محمد مرشد ناجيدعونا في البدء أن نخص عبد الرب تكرير الأب بكلمة من الكلمات التي نكتبها في هذا المقال.عبدالرب تكرير الأب من مواليد (أبين)، وفي شبابه نزح إلى (لحج الخضيرة) ومكث فيها مدة طويلة كان خلالها يعمل مزارعاً في مزارع الأمير أحمد فضل (القمندان)، ويمارس الغُناء مع مطربيها.وانتظرنا من أحمد تكرير المُقيم في مدينة (الحديدة) أن يمدنا ببعض التفاصيل عن نشاط أبيه الفني أثناء إقامته في (لحج) بلد الغناء، ولكنه لم يفعل فلجأنا إلى ما نعلم عن الأوضاع الفنية الغُنائية في الثلاثينيات من القرن الماضي.وفي صغري تمكنت من رؤية تكرير الأب بصحبة المطرب الشهير عمر محفوظ غابة في إحدى (المخادر) في عدن.وأذكر أنني في مطلع الأربعينيات سمعت إسطوانة يغني فيها تكرير الأب مع المطرب عمر محفوظ غابة، وسجلت هذه الإسطوانة في دمشق العربية على تخت الموسيقى السوري نوري الملاح، وكانت الأغنية شهيرة _ وقتذاك _ من ألحان (القمندان) :يا حبيبي دلا بي تدلى***حِس قلبي من الهجر تعبانولنعد إلى صاحب الذكريات الفنان أحمد تكرير، الذي رأيته لأول مرة في عدن الخمسينيات مصاحباً للمطرب القدير محمد سعد عبد الله في حفلة عرسٍ (مخدرة) كعازف كمنجة.وفي مدة هذه المصاحبة استطاع بقوة الاستيعاب لديه أن يتعرف على أنواع الغُناء المحلي القديم، والغناء التجديدي الذي قام به بن سعد كواحدٍ من خمسة أبناء عدن كان لهم الريادة التجديدية على المنطقة اليمنية كل بحسب موهبته وقدراته الفنية.وفي الستينيات أسس الفنان أحمد تكرير مع بعض العناصر الشابة الفرقة العربية للموسيقى، وتصادف ذلك مع حفلاتي السنوية التي أقيمها غالباً على مسرح (البادري)، فآثرت مشاركة الفرقة في الحفلات تشجيعاً لها، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تجد الفرقة نفسها في مواجهة جماهيرية غفيرة.ومن خلال (البروفات) الموسيقية اليومية مع الفرقة، تعرفت على مواهب قائدها الفنان أحمد تكرير في الحفظ للموسيقى والألحان من أول مرة لكل أغاني الحفلة، وعلى عزفه القوي على آلتين الكمنجة والعودة.ولفت نظري في الفرقة عازف الإيقاع المرحوم أنور راجح الذي لم يتعبني قط في النقلات الإيقاعية لألحان القصيدة، ولم أرَ مثله من قبل ولا من بعدإلا الأخ فضل ميزر الذي اختبرته في ألحان القصيد في حفلات الإعلام في (جيبوتي) في السبعينيات.الفنان أحمد تكرير القائد باقتدار للفرقة الموسيقية، والعازف المتمكن، وأشياء أخر قلناها وسوف نكتشف المزيد من مواهبه على الطريق، ومنها هذه المفاجأة :عندما دُعيت لحضور الذكرى الأولى لثورة سبتمبر عام 1963م من قبل الدولة، أقمت حفلتين في (صنعاء) و( الحديدة)، وتوجهنا على نفقة النقابة وفي الحفلة التي حضرها مسئولون وضباط من الجيش وجمهور كبير جداً.. طالب الحاضرون بأغنية (يَسكْ) وهي كلمة تركية تعني منع التجوال.. حاولت الاعتذار لقدم الأغنية "تعود في منتصف الخمسينيات" ولكن دون جدوى والجمهور يلح في طلبها. وهنا همس في أذني أحمد تكرير الجالس إلى جانبي قائلاً :سأعزف المقدمة الموسيقية، وموسيقى اللحن وعليك الباقي.وهكذا قدمت الأغنية، وكنت محرجاً من الجمهور، وأسأل نفسي تُرى كيف ظل التكرير حافظاً للأغنية كل هذا الوقت وهي لا تعني شيئاً له.المفاجأة الثانية :وفي الثمانينات عندما زار عدن الصديق الفنان الكبير أبوبكر سالم بلفقيه، وحضر المطربون المقيل الذي اقامته الدولة على شرفه.وفي هذا المقيل غنى الجميع وغنى الضيف العزيز الذي غاب عن عدن أكثر من عشرين سنة، ولم يبقَ أحد لم يغن.وخيّم الصمت فقال الرئيس (سمّعونا ما لكم؟) فأخذ أحمد تكرير العود لمحبة بينه وبين (أبو أصيل) ودهشنا كلنا لجمال صوته لأننا لم نسمعه يغني لأكثر من 20 سنة من قبل، وهمس العزيز المرحوم أحمد قاسم في أذني ( كيف تشوف التكرير؟! حاجة عجيبة، قلت عجيبة فعلاً!!المفاجأة الثالثة :ولسبب ما في أواخر الثمانينيات حين كنت في المنفى الاختياري في صنعاء كمستشار لوزير الثقافة، فكرت في الانتقال إلى (الحديدة)، اتصلت بالصديق الدكتور أحمد محمد الأصبحي، وهو بدوره مشكوراً هاتف الرجل الفاضل الأستاذ/ عبدالرحمن محمد عثمان محافظ الحديدة، الذي هيأ لي السكن ولوازمه، وما نسيت ولن أنسى له هذا الجميل، مقابل الاستشارة الفنية.وفي الحديدة دهشت لأن أحمد تكرير هوالملحن لكل الأعمال الفنية.وأسمع بعد ذلك أنّه يحي حفلات الأعراس في (الحديدة) وفي خارجها.ولو شئنا أن نستمر بالمفاجآت الفنية لأحمد تكرير لاحتجنا إلى أوراق كثيرة، ولكننا نقدمه كنموذج لأولئك الذين يمدحون أصدقاءهم الدارسين للموسيقى، ويبالغون في هذا المدح لدرجة (القرف) بلهجة عرب مصر.. وفي النهاية ما هي مؤهلات أحمد تكرير.أمي .. أي لا يقرألا يعرف أي شيء من أمور الموسيقى.الشيء الوحيد الذي تعلمه هو كيف يضبط أوتار العود.وفي مسألة الدراسة الموسيقية ربما نعود إليها إذا ما استدعى ذلك ونقدم قائمة بعظماء الموسيقى في العالم الذين لم يدرسوا الموسيقى.