المجتمع المدني ..
منذ اتسعت المجتمعات وتنامت بدأ الإنسان البحث عن وسائل شتى ومارس أعرافاً قبلية وتعاليم دينية وقوانين بشرية كثيرة بغية العيش الآمن والمستقر، ومع تقلب الأيام وتوالي السنين فإن قمة تعاليم سماوية وأخرى جاءت على ألسنة الحكماء والعقلاء مارسها الإنسان على درجات مختلفة من التطبيق، ويرجع ذلك إلى تلك المجتمعات وثقافتها وعادتها وتقاليدها.فما كان منها يحمل ثقافة دينية فإنه كان يمارس أنظمة من الدين ، وما كان منها علماني فإنه كان يأخذ أنظمته وتعاليمه وقوانينه التي يسير بها حياته على ضوء ما يدركه الساسة والحكام ويرون بأن الطريق الأنسب والأسلم لسياسة الأمور والبقاء على السلطة والبقاء على النفوذ ، متضمنا المصالح التي تعود عليهم وعلى المجتمع بالفائدة.وفي ظل هكذا أوضاع فإن الصراعات السياسية واختلاف المصالح كان يؤدي في أغلب الأحوال إلى الصدام المسلح ونشوب الحروب والتنازعات، ومن ثم كانت تلك الصراعات تفرز أوضاع جديدة تحتم على قادة الرأي والمصلحين الاجتماعيين والمفكرين والمنظرين السياسيين، كانت تحتم عليهم جميعاً إيجاد رؤى وأفكار والاتجاهات السائدة في نواحي كثيرة مثل ( الاشتراكية والماركسية والليبرالية والديمقراطية والفاشية والغازية ) ومع أن تلك الأنظمة كانت لها خصوصياتها وأسلوبها في التطبيق.وبدى ذلك واضح على تلك المجتمعات من رقي وتقدم واستقرار ، فالنظام الذي اكتنف في مضامينه مساحة أكبر للحرية قولاً عملاً واهتمام أكبر بالإنسان وحقوقه وحريته ، كان اقرب للنفوس وأهدى الطرق ممارسةً.وهنا برز النظام الديمقراطي كأهم وأنسب هذه الأنظمة لما يجمل في طياته من أسلوب أفضل ، وعلى هذا الأساس فإن كثير من دول العالم تحولت أنظمتها إلى النظام الديمقراطي طوعاً وكرهاً أما بالثورات والانقلابات السياسية أو بغيرها من الأساليب التي أحدثت تغييراً في الأسلوب والممارسة وأبقت على هيكل العظام وشكله.وأما الدول الإسلامية التي تستمر أنظمتها وقوانينها من الشريعة الإسلامية ، فإنها أخذت بالنظام الديمقراطي لما فيه من توافق نع تعاليم الدين الإسلامي.وسواء تغيرت تلك الأنظمة العربية إلى جمهوريات ديمقراطية أو بقيت على حالها كأنظمة ملكية ، فإنها في الواقع أخذت تطبق النظام الديمقراطي وتتكيف معه ، لما فيه من التزام بالحقوق والحريات والواجبات.ومع تطور النظام الديمقراطي ظهرت تيارات جديدة لها من الثقل السياسي والتأثير كقوة تستطيع أن تؤثر في اتخاذ القرارات التي كانت تم وراء الأبواب المغلقة .هذه التشكلات والقوى الجديدة هي ما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني والتي نمت وتوسعت في كنف الديمقراطية على الرغم من أنها كانت أسبق في وجودها على قيام الدولة لتنظيم سياسي كما ذكر العالم المصري ( الانتروبولوجي ) د/ أحمد أبو زيد والذي اعتبرها ( تصور أو مفهوم أوسع وأعمق من الدولة حيث تتركز على أسس أخلاقية وإنسانية أسبق في وجودها على قيام الدولة كتنظيم سياسي ).وكان (الكسس دوتوكفيل) تكلم عن فكرة المجتمع المدني منذ قرنين في عمله الشهير (الديمقراطية في أمريكا) والذي اعتبر المجتمع المدني يقوم على مشاركة المواطنين بطريقة فعالة في تكوين جماعات طوعية تهدف لتحقيق الصالح العام .كان ازدياد الاهتمام بإحياء فكرة ومفهوم المجتمع المدني منذ التسعينات نتيجة لازدياد الاتجاه نحو الديمقراطية وتحرر الشعوب على الحكومات الديكتاتورية ونظم الحكم الشمولي بكل ما ينطوي عليه من طغيان وفساد ، بل إن فقدان الثقة في بعض الحكومات الديمقراطية ، والشعور بالإحباط العام إزاء الأحزاب في العالم العربي بما في ذلك أمريكا ذاتها ، والتمرد على ابتزاز الشركات الكبرى وأصحاب رؤوس الأموال الضخمة لاستغلالها الطبقات والشعوب الفقيرة أسهمت هي أيضاً في إثارة الاهتمام من جديد بالمجتمع المدني ومؤسساته كأداة للتجديد الاجتماعي . وساعد انتشار هذا الشعور في كل أنحاء العالم الثورة المعلوماتية وتكنولوجيا الاتصال التي أتاحت الفرصة لتوافق وتقارب الآراء وأضفت بالتالي على المواطنين والأهالي في كل أنحاء العالم قوة وفاعلية ، لم يكونوا يتمتعون بها من قبل حتى في المجتمعات المتقدمة.حيث حققت مؤسسات المجتمع المدني كثير من النتائج الباهرة في عدد من المجالات الحيوية التي لها صلة مباشرة بحياة الإنسان مثل مشكلات البيئة وحياة الإنسان وبخاصة فيما يتعلق بالتميز العرقي وحقوق الأقليات ووضع المرأة وحماية المستهلك والتصدي للفساد وغيرها.فضلاً عن دوره في ممارسة الضغوط على الدولة للاهتمام بتلك الأمور من جانب المطالبة باسم الشعوب بالمشاركة في اتخاذ القرار وتنفيذه تحقيقاً لمبادئ الديمقراطية وأصل الحكم الديمقراطي لأن أنشطة المجتمع المدني أنشطة طوعية تختلف عن أنشطة الحكومة والأنشطة السياسية والاقتصادية والمالية المتعلقة بأخلاق السوق لأنها تبحث وراء الخير والصالح العام.ويشير د/ أحمد أبو زيد إلى أن مصير العالم لم يعد رهينة الصراع بين قوتين عظيمتين كما كان الحال حتى انهيار الإتحاد السوفيتي ، معتبراً هزيمة منظمة التجارة العالمية في سياتل مؤشراً واضحاً على قيام قوة عالمية ثالثة لها القدرة على التصدي لنفوذ وهيمنة قادة العالم السياسيين والاقتصاديين والحد من هذا النفوذ وتلك الهيمنة ، بحيث اضطرت المنظمة إلى التراجع وإلى أن يأخذ المؤتمر في الاعتبار مطالب الطبقات والشعوب الفقيرة التي تعبر عنها المنظمات غير الحكومية وهذه القوة الثالثة هي المجتمع المدني الذي بدأ يوحد الصفوف على مستوى العالم ويتخذ بذلك طابع عالمي .أما نيكارول بيرلاس (Nicarol .Perlas ) رئيس مركز التنمية البديلة فقد ذكر في مقال نشر في المجلة الألمانية (INFO3) بأن العالم بعد أن كانت تتحكم فيه قوتان هما الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية أصبح هناك ثلاث قوى هي ( المصالح الاقتصادية الكبرى ، والحكومات القوية ، والمجتمع المدني الكوكبي) وفي ظل الثورة المعلوماتية وتكنولوجيا الاتصال التي جعلت أمر التواصل مع العالم أسهل عن طريق شبكة الانترنت ، فإن الصفوف تجمعت وشاركت في مسيرات الاحتجاج الجماعي ضد منظمة التجارة العالمية أثناء مؤتمر سياتل بحوالي خمسون ألف ناشط من مختلف دول العالم وكان يقف ورائهم بغير شك ملايين من الناشطين الذين لم يتمكنوا من الذهاب بأنفسهم إلى مقر انعقاد المؤتمر.والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا هو : هل قلمت مؤسسات المجتمع المدني في اليمن بدورها في محاربة الفساد والحفاظ على الثوابت وإرساء مبادئ حب الوطن ، وهل شاركت في حل مشكلات البيئة والقضاء على البطالة ومشكلات التعليم وحقوق الإنسان والسعي نحو تقدم الوطن ورقيه وإصلاح أفراد المجتمع وتوجيههم التوجيه السليم الذي يجعل منهم منتجين يساهمون في اقتصاد البلاد ويساعدون في ارتقاء اليمن إلى أن تصل إلى مصافي الدول المتقدمة؟والجواب قد لا يحتاج إلى تخمين أو غيره فالواقع أن بعض مؤسسات المجتمع المدني في اليمن رغم تعددها وتنوع أنشطتها وحرية الممارسة التي كفلها الدستور لها رغم هذا كله فإن بعضها لا تقوم بواجبها في خدمة المجتمع كما هو المعول عليها.ومالم تغير مؤسسات المجتمع المدني من أحوالها وتصلح من شأنها بحيث تستغل المناخ الديمقراطي الذي تتمتع به وتبرز أنشطتها ويكون لها مشاركة فعلية فعالة تحافظ على المكاسب الوطنية وتحمي المنجزات وتسعى نحو التقدم والتطور في شتى مناحي الحياة، فإنها ستصبح حبراً على ورق ومسميات ليس لها معنى ولن تمثل في يوم من الأيام لا حرفاً ولا رقماً.والأمل معقود بها باعتبار أنها تمثل قوة ثالثة في المجتمع اليمني .