بيروت / 14 أكتوبر / جورج جحا :كتاب الشاعر محمود درويش الأخير «اثر الفراشة.. «يوميات» لم يكن «اليومي» فيه سوى مزيج من الغور والتساؤل الفكريين في الأشياء والنفس والخروج من ذلك بشعر حتى في الفكري وفي اليومي.وكل ما نقرأه في كتاب الشاعر الكبير -عندما يصور المشاعر والأفكار وحين يستنطق الأشياء- نجده يسيل شعرا يطل من حكمته التي نتجت عن الأيام في وجهها الفلسطيني والإنساني.. وهما وجه واحد غالبا.هذا الشعر يبدو حافلا بحزن عميق عريق يسري هادئا كحكمة مكتسبة من شيب الروح وما تخمر فيها. انه شيب بلا شيخوخة يشبه الشباب لكنه أكثر رصانة وقد امتزجت بعض مرارته بهدوء التأمل الفكري الذي خفف من قسوتها ومع خيط «تصوفي» يطل بارزا احيانا.في الكتاب اذن وباستمرار شعر حيث لا شعر «رسميا».. وشعر تقليدي وحديث هو «شعر شعر» جهرا وإضمارا. والكتاب كما وصف هو «صفحات مختارة من يوميات كتبت بين صيف 2006 وصيف 2007 .»الكتاب الذي جاء في 386 صفحة متوسطة القطع صدر عن دار رياض الريس للكتب والنشر في بيروت.الأسطر القليلة التي حملها غلاف الكتاب تنطق بكثير مما فيه من محتوى روحا ونهج تأمل. يقول الشاعر «الفارق بين النرجس وعباد الشمس هو الفرق بين وجهتي نظر.. الأول ينظر إلى الماء ويقول.. لا انا إلا انا. والثاني ينظر الى الشمس يقول.. ما انا الا ما اعبد. وفي الليل يضيق الفارق ويتسع التأويل.»القصيدة الأولى وعنوانها «البنت -الصرخة» تصل الى النفس كالسكين. أنها تستدعي لوحة ادوارد مونش «الصرخة». هذه اللوحة فيها صراخ مطلق وهو يلف العالم. أما القصيدة فهي مرتبطة بالمحدد.. بواقع أليم وتنضح حزنا يجب ان يلف العالم. لكنها على حدتها تكاد تكون غير مسموعة.. فالعالم لم يعد يسمع هذا النوع من الصراخ. ومع ذلك فقد «رسمها» درويش كأنها دوي هائل مكتوم يزلزل الوجدان.يقول الشاعر الفلسطيني الكبير:«على شاطىء البحر بنت. وللبنت أهل/ وللأهل بيت وللبيت نافذتان وباب/ وفي البحر بارجة تتسلى/ بصيد المشاة على شاطىء البحر/ اربعة خمسة سبعة/ يسقطون على الرمل والبنت تنجو قليلا/ لان يدا من ضباب/ يدا ما الهية اسعفتها فنادت..أبي/ يا أبي قم لنرجع فالبحر ليس لامثالنا ( لم يجبها ابوها المسجى على ظله) في مهب الغياب../ دم في النخيل دم في السحاب../ يطير بها الصوت اعلى وابعد من/ شاطىء البحر. تصرخ في ليل برية/ لا صدى للصدى/ فتصير هي الصرخة الابدية في خبر/ عاجل. لم يعد خبرا عاجلا/ عندما/ عادت الطائرات تقصف بيتا بنافذتين وباب «في قصيدة «في الغابة» نقرأ مع درويش: «لا اسمع صوتي في الغابة/ خلت الغابة من جوع الوحش.../ وعاد الجيش المهزوم او الظافر لا فرق/ على اشلاء الموتى المجهولين الى الثكنات/ او العرش/ ولا اسمع صوتي في الغابة حتى لو/ حملته الريح الي ّ وقال لي../ هذا صوتك.. لا اسمعه...«لا اسمع صوتي في الغابة حتى لو/ وقف الذئب على قدمين وصفق لي../ « اني اسمع صوتك فلتأمرني «/ فاقول.. الغابة ليست في الغابة/ يا ابتي الذئب ويا ابني ( لا اسمع صوتي الا ان) خلت الغابة مني/ وخلوت انا من صمت الغابة. «في «غريبان « يقول الشاعر: «يرنو الى أعلى/ فيبصر نجمة/ ترنو اليه ( يرنو الى الوادي) فيبصر قبره يرنو اليه/ يرنو الى امرأة تعذبه وتعجبه/ ولا ترنو اليه../ يرنو الى مراته/ فيرى غريبا مثله/ يرنو اليه »في قصيدة «ما أنا الا هو» يقول الشاعر:«بعيدا وراء خطاه/ ذئاب تعض شعاع القمر/ بعيدا امام خطاه/ نجوم تضيء اعالي الشجر/ وفي القرب منه/ دم نازف من عروق الحجر../ لذلك يمشي ويمشي ويمشي/ الى ان يذوب تماما/ ويشربه الظل عند نهاية هذا السفر../ وما انا الا هو/ وما هو الا انا/ في اختلاف الصور.»في «هدير الصمت» شعرية في نثر واجواء تذكر بجبران خليل جبران. يقول:«اصغي إلى الصمت.. هل ثمة صمت.. لو نسينا اسمه وارهفنا السمع إلى ما فيه لسمعنا اصوات الارواح الهائمة في الفضاء والصرخات التي اهتدت إلى الكهوف الأولى. الصمت صوت تبخر واختبأ في الريح وتكسر اصداء محفوظة في جرار كونية...»في قصيدة «حفيف» تصوير هادىء لعالم النفس ومايعبر عنه البعض بمصطلح «نفس الكون» حيث يقول الشاعر: «مصغ إلى وحي خفي وارهف السمع إلى صوت اوراق الشجر الصيفي.. صوت خفر مخدر متحدر من اقاصي النوم.. صوت شاحب ذي رائحة حنطية قادم من عزلة ريفية.. صوت متقطع موزع بتقاسيم مرتجلة على أوتار نسيم متمهل...»في «ما يشبه الخسارة» يقول درويش: «صعد من هذا الودي على درجات نفسي تقريبا. اصعد الى ربوة عالية لارى البحر. لا اغنية تحملني ولا سوء تفاهم مع الكينونة. اتسلى بمراوغة ظلي وبالتفكير المريح في مال قوس قزح الذي يلهيني -فجأة- عن ظلي المشتبك بعوسجة جرحته ولم ينزف...»قصيدة «اثر الفراشة» تحفل بسمات برزت في مجالات كثيرة في مواد الكتاب. انها «اشراقية» الى حد بعيد. يقول درويش : «اثر الفراشة لا يرى/ اثر الفراشة لا يزول/ هو جاذبية غامض/ يستدرج المعنى وترحل/ حتى يتضح السبيل/ هو خفة الابدي في اليومي/ اشواق الى اعلى/ واشراق جميل/ هو شامة في الضوء تومىء/ حين يرشدنا الى الكلمات/ باطننا الدليل/ هو مثل اغنية تحاول/ ان تقول وتكتفي/ بالاقتباس من الظلال/ ولا تقول.../ اثر الفراشة لا يرى/ اثر الفراشة لا يزول.»
|
ثقافة
محمود درويش في «أثر الفراشة».. غور فكري ونفسي بنضج حزين
أخبار متعلقة