مع الأحداث
عنوان هذه المقالة هو عنوان آخِر كتب الأستاذ الدكتور جورج قرم. وقد تحدثت عنه مع زملاء آخرين في مركز عصام فارس بسنّ الفيل في الأسبوع الماضي. يحاول الدكتور قرم في كتابه الجديد الإجابة عن ثلاثة أسئلة مترابطة: الأوضاع العالمية الراهنة فيما يتعلق بالملف الديني، وكيفيات استغلال الدين من جانب الجهات العالمية، والحروب الدينية الوسيطة والحديثة في أوروبا، ومحاذير إثارة المسألة الدينية في الغرب من جديد.في المسألة الأولى، يلاحظ الدكتور قرم وجود فئات جديدة في الغربين الأميركي والأوروبي، تريد نقض المنجزات الثقافية والسياسية التي تحققت في عصر الأنوار وما تلاه من خلال الثورة الفرنسية. وقد ذكر قرم بين هؤلاء مدرسة ليوشتراوس التي خرج من تحت عباءتها المحافظون الجدد، وبعض أهل اليمين واليسار المعادين للثورة الفرنسية وقيمها. ووسط هذه الأجواء التي اقترنت بانهيار الاتحاد السوفياتي، وبروز الأوحدية القطبية، واقترانها بأطروحة “صِدام الحضارات”، لاحظ قرم “استغلال الدين” في هذه الحركة الالتفافية على الحداثة وقيمها، وفي معاداة الإسلام. وبعد هذا التمهيد الضروري استناداً إلى هذين الإدراكين، انصرف قرم لتبيان مساوئ العودة إلى الدين بديلاً لقيم العقلانية والحداثة وحقوق الإنسان. وفي هذا السياق ذكر الحروب الدينية الأوروبية التي أدت إلى الانقسامين الأول بين الكاثوليك والارثوذكس والثاني بين الكاثوليك والبروتستانت. وكأنما أراد الدكتور قرم أن يضع قارئه الفرنسي والعربي بين أحد الخيارين: خيار العودة للدين المقترن بالحروب وانتهاك إنسانية الإنسان، أو الإصغاء لقيم الثورتين الأميركية والفرنسية والتي سادت على تقطع خلال المئتي عام الماضي. والواقع أن هناك أمرين اثنين: قيم التنوير التي صارت عالمية، ولا يمكن تجاهلها ولا القفز من فوقها في المجال العالمي والإنساني ـ وهذا الثوران الديني في سائر الأديان ومنها البروتستانتية والإسلام. والحق أن جانباً من الثوران الديني هذا يصطدم بقيم الحداثة. والحق أيضاً أن هناك من يستغل هذا الثوران. لكن الثوران نفسه ليس مصطنعاً، ولا أنتجه المحافظون الجدد، وأعداء الثورة الفرنسية وقيمها. فلأن النهوض الإحيائي البروتستانتي قوي وظاهر، انصرف الجمهوريون المحافظون إلى استغلاله وعلى رأسهم ريغان ثم بوش وإدارته. أما المحافظون الجدد والذين دخلوا في هذا الاستغلال أيضاً ـ فهم يساريون راديكاليون في الأصل، ثم ارتدوا وشكّلوا يميناً جديداً. وقد زالوا تقريباً الآن من الإدارة البوشية، وسيزولون من المسرح الثقافي. لكن الإحياء الإنجيلي صاعد ومستمر، وهو يصطدم بالقيم الليبرالية الفردية في الغرب، وبالكاثوليك خارج الولايات المتحدة وبالإسلام في كل مكان. وهكذا لدينا هنا ثلاث قضايا التنوير وقيمه التي ينبغي الحفاظ عليها، وقضية الإحياء الديني، الذي ينبغي تفهمه واستيعابه والضغط عليه من أجل التلاؤم، وأخيراً مواجهة المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يُعاني منها اجتماعنا الثقافي والإنساني والسياسي. والواقع أن هذه المشكلات بالذات، هي التي تشكّل قاسماً مشتركاً يمكن أن نبدأ منها للتواصل والاستيعاب مع الإحيائيين الدينيين في مجالنا الحضاري. إذ إن هؤلاء حسّاسون جداً تجاه التدخل الأجنبي في مسائلنا السياسية والثقافية والإستراتيجية، وهم يعتقدون أن هناك فئات اجتماعية واسعة ومتغربة لدينا، وهذه لا تهمها قضايا الهوية والانتماء والوجود السياسي المستقل، والكرامة الوطنية والدينية. وهذه الاتهامات أو الانطباعات ليس من الضروي أن تكون صحيحة، لكن هناك تباعداً يتسبب بها، بحيث يمضي هؤلاء بعيداً فيتحول بعضهم إلى انتحاريين ويمضي جماعة “التنوير” بعيداً فيهاجرون للغرب بالجسد أو بالروح أو بهما معاً. إن ما يفيده كتاب د. قرم أن هذا “التنوير” مهدّد في الغرب اليوم، فكيف به في الشرق، وهو الذي أتى في ذيل أو مع الامبريالية والحداثة، وبذلك فإن مواجهة المشكلة شأن عالمي، وليس مقصوراً على المجال الثقافي والسياسي العربي والإسلامي. [c1]* عن / صحيفة ( المستقبل) اللبنانية .[/c]