا ، بل رأت أن تصدر مجلة خاصة بها ، وعلى غرار الناديين ، فقد كان لها مجلتان إحداهما باللغة الإنجليزية ، والأخرى باللغة العربية ، وإصدارات أخرى لايتسع المقال لتناولها.ولقد تكفل فريق من موظفي المصفاة ، ممن تحلوا بقدر غير يسير من الثقافة والأدب بتسيير دفة مجلة المصفاة بنسختها العربية ، وهي محور هذا المقال.وكان العمل طوعيا فيها ، فلم يكونوا مفرغين لتحريرها ، ولكن كانت تدفعهم رغبة ملحة في تحريك الساكن ، وإثراء أذهان وأفئدة القراء بما يعود عليهم بالنفع الثقافي والمعرفي.وظلت المجلة تصدر منذ بدء إصدارها في العام السادس من خمسينيات القرن العشرين وحتى سنوات ماضية من هذا القرن، إلى أن توقفت تماما لأسباب لم يفصح عنها ، ولقد تعثرت في مراحل إصدارها في السبعينيات ، وكذا في التسعينيات، ولكنها كانت تعاود الإصدار وتسترد عافيتها في كل مرة .وهي لم تقتصر على العاملين في المصفاة من حيث كتابة مقالاتها ومساهماتها الشعرية والقصصية ، بل نشرت لكثير من المواهب الشابة التي صارت بعد ذلك بسنوات أسماءً لامعة في عالم الشعر والقصة القصيرة والرواية ، فلقد نشر فيها الشاعر المتميز شوقي شفيق ، والقاص الجميل كمال الدين محمد ، والروائي المعروف حبيب سروري،وكذا الأديب المعروف أديب قاسم ، ومن قبلهم كان هناك القاص عمر جبلي ، والشاعر الراحل الأستاذ إدريس حنبله ، وشيخ المسرحيين الأستاذ الراحل عمر عوض بامطرف ، وإن ننسى فلن ننسى الشاعر الغنائي الراحل حسين عبدالباري، صاحب كلمات عاشت في وجداننا ومازالت كأغنية (( أيا ثورة الشعب، التي تغنت بها الفنانة الراحلة رجاء باسودان، وكذا أغنية (( منقب صدفة لاقيته )) للفنان الراحل حسن عطا.ولقد كانت المجلة تصدر تحت إسم (( أخبار المصافي )) في بداية عهدها ، ثم عنَّ للقائمين عليها أن يمنحوها اسماً آخر غير الذي عرفت به وكان ذلك بعد إيلولة ملكية المصفاة للدولة ، فحملت اسم (( مصفاة عدن )).أما من حيث مواضيعها ومقالاتها فقد تعددت وتطرقت إلى مواطن شتى في مجالات الأدب والثقافة والمسابقات ، وبالتأكيد فقد كان للرياضة نصيبها هي أيضا ، ، وكانت رافدا من روافد نشر الوعي الصحي والإداري بين العاملين ، وبعد أحداث ينايرغلب عليها الجانب السياسي والإيديولوجي ، وصارت لسان حال المنظمتين القاعديتين للحزب وإتحاد الشباب في عدن الصغرى عموما ، وفي المصفاة خصوصا ، وصار للأشكال النضالية ، كما كانت تسمى حينها، نصيبها من الصفحات .وفي التسعينيات من القرن المنصرم خصوصاً في الفترة من العام 92م وحتى 98م توقفت المصفاة عن إصدار مجلتها ، لتعاود الصدور بعد ذلك ، بأقلام شابة جديدة إذ إستطاعت أن تعيد إليها رونقها من جديد بعد أن كادت تقضي عليه مزايدات المزايدين من ذوي الاهتمامات النضالية والسياسية والإيديولوجية .وظلت مجلة (( مصفاة عدن )) تهل على عاملي المصفاة، وقاطني البريقة رأس كل شهر ، وقد بلغ الشوق بالقراء مبلغا عظيما لقراءتها ، فكانت تتخاطفها الأيدي كما يتخاطف الجياع الرغيف .وأذكر أنني حين كنت طفلا وكنت من قاطني البريقة، على اعتبار أن مسقط رأسي كان فيها، إذ كان أبي أحد العاملين في المصفاة من جيل الرعيل الأول الذين بنيت على كواهلهم أبنيتها وتركيباتها وصهاريجها ، وممن رووا تربة المصفاة من عرق جباههم وأجسادهم ، حيث كانوا يعملون في قيظ الصيف الذي شوى أجسادهم ، وهو الرعيل الذي ننحني إجلالاً وإكبارا لما قدمه للمصفاة وللبريقة ولنا نحن أبناءهم وأحفادهم ، أقول إنني اذكر أنني كنت أنتظر صدورها كل أسبوع ,اقف مع أترابي ، ومع جموع المنتظرين عند بوابة المصفاة طمعا في حصول كل واحد منا على نسخته ، فلقد كانت تصدر أسبوعيا ، ثم صار إصدارها شهريا، وظللت أترقب صدورها ، تسابقني رغبة جامحة للحصول على نسخة منها ، حين صرت أحد العاملين في المصفاة إبان الثمانينيات من القرن المنصرم ، وماتلاها من العقود.ولقد كان موضوع مجلة المصفاة، أحد المواضيع المنسية التي أهال الدهر عليها ترابه ، فأحالها أثرا بعد عين ، وصارت من الرسوم الدارسات ، أو الأطلال التي كان الشعراء يتغنون بها ، حتى جاء من يبعثها من مرقدها ، ويميط عنا ما اهيل من التراب ، ويعيد ذكراها الجميلة في وجداناتنا ، فأثار في النفوس من اللواعج ما أثار ، ونفخ في جمر كان مستكنا تحت الرماد ، فإذا بها تنبعث نار الحنين في نفوسنا ، ونتوق للأيام الخوالي ، وذكرياتها العذبة ، وماكان ذاك الذي فعل كل ذلك إلا إبنا من أبناء البريقة العاملين في المصفاة، والذي جاء إبنا لأب كان مشرفا في المصفاة ، وحفيدا أيضا لأحد العاملين فيها ذلك هو الشاب الباحث هاني صالح أحمد (باسل ) الذي كنت قد حدثتكم عنه ، قبل نحو عامين ونصف حينما فاز بالجائزة الأولى لمسابقة سعاد الصباح في الكويت وهي مسابقة تقام علم مستوى عالمنا العربي ، وكان أن حصد المركز الأول عن بحثة في تاريخ علم الصيدلة .وهاهو ذا ينتقل من تاريخ الصيدلة ، ليتجه إلى توثيق أعداد مجلة أخبار المصافي ، ومصفاة عدن منذ الخمسينات، وحتى توقفها في بداية القرن الحالي، وجدها قد فارقت الحياة منذ سنين ، وربما جاءه هاتف يناديه كما هو في قصص الخيال ، فسار به عشقه في رحلة بحثية مضنية ، أوصلته أخيرا إلى محبوبته ، الأميرة المسجاة فوق سريرها تنتظر مجيء حبيبها لتدب فيها الحياة إثر لمسة حانية منه ..لم يكن الأمر هينا ،فأعداد المجلة لم تكن متوفرة لديه ، أو لدى أية جهة أخرى ، حتى الشركة ذاتها ، لم تكن تملك أعداد المجلة، فكل ما كان محفوظا لديها ، أتت عليه نار حريق 1994م ، فكان لابد له وفي القلب أشواق فيـّاضة ، وتوق لفعل المستحيل، أن يتصدى لعمل جبار كهذا ، وأن يبحث عنها لدى كبار السن أو المهتمين من ابناء المنطقة ، وكذا مركز حنبله للتوثيق، وقد كان له كثيرا مما أراد ، إذ أمده مركز حنبله وعدد من موظفي المصفاة مشكورين ، بما إحتفظوا به من نسخ أو إحتفظ به أباءهم ممن غادروا حياتنا الدنيا .وقد تجاوزت في مجموعها مائتي عدد ، فما كان منه إلا أن قام بجمع هذه النسخ وفرزها وتصويرها ومسحها ضوئيا ، ثم تنسيقها عبر أحد برامج الحاسوب ، لينقلها بعد ذلك مصنفة حسب العقود إلى قرص ممغنط يسهل تداوله ، كانت السعادة تغمره رغم الكد والجهد ، ويتلاشى تعبه ويضمحل كلما أحس بدبيب الحياة يسري في جسد محبوبته. ولعلي أنتهز فرصة كتابة هذا المقال ، لأشد على يد هانينا بحرارة، مهنئا إياه على هذا المجهود الطيب والجميل، الذي سيعود بالنفع على كل من يهمه أمر المصفاة ومجلتها ، بما حوته من تاريخ اجتماعي وسياسي وثقافي ، ولعل مجهوده هذا يكون محفزا للآخرين للعمل على إعادة إصدار هذه المجلة العريقة في تاريخها الممتد لأكثر من نصف قرن ، ولنا في الأستاذ فتحي سالم علي المدير التنفيذي للمصفاة آمال عريضة في أن يعيد الحياة إلى مستقبلها كما أعاد هاني باسل الحياة إلى ماضيها .غابت المجلة عن حياتنا الثقافية، وتركت في قلوبنا غصة على غيابها، وظللنا نتلهف لعودة ظهورها مرة أخرى، فهل تعاود الإصدار، وتعود البشاشة إلى أرواحنا.لننسى زمانا باعد بيننا، ونحيا معها سيرتنا الأولى .
أخبار متعلقة