د. عبد الهادي التميمي كانت مبادئ الفكر الديمقراطي وأسس وموجبات استخدام القوة العسكرية, منذ رسوخ تلك المبادئ وتطور تلك الأسس والاليات, تناقضان بعضهما الاخر وتسعى كل واحدة منهما الى الغاء الأخرى لأسباب عديدة ومتنوعة يعتقد مناصرو كل جهة أنها كافية لتبرير ذلك الإلغاء. ولعل أهم ما يميز القرن العشرين, بعد سنوات طويلة من الاستعمار والهيمنة الاوربية الغربية على دول وشعوب عديدة في العالم, أنه وفر زخما شديدا ومتواصلا للتخلص من الاستعمار الذي ارتدى عباءة الفكر الديمقراطي في العديد من مراحله, لاتساع الدعوة لتطبيق مبادئ الديمقراطية, التي تنطوي على الحرية وحقوق الانسان والتحرر والتنمية, رغم أن القوة العسكرية أهلكت الملايين في حربين عالميتين وعشرات الحروب الاقليمية والمحلية في العالم. وفي الوقت الذي رفعت فيه الثورة الفرنسية لواء المساواة والعدالة والحرية تصدرت القوة الفكرية الاميركية عقب الحرب العالمية الثانية, بتأييد ودعم أوربي, معسكر الفكر الديمقراطي والالتزام بنشره وتطبيقه في مناطق العالم الاخرى. وقد أفلحت في التصدي للفكر الشمولي والشيوعي الذي قاده الاتحاد السوفيتي السابق في اطار صراع امتد لسبعين عاما تقريبا منذ الثورة البلشفية, الشيوعية, عام 1917 وحتى انهيار الفكر الشمولي ومنظومة الاتحاد السوفيتي وحليفته الكتلة الشرقية, ابتداء من عام 1989, أمام الفكر الديمقراطي والمطالبة باحترام حقوق الانسان وحريته في الاختيار وبضمنها حرية التعبير والقرار السياسي والتعليم والتمية الاقتصادية والانفتاح على الثقافات والتجارب السياسية والاقتصادية والمهنية في المجتمعات الاخرى. ولم تستخدم الولايات المتحدة أو الغرب عموما القوة العسكرية بشكل مباشر في الصراع ضد الفكر السياسي الشمولي, رغم أنها والاتحاد السوفيتي خاضا حروبا بالانابة من خلال دول حليفة لهما في مناطق عديدة من العالم في أفريقيا والوطن العربي وأفغانستان وجنوب شرقي آسيا وأميركا الجنوبية.ولم تواجه قوات سوفيتية أو أوربية شرقية في حرب مع قوات أميركية أو أوربية في أي مكان في العالم بل ان كل طرف يسرع حالما تصبح مثل تلك المواجهة وشيكة الى التراجع المحسوب والمتفق عليه مع الطرف الاخر لتجنب التدمير المتقابل. وهناك أمثلة كثيرة على ذلك منذ المواجهة الوشيكة بسبب شحنة الصواريخ السوفيتية الباليستية الى كوبا وحتى حرب تشرين الاول العربية الاسرائيلية التي أقتربت فيها القوتان العظميان من شفير المواجهة المسلحة. وقد طورت القوتان مفهوما فكريا واستراتيجيا وعسكريا, والذي اتخذ تسميات عديدة أبرزها الردع المتقابل أو الرعب المتبادل أو الردع النووي, ساعدهما في المحافظة على توازن "الرعب, وبالتالي تجنب المواجهة العسكرية المباشرة.وقد اضطلع الاعلام والتثقيف والترغيب من خلال المساعدات الاقتصادية والتعليمية والسياسية بالدور الرئيسي في المواجهة بين الفكرين الشمولي الشيوعي والديمقراطي الحر. وتسمية "الديمقراطي الحر" هي تعبير أميركي غربي لوصف النظام السياسي والاقتصادي الذي تطبقه الولايات المتحدة الاميركية والدول الاوربية الغربية في بلدانها واستطاعت من خلال الاعلام والترويج له الى إحاطته بصفات الايجابية والجذب والبهرجة. وقد لاقى الفكر رواجا لأن البديل الوحيد المتيسر للدول والشعوب في الأساس نظامان أو فكران لا ثالث لهما: الشمولي الشيوعي والمحلي الشخصاني, كلاهما يستخدم القوة العسكرية والامنية الداخلية للاستقواء على أبناء الشعب ويرفض المعارضة والنقد ويلجأ الى القمع والالغاء لديمومة السلطة بيد حاكم أو فئة ضيقة مستفيدة, فيما يعاني المواطنون بدرجات متفاوتة من فقر وتخلف وجهل. وقد استغل مناصرو الفكر الديمقراطي تلك الحقائق لتقويض أركان مثل تلك الأنظمة والعمل على تقليص ومحو دور الفكر العسكري في ادارة البلدان, فتحول الفكر الديمقراطي والقوة العسكرية الى نقيضين متنافرين لا يتعايشان ويسعى كل واحد منهما الى هزيمة الاخر والهيمنة عل مجريات الأمور. وروج دعاة الديمقراطية لمفهوم ارتباط القوة العسكرية بالقمع وحرمان الشعوب من الحرية والديمقراطية.غير أن القرن الواحد والعشرين, وبعد عشر سنوات من "هزيمة" الفكر المتقابل بانهيار المنظومة السوفيتية الشيوعية الاشتراكية, شهد نكوصا في أسس الفكر الديمقراطي وطريقة وأساليب نشره وتعزيزه لدى الدول والشعوب. قادت الولايات المتحدة الاميركية ذلك النكوص الخطير, وخصوصا بعد استلام اليمين المسيحي-الصهيوني المتطرف لزمام السلطة في البيت الابيض مع مجئ جورج بوش الابن الى سدة الحكم في واشنطن. ولم يعد هناك تناقضا بين الفكر الديمقراطي والقوة العسكرية التي وظفتها الادارة الاميركية لهزيمة و "قمع" الاخرين المعارضين للسياسة الاميركية وسحقهم بقوة هائلة ماحقة, وفق نظرية الصدمة والترويع, كي يفقدوا أية مقاومة محتملة ويستسلموا لتلك السياسة. والتبرير لاستخدام القوة الماحقة هو لنشر الديمقراطية وأفكارها و"تحرير" الشعوب من أنظمتها السياسية.إن أزمة الولايات المتحدة الاميركية وتهاوي الفكر الديمقراطي يعود بالتحديد الى تلك المحاولة المستميتة لخلق تزاوج بين نقيضين: الفكر الديمقراطي والفكر العسكري. كانت النتيجة خسارة و"طلاق" بين غالبية من أولئك الساعين لاعتناق الديمقراطية وتطبيق مبادئها, حسب المفهوم الاميركي, وبين المثال, العالم المتمدن الحر الديمقراطي, وبالتحديد الولايات المتحدة الاميركية. لا شك أن هناك مجاميع كثيرة ما تزال تؤمن بالفكر الاميركي, ولكن ايمانها بدرجة كبيرة نابع من "المكابرة" ومحاولة ايجاد تبريرات ومسوغات لاستخدام أداة القمع, القوة العسكرية, بشكل كاسح تدميري تحت عباءة الترويج للديمقراطية.لا يوجد أدنى شك أن غزو العراق واحتلاله قد ألحق خسارة جسيمة بالفكر الديمقراطي وقوض سمعة الولايات المتحدة الاميركية راعية ذلك الفكر, اذ لا يمكن لاي تبرير أو مسوغ أن يجعل الحاق دمار فادح بالعراق وقتل عشرات الالاف من أبناء شعبه مصدر جذب للفكر الديمقراطي المزعوم أو أن يجعل الولايات المتحدة الاميركية مثالا يحتذى به في أي مكان في العالم. وهكذا أخفق النقيضان الفكريان في الترويج للنموذج السياسي المشوّه والقائم اليوم في العراق. كاتب عراقي
نقيضان فكريان لتعزيز نشاز سياسي
أخبار متعلقة