نشرت جريدة عكاظ في عددها الصادر بتاريخ 15/1/2006م بعض المقابلات مع بعض الناجين من حادث التدافع على جسر الجمرات في حج هذا العام، والذين لم يكن خلال حديثهم ما يوحي بأنهم في وضعية من الفرح لما منَّ الله عليهم به من النجاة من الموت بقدر ما كانوا مفجوعين ومأخوذين بالآهات و الحسرات من عدم موتهم في ذلك التدافع الذي يعتبرونه - أي الموت في تلك الأماكن المقدسة - أمنية غالية وفرصة لا تقدر بثمن، إذ كانوا يعتقدون أن الموت تحت الأقدام دهساً في تلك اللحظات إنما يشكل أقصر الطرق لطرق أبواب الجنة بما يختصر عليهم كافة السبل الأخرى التي يتوجب عليهم أن يسلكوها للوصول إلى النعيم المقيم والفوز بجوار الله بالآخرة. المحزن في مثل تلك الأماني أنها لم تقتصر على مجرد تمني الموت بتلك الأماكن بطريقة عادية لا يد للإنسان فيها حتى يمكن اعتبار من مات بها من الشهداء، بل تعدى ذلك إلى محاولات الانتحار المتعمد من قبل بعض الحجاج في أماكن عديدة من المشاعر المقدسة طمعاً منهم في الحصول على موت القداسة الذي ظلوا يحلمون به قبل مجيئهم إلى الحج،إذ ذكرت الجريدة في معرض مقابلتها لبعضٍ من أولئك الحالمين بالموت المجاني أن إحدى من قضوا على جسر الجمرات الأخير كانت حاجة مصرية سبق وأن حاولت الانتحار برمي نفسها من فوق جبل الرحمة اعتقاداً منها بأن موتها بتلك الطريقة وفي ذلك المكان المقدس يضمن لها الشهادة التي تيسر لها الوصول إلى الجنة من أقصر طريق. هذا يعني أننا أمام مشهد من حالات الهيام الخرافي بالموت انتحاراً مما يضيف إلى أسباب ما يحصل من وفيات بالمشاعر المقدسة من التدافع عند رمي الجمرات وحمل الأمتعة على الرؤوس ورميها في طرق الحجيج وافتراش الأرض أسباباً سيكولوجية أخرى لا تتعلق بجودة التنظيم من عدمه ولا بالتوسيع الفقهي لأداء الشعائر من عدمه أيضاً بقدر ما تتعلق برغبة عدد لا بأس به من أولئك الحجيج بالموت بالمشاعر المقدسة بأية طريقة كانت حتى ولو كانت من قبيل رمي الأنفس من علوٍ ظناً منهم أن ذلك موت مقدس ثوابه الجنة. هذه الأماني بموتٍ مقدسٍ تعتمد في الأساس على ثقافة تنهل من تأويل للتراث يضرب من الخرافة بسهم وافر، تأويل يقدم رؤية خاصة تفصل بين علوم الدين والدنيا كما تفصل تبعاً لذلك بين أمور الدنيا والآخرة، بحيث يقع الإنسان وفقاً لذلك التأويل في أدنى سلم اهتمامات التراث، وهو من ثم لا يعتبر حياة الإنسان على هذه الأرض إلا مطية لسفر أو محطة على طريق ذلك السفر، هذا التأويل اعتمد على التزهيد في الحياة الدنيا وجعلها مجرد جيفة تتنازعها الكلاب، كما جعل القرابين البشرية أنجع طريق وأسهله للوصول إلى آخر محطة من محطات ذلك السفر وأسعدها بدلاً من الانتظار حتى يأتي الموت عن طريقه الطبيعي. يتحدد المنطلق الأساسي لهذه الرؤية المقزِّمة للإنسان باعتبار أن غاية الوجود الإنساني على الأرض تكمن في عبور هذه الدنيا عبور الغرباء عبر التطلع إلى فلاح دائم وفوز خالد، بدلاً من تحقيق مثل هذه الغاية أولاً عن طريق الوجود الإنساني الأمثل في الواقع والمجتمع، ومن يقتاتون على مخرجات مثل ذلك التأويل فسيبحثون بطبيعة الحال عن التخلص من حياتهم سريعاً وصولاً إلى الفلاح المتصور عبر تلك الأمنيات التي عبر عنها أولئك النفر من الحجاج الذين رأوا أنهم فوتوا على أنفسهم فرصة الموت دهساً تحت الأقدام. هذه القراءة التأويلية التي أنتجت مثل تلك النظرة المتدنية لقيمة الحياة تمت في عصور الذل والانكسار العربية وفي ظل يأسٍ كاملٍ من تحقيق أي فلاح أو فوز في الماضي العربي نتيجة للهزيمة السياسية والاقتصادية والحضارية بشكل عام، اضطر من عايشوا ذلك الواقع من منظّري الفكر العربي إلى الانغماس في ردة فعل غنوصية رامت المطلق والفناء فيه، رغم أن النصوص الأصلية لم تؤكد على ضرورة المحافظة على شيء قدر تأكيدها على المحافظة على الحياة الإنسانية باعتبارها جوهر الخلد الحاضر الذي يروم تحقيق الفوز والفلاح على هذه الأرض، فقد قال تعالى ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماكما جاء الأمرالقرآني بالأخذ بالدنيا وبأسباب عمارتها بأسلوب النهي عن نسيانها وهو أبلغ في أمر المحافظة عليها من أسلوب الأمر المباشر إذ قال تعالى ولا تنس نصيبك من الدنيا، بل نهى الإسلام عن مجرد تمني الموت حتى في أشد حالات المعاناة من الأمراض ففي الحديث الصحيح الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنياً الموت فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي) أما في الحديث الآخر الذي رواه أبو هريرة فقد قال صلى الله عليه وسلم (لا يتمنى أحدكم الموت إما محسناً فلعله يزداد وإما مسيئاً فلعله يستعتب). نقلا عن جريدة "الرياض" السعودية
نماذج من حالات غياب العقل العربي
أخبار متعلقة