أحمد الحبيشيتوقفت عملية السلام طوال فترة حكم نتنياهو، وتوقفت معها العمليات الانتحارية، ووصل الوضع إلى مرحلة انسداد تام انتهت بوصول إيهود باراك مرشح حزب العمل بأغلبية بسيطة أضطرته إلى التحالف مع بعض الأحزاب الدينية الرافضة لاتفاقات أوسلو ومدريد، وبدأ باراك خطوات عرجاء لإحياء العملية السلمية وسط ضغوط داخل حكومته الائتلافية مارستها الأحزاب الدينية المتطرفة التي طالما هددت بانسحابها من الحكومة، ثمّ عادت من جديد العمليات الانتحارية.. وتبعاً لذلك جاءت سياسة باراك مرتبكة ومتناقضة، حيث كان يتحدث عن السلام في خطابه السياسي، ويمارس غطرسة القوة وإرهاب الدولة عملياً بحجة الرد على العمليات الانتحارية، وإتهام السلطة الوطنية بدعمها والوقوف ورائها. فشل باراك في الجمع بين سياسة العصا والجزرة.. وتزايدت المطالبة باستقالته قبل إنهاء فترته الدستورية، وفعل ذلك بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية في أواخر عهد الرئيس كلينتون.. ثمّ جاء بعده أيريل شارون الذي انتهج - وما يزال - سياسة معادية للسلام تنفيذاً لبرنامجه الانتخابي الذي تعهد فيه تعطيل اتفاقات أوسلو ومدريد وتقويض السلطة الوطنية الفلسطينية بوصفها أبرز مخرجات تلك الاتفاقات.منذ اللحظة الأولى لوصوله إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية أدرك شارون أنّ إعلان الحرب على الفلسطينيين وسلطتهم الوطنية هي الوسيلة الوحيدة لتنفيذ أهداف برنامجه الانتخابي.. وهكذا جاءت حربه الجديدة ضد الشعب الفلسطيني أبشع من الحرب التي قادها ضد المقاومة الفلسطينية في لبنان عام 1981م، وجاءت مذابحه ومجازره الجماعية الأخيرة في أراضي السلطة الوطنية أفظع وأوسع من المجازر التي ارتكبها بحق الفلسطينيين في لبنان عندما كان وزيراً للدفاع.لم يخف شارون وغلاة اليمين في حزب الليكود رفضهم لاتفاقات أوسلو ومدريد، ولذلك فقد سعوا على الدوام إلى ضرب هذه الاتفاقات من خلال الحرص على تدمير السلطة الوطنية، وقطع الطريق أمام مفاوضات الحل النهائي المعنية بإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة.. ولذلك كانت حكومة الليكود ترد فوراً على أية عملية انتحارية تقوم بها المنظمات الفلسطينية التي ترفض اتفاقات أوسلو أيضاً مثل "حماس" و"الجهاد" ، ويكون هذا الرد موجهاً بشكل عنيف صوب البنية التحتية للسلطة الفلسطينية مثل المطارات وأجهزة الأمن والشرطة والمؤسسات الإعلامية والإدارية.وحين اضطرت السلطة إلى إنقاذ ما تبقى من بنيتها الأساسية التي حطمتها الآلة العسكرية الشارونية، وحماية مواطنيها من المجازر الدموية اليومية، فقد فعلت ذلك بوسائل مختلفة من بينها التوجه إلى المجتمع الدولي كي يتدخل بممارسة الضغوط على حكام تل أبيب لإيقاف حرب الإبادة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني ، وإجبار حكومة شارون على استئناف العملية السلمية.. بيد أنّ شارون لم يتردد في المناورة من خلال إملاء شروط تعجيزية لا تستهدف وقف الحرب ، بل توليد حرب أهلية داخلية بين السلطة الوطنية والفصائل التي ترفض اتفاقات أوسلو ومدريد ، وصولاً إلى استكمال تقويض السلطة الوطنية التي تعتبر إحدى أهم نتائج هذه الاتفاقات بأيدي الفلسطينيين أنفسهم!!لا ريب في أنّ السفّاح شارون نجح في تحقيق جزء كبير من أجندة حربه العدوانية المسعورة ضد الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية الصامدة حتى أصبحت دائرة الخيارات السلمية أمام السلطة تضيق أكثر فأكثر، ولم يبقَ أمامها سوى خيار تقديم المزيد من التنازلات من دون أفق واضح.. فيما يزداد حجم الفواتير المتراكمة التي ينبغي للفلسطينيين تسديدها في الظروف الصعبة الراهنة.. ويزيد من خطورة هذا الوضع انحياز الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مطلق إلى جانب حكومة شارون التي فرضت حصاراً خانقاً على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مكتبه بمدينة رام الله حتى الموت ، وتستعد بعد وصول حركة «حماس» الى السلطة لفرض حصار اقتصادي ومالي شامل على السلطة الفلسطينية كلها والشعب الفلسطيني بأسره .لم يكن أمام الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية في مثل هذه الظروف غير خيار واحدٍ يتمثل في الحفاظ على وحدته الوطنية ، وتفويت الفرصة على مخطط شارون الرامي إلى إشعال حرب أهلية داخلية بين الفلسطينيين ، تكون بديلاً عن حرب الإبادة التي يشنها ضدهم إن اضطر إلى إيقافها مكرهاً.. ولا ريب في أنّ هذا الخيار فرض على الشعب الفلسطيني بمختلف قواه السياسية ضرورة إعادة تقويم الوضع السياسي الإقليمي والدولي، والاتفاق على استراتيجية واضحة وأهداف محددة، ووسائل فعالة لتحقيقها، بما في ذلك صياغة خطاب سياسي واقعي جديد، يمتلك القدرة على إقناع العالم بأنّ حكام تل أبيب وعلى رأسهم السفاح أيريل شارون، هم الذين يرفضون السلام والتعايش مع الشعب الفلسطيني والشعوب العربية بأسرها، وليس العكس.ما من شك في ان هذه التحديات هي التي فرضت على حركة «حماس » الانخراط في العملية السياسية والتعاطي مع بعض آلياتها بدءأ بتفاهمات القاهرة عبر الوسيط المصري الوزير عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات العامة ، مرورا بإعلان ما تسمى الهدنة المؤقتة ، وانتهاءً بقبول المشاركة في الانتخابات التشريعية وفوزها بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي ، وهو الفوز الذي يؤهلها لتشكيل حكومة السلطة الوطنية الفلسطينية وما يترتب على ذلك من التزامات وتحديات يصعب على «حماس» من موقعها الجديد في السلطة تجاوزها أو تجاهلها أو التنكر لها .ما من شك في أن فوز «حماس» بقدر ما يفرض على الجميع واجب احترام ارادة الشعب الفلسطيني الحرة ، بقدر ما يفرض على «حماس» ايضا واجب احترام ارادة الشعب الفلسطيني الذي انتخب رئاسة السلطة الوطنية على قاعدة برنامج انتخابي يكتسب شرعيته من ذات الشرعية التي اوصلت «حماس» الى حكومة السلطة .والحال ان «حماس» السلطة ستختلف كثيراً عن «حماس» الشارع ، فالسلطة هي نواة الدولة الفلسطينية المستقلة التي يرفضها يمين الليكود ، والسلطة هي أحد ابرز منتجات اتفاقية اوسلو التي ترفضها حماس واليمين الاسرائيلي في آن واحد .السلطة الفلسطينية هي نواة دولة تحتاج الى البقاء والاستمرار .. واستمرار الرعاية والدعم من الدول العربية والمجتمع الدولي يأتي في مقدمة شروط بقاء واستمرار هذه الدولة التي تمثل السلطة نواتها الأساسية، وهو ما أدركته «فتح» عندما كانت تقود منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية ، وستدركه حتما «حماس» عندما حلت محل «فتح» بطريقة ديمقراطية .كان سهلاً على «حماس» اطلاق الشعارات والبيانات وصواريخ «القسام» عندما كانت في الشارع ، بينما كانت «فتح» تدفع من موقعها في السلطة ثمن كل ذلك.. لكن الوضع الآن تغير تماما ، فسوف يتعين على حكومة «حماس» مراعاة مسؤوليتها الأولى عن أوضاع الشعب الفلسطيني المعيشية في غزة والضفة الغربية، ومسؤولية السلطة والحكومة ازاء الأمن والاقتصاد وتوفير الرواتب للموظفين والجنود في اجهزة السلطة المدنية والعسكرية ومرافقها الخدمية، وتمويل المشاريع الاقتصادية بما يكفل استكمال بناء البنية التحتية للسلطة الوطنية بما هي نواة للدولة الفلسطينية وبما هي ايضا احدى منتجات اتفاق «اوسلو» وغيرها من الاتفاقات الدولية التي التزمت بها حكومة السلطة ، وعارضتها حركة «حماس» عندما كانت لا تعترف بها قبل الانتخابات الأخيرة.يبقى القول أن كثيرا من الحركات الثورية وصلت الى السلطة بالقوة ، ثم قامت بتغيير اوضاع الدول والحكومات والمجتمعات التي تولت شؤونها بوسائل ثورية و جذرية ، بيد ان انتزاع السلطة بالقوة لم يضمن بقاءً ابديا في السلطة للقوى الثورية التي مارست الديكتاتورية ، وقفزت فوق الواقع من خلال تصميم شعارات وتنفيذ مهمات غير ممكنة التنفيذ، لكن حركة «حماس» فازت في الانتخابات الأخيرة بطريقة ديمقراطية وهو امتياز تفردت به الثورة الفلسطينية، الأمر الذي لن يمكن حركة «حماس» أثناء قيادتها لحكومة السلطة من الإنفراد بها وممارسة الديكتاتورية وفرض وصايتها على المجتمع، ولن يكون بمقدورها القفز فوق الواقع، وتجاهل مفاعيله الداخلية والاقليمية والعربية والدولية، بمعنى انها معنية باحترام قواعد الشرعية التي اوصلتها الى قمة السلطة، فمن يكتسب ثقة الناخبين عبر صندوق الانتخاب، ويصل الى السلطة عبر شروطها الذاتية وقوانينها الموضوعية، يفقدها عبر صندوق الانتخاب ايضا، في حالة عدم مراعاة قواعد العملية السياسية وتجاهل شروط وأدوات السلطة ومعاييرها .
الثورة الفلسطينية في رحاب الديمقراطية 3 ـ 3
أخبار متعلقة