ترتفع قلعة الشّقيف في جنوب لبنان على ارتفاع سبعمائة مترٍ عن سطح البحر، شامخة تتحدّى الغُزاة منذ بدء التّاريخ. دارت فيها حرب الحضارات قديمًا. بُنِيَت ودُمِّرَت عدّة مرّاتٍ لكنّ فيها عَظَمَة مُميّزة، تشعر وأنت على حصونها المُهدّمة وكأن أُسُود العالم قد حفرت بأنيابها تاريخها منذ الشّعوب الأولى، ومرورًا بكلّ الغزاة حتّى الفُرس، الرومان، الصّليبيين، والصّهاينة آخرهم.استُخدمت قلعة الشّقيف القائمة في جنوب لبنان كحصنٍ لسدّ الثّغرات من ناحية البحر. وانتقلت من الخلفاء الأمويين إلى الخلفاء العبّاسيين فالطولونييّن فخلفاء مصر العلويين فالسّلاجقة فالأتابكة من الترك فالصّليبيين ومنهم ثم إلى الأتراك فأمراء هذه البلاد الوطنييّن.يعود تاريخ بنائها إلى ما قبل العصور الوُسطى. ويُعتَقَد أن «كيران»، السّائح الفرنسي، الذي زار سوريا في القرن التاسع عشر، هو أوّل مَن كتب عنها وقام بالتّعريف بأبنيتها. وممّا كتب: «لهذه القلعة مدخلٌ واحدٌ من الجنوب، وشكلها مثلث الزّوايا، وقياسها 160 مترًا طولاً و100 متر عرضًا، يحيط بها من بقيّة جهاتها آبارٌ منقورةٌ في الصّخر، ويحميها من الجهة الشرقية مجرى ماء مهيب يُسمّى نهر اللّيطاني، تسيل مياهه في وادٍ عميقٍ. وفي الجنوب خارجًا يوجد حوضٌ في الصّخر. وفي الغرب صهاريجٌ فيها أحواض جمة منقورة في الصّخر الصلد مسقوفة بعقودٍ حجريةٍ. وفي الشّمال حوضٌ قسمٌ منه منقور في الصخر، وقسم يقوم عليه بناء، وجدرانها المحيطة بها منحدرة. وفي داخل القلعة أحواض كثيرة كان يُجمَع فيها من المياه ما يسدّ حاجة المحصورين فيها مدّة الحصار».هناك مَن يُؤكّد أنّ القلعة كانت قائمة أثناء الغزوة الصّليبية الأولى، ولا يمكن الجزم في قيامها في ذلك العهد أنّها كانت عامرةً عمرانًا تستغني به عن التّرميم وزيادة التّحصين. فلا بد من أنَّ أيدي الصّليبيين امتدّت إليها بعد أن ملكوها وأعادوا ترميمها وتجديدها وأقاموا فيها بناءً جديدًا يتميّز عن بنائها الروماني القديم وعن بناء العرب. فإنّ الجهة الغربية قد بُنِيَت قبل الصّليبيين، وليس فيها من بناء القرون المتوسّطة إلاّ آثار قليلة. وبنى الصّليبيون فيها أكثر من الجهة الشرقية. ويُرَى في الوسط كنيسةٌ لاتينيةٌ ذات سقفٍ مؤلّفٍ من قناطر متقاطعةٍ وبابٍ صغيرٍ يُدخَل منه إلى الدار الداخلية. وهناك آثار أبنيةٍ يُظَنّ أنّها كانت اسطبلات أقامها الصّليبيون. وبالقرب من الزاوية الشّرقية آثارُ أبنيةٍ مُتّصلةٍ بأعلى القلعة، كانت بمثابة مدخلٍ لها. وكسائر قلاع القرون الوسطى في بلاد الشام، فإنّ فيها معبدًا أو مُصلى من الجهة الشّرقية.