[c1]*التمرد الأول ولد هناك ..! * هناك حيث "الذاكرة الحجرية تستعيد بروقها وأزهارها، ينابيعها ومتاهاتها، ثوراتها وخموداتها"(1) إلى أصدقائي في صنعاء [/c] من مساويء الفكر العظمي (وبخاصة في شقه التقدمي) إنه جعل الوهم في متناول الجميع. وأول وهم روج له هو "وهم الحداثة". من الطائرة أرى. فضاء مفتوحا. نورا ساطعا بلا ضفاف. جبالا جرداء لا يحدها البصر قمما مكشوفة للريح. وديانا مدفونة في القاع. لا شجر لا ضباب ولا غيم. كونا بريا عصيا على الادراك مع أنه في متناول النظر. منذ ساعات، فقط تركت فضاء "باريس" المتراكم بعضه فوق بعض. ضباب كثيف بلا نور، خضرة مطاطية بلا روح. أكوام من الأبنية الأسمنتية المتراكبة (مثل قمصان الميت من البرد) أرتال من السيارات التي صارت ترهق الأرض. وبعض بشر لا يزال يعرف كيف يمشي على قدميه بشر نسي.، بالتأكيد إنه من هذا البشر. عن كثب أرى. أحجارا عظمي تجلس بأبهة فوق القاع. أتربة وأشواكا شتى مرمية بإهمال في كل مكان. عالما يعبره الضوء بلا حواجز أو سدود. الشمس تلامس مباشرة جسد الأرض. في هذا الخليط الملتهب أبحث عن الماء. عن نطفة خضراء تخصب العين. عن مرقد أو مسيل، دون جدوى لكأن الطبيعة التي وهبت اليمن كل شيء أخذت منه كل شيء أيضا. ماذا بقي لي غير أن أنظر وأن أتمتم غير أن أتبصر، وأن أتحسر: أرض بلا ماء! في فندق "سبأ" أكبر فنادق العاصمة (أريد أن أقول فندقها الكبير الوحيد) جلست وحدي، شربت شايا، واستمعت الى موسيقى صاخبة ذكرتني بباريس. أغان انجليزية رديئة تغنيها فتيات مبتدئات على أنغام متهورة، من أي مكان هن ؟ أسأل النادل. لا يتكلم العربية. وأنا؟ لا أريد أن أتكلم بغيرها هنا. الفتيات الثلاث يعلن، فجأة، أنهن سيغنين "لمايكل جاكسون". وأتعجب من سماعي: مايكل جاكسون في قلب صنعاء التي قدت من حجر؟ لماذا لا تغني العربيات ؟ ولكنهن أين ؟ هل رأيت نساء في صنعاء؟ لا تخضع لاغراء ذاتك عندما ترى الى نفسك. ولا تسرف في تشددها عندما ترى الى الآخرين. العالم، دائما، ثنائي القطب: هو وأنت لماذا تريد أن توحده في ذهنك وعينيك ؟ هل ثمة مصدر آخر للاستبداد غير هذا، غير هذه الإرادة المنافية للطبيعة ؟ هنا. بشر لا تسأل نفسك لماذا يعيشون، وانما كيف يستطيعون أن يعيشوا. كيف يستطيعون أن يواصلوا "العيش" في هذا الفضاء الحجري الصارم. ومن الذاكرة الحجرية تستعيد بروقها وأزهارها، ينابيعها ومتاهاتها، ثوراتها وخموداتها. وتضحك. تضحك وأنت تتلمظ بكلمة "الحداثة" التي غدا طعمها لينا وسمجا (لكأنما عجنتها الشمس). تضحك وتضحك معك الصخور. "الحداثة" هي "طريقة استعمال الزمن من أجل الانتاج". واستعمال الانتاج من أجل انتاجات أخرى "تتراكم". وتراكمها هو الذي سيؤدي في النهاية الى التمايز" تمايز الفئات والأفراد: مصالح، وأفكارا وأخلاقا وسلوكا. وهذا "التمايز" هو العتبة الأساسية في الحداثة وناظمها الكبير، لماذا لأن كلا منا (باعتباره فردا، وباعتباره جزءا من فئة) سيدافع، منذ يعي "العملية" عن دوره فيها. أي انتاج ممكن في هذا الفضاء المنفتح على الأزل، المتخم بسكون هائل تحسه العين قبل أن يستوعبه الإدراك ؟ وأي تراكم ممكن، غير تراكم الزمن السرمدي، في هذا "العالم" المعتليء بذاته، والذي يهزأ، علنا من كل أطروحات الحداثة، ومن لغوها؟ فجأة يلمع الضوء في عيني. ان تستعيد الطبيعة التي فقدتها، او التي لم تعرفها، أبدا، من قبل.. شيء رائع. لست بحاجة الى احكام ومقولات، اذن (وبخاصة عندما تكون مستهلكة وهل ثمة أخرى؟) لأحاكم بها عالما يحيا. انني بحاجة الى اكتشافات.. الى عيون جديدة أرى بها العالم من جديد الى ملامسة حسية أخرى. الى مقاربة مبدعة لعناصر الطبيعة (التي تعودنا على إهمالها). ما جدوى أحاسيس الكائن إن لم تبصر خطرات الكون وأصداءه ؟ لندع هذا، كله جانبا ولنمش. أريد أن أرى العالم لا أن أتوارى في ذاتي. أريد أن أحس، لا أن أعس. [c1](2) الجمعة صباحا [/c]موعدنا للانطلاق الى "مأرب" وسدها التاريخي العظيم. قبل الانطلاق مباشرة حذرنا السائق الشاب، ذو الوجه الملتهب من العرق والغبار، وقد تقاطع طريقنا وطريقه، صدفة، حذرنا من خطورة الذهاب الى هناك. حدثنا بعفوية تأسر اللب، وتدعو السامع الى التصديق، دون حاجة الى برهان، كيف يمر الصدق من العين الى العين ؟ وما حاجة الجاهل الى برهان ممن لا يعرف البرهان ؟ اقتنعنا، فورا بما قال دون أن نطلب المزيد. كنت أحلم منذ أن رأيت الأحرف ترتسم على الصفحات الصفر في أقاصي "الجزيرة السورية"، برؤية السد القرآني، وها هوذا يطير من أمام عيني قبل أن أراه. حولنا وجهة الرحلة الى أمكنة أخرى. أمكنة لا تفتقر اليمن التاريخية الى أمثالها. ماذا بقي أمامنا غير أن نبدأ السير، أخيرا؟ في الطريق. وجوه محروقة. ألبسة بلا ألوان. بشر يمشون بهدوء ويتكلمون صمتا. واذا تكلموا تكاد الا تفهم مما يقولون شيئا. لماذا؟ لانهم يخبئون نصف الكلام في نفوسهم، ولا يظهرون لك إلا نصفه الآخر، النصف الذي لا يريدونك أن تدرك منه شيئا. أي شيء يملأ هذه الرؤوس المحروقة، والوجوه العابسة باستمرار ؟ لم أر أحدا منهم يضحك، أبدا، ولم ترهم يضحكون ؟ يتلفت الشاب. عود الحطب الخارج من الرماد. لكأنه يبحث عن أحد يئس من لقائه، وأصر، مع ذلك على أن ينتظره الى الأبد فأصر مع ذلك على أن يلقاه. من يخاطر بانتظار هذا الوجه البائس ؟ من يملك الشجاعة لانتظاره ؟ ولم يمكن أن ينتظر واحد مثله، أصلا؟ كائن مهتريء وهو في أول الحياة. الجمعة ظهرا كوكبان "عالم رائع من الأحجار التي كأنها التبر". كوكبان، هكذا قالت «مريم» الصغيرة ذات الأعوام العشرة، عندما سألتها عن اللثام الأسود الذي يخفي كل شيء فيها عدا العينين. لأول مرة خطر لي، وأنا أحدق فيها، إن العيون أبواب للروح ومداخل للجسد وأنها وحدها تكفي للنفور من الكائن، أو للدخول عليه (واليه) بلا حجاب. اليمن بلد دائري. وهو ليس مغلقا وانما محفوظ بجغرافيته. خطر لي ذلك وأنا أتمعن في مدينة "الأهجر"، في الطريق الى "محويت ".. "الأهجر" ؟ قلت سائلا "ابراهيم" الذي كرر الاسم ببراءة دون أن ينبش في خفاياه، أو أن يهتم، على الأقل بما كان يعنيه. أهجر اليها، لا منها بالتأكيد قلت مخاطبا حالي، وأنا أرفع رأسي الى السماء ملاحقا بيوتها ( أعشاشها الحجرية الهائلة بالأحرى). أعشاش جبارة حفرت على مر العصور في قمم الجبال المتشتتة في الفراغ. من أراد بها شرا، ذات يوم ؟ ولماذا التجأ أهلها كالطيور المطرودة الى أعالي الجبال. أي خوف تاريخي أجبرهم على التعلق في السماء. لا. ليس عسيرا على الفهم أن تكون اليمن في التأريخ، مصدرا مستمرا للتمردات. التضاد الصارخ بين القمم والوديان. والوجوه المحفورة في الرؤوس الصم الأجساد الذابلة من "القات" الأرواح المكبوتة التي لا تغادر الأجساد التي تقيها شر التطفل الا لتعود سريعا اليها. في هذه البلاد "العزلة" هي الشكل الوحيد للتواصل. اي نوع من العواطف ينشيء هذا الشكل غير التوتر والاحتراق. وتبلبلني الأفكار. المفاهيم فارغة وجوفاء، الحياة الحقيقية هي هذه الحياة. وحياة مثل هذه لا يمكن تلافيها. واستدير. أرى الى الأسفل أرى الى الأعلى. يمينا أرى. ويسارا أرى. لا تملأ رأسي إلا فكرة طاغية: فضاء لا يوحي بالتعقل بل بالعصيان. ماذا يريد الأدعياء، إذن ؟ واستدير،مرة أخرى. أرى وجه "إبراهيم" المتلأليء بالنور، وهو يقف فوق صخرة حمراء. ينظر في خلاء أبدي قاهر. الى جانبه يقف "علي" بثوبه الأبيض الهفهاف، يحرك بمتعة ذراعيه، وهو يدلي بجسمه في الفراغ. "يريد أن يطير" صحت محذرا "ابراهيم" من طيران "علي" وقد بدا على أهبة السقوط في حضيض "كوكبان" الهابط، بلا رحمة الى القاع. وفي البعيد أرى. أرى لأول مرة ضبابا،. ضبابا مملوءا خيلاء. ضباب لا يستر بشرا وطرقات (مثل ضباب أوروبا البليد) وانما يخفي قمم جبال يسكنها الناس الطيور منذ أول العصور. من النهار تسقط في الليل رأس. هذه كانت حالنا، ونحن نصل "الطويلة" للتو كانت الشمس تملا عيوننا، وفي الحال صار العالم ظلاما. لابد أن يكون ذلك الهجوم الغامر للظلمة علينا قد تم بفعل تلك الجبال القصية على الفهم والتطويع. في رؤوسها أبحث برغم العتمة عن الناس. في بيوتها الصخرية المتوازية على القمم المتجاورة لا أنس ولا جن. حتى الطيور لا تصل اليها. وأصير أبربر لنفسي، وأنا أحاول أن أرقي الجبل المبتديء: دور جميلة بلا كائنات ؟ كنت أريد أن أرى وجه أحد يطل. وجه امريء ينبيء وجوده في أعالي الكون. ولكن كيف يمكن للآن ترى وجه من لا يردك الا بالسواد؟ كيف يمكن لك أن ترى وجهك أنت عبر وجه ملثم ؟ أو أن تسمع صوتك من خلال صوت مكتوم ؟ بلد بلا نساء. رجاله ظمأي يبحثون عن حب مستحيل، حب مكشوف الوجه والانحاء، يمارس تواصله علنا وصريحا. عالم مكفن بالأسود، ويسكن "المقيل" كف منتج حيا؟ عالم بلا فروقات ظاهرة لكنه متخم بالرعد والاهتزاز. عالم حي شديد الحياة، لكن الحيوية تنقصه الى حد كبير. في هذا العالم ذي الوجه الواحد، واللون الواحد، والجسد الواحد، فروقات "متفجرة" لا تراها العين (بل تراها) لكن التعرف عليها يقتضي جهدا (وينتج شعرا.)الجمعة ليلا. (ما معنى الوقت بعد مغيب الشمس في اليمن ؟) نعود الى صنعاء نعود من رحلة الشمال القصيرة - الطويلة. نعود لنبدأ رحلة "الجنوب ". [c1](3) "ذمار" مساء. [/c]انحدرنا من جبال "صنعاء" العالية المهيبة، متجهين الى "عدن ". ما إن غابت الشمس حتى حل الليل بلا مقدمات. لكأن الظلام لم يكن ينتظر الا بروز النور. أي جنون دفع بي للسير ليلا؟ للسير على طرق ضيقة وخطيرة، ذلك اليوم. خوف من الرؤية المليئة بالضوء ؟ أم خوفي من التوغل في فضاء صرت أحبه أكثر يوما بعد يوم ؟ فضاء صار يستثير حنيني (الى أي شيء كنت أحن ؟) المكبوت منذ سنين. الطريق الملتوي مثل امعاء الميت أصابني بخوف حقيقي. خوف كاد يشل طاقتي على التمتع، خوف كان ينحدر الي من قمم تركبني باستمرار أو ينبع من وديان لا ترجع الصدى ولا تعيد الصوت. أنصل عدن ؟ من "بيت الكوماني" اشترينا قاتا وماء باردا وتابعنا الطريق: طريق الظلمة الذي لا يحد سائقي "علي" وهو شاب أسمر متحمس، كان يردد: "أريد أن أخزن". ولأنني لم أكن أرد لانشغالي العاطفي المفرط بانكسارات الضوء المظلم على القمم المتجاورة مثل اثداء هائلة في الفضاء، كان يضيف خجلا: التخزين ضروري للطريق (لكأنني كنت أجهل ذلك). وأفهم منه أن حياتي معلقة بتخزينه. ويفهم هو أنني فهمت ويفرح، يصير يقود بمرونة أذهلتني. لكأنه كان يلاعب الطريق. "أنا أيضا أريد أن أخزن"، أقول بصوت متواطيء. ورأسا يهيىء الوليمة الخضراء لكلينا. يهيئها دون أن يكف عن مداعبة الطريق الذي صار يتلوى، أكثر فأكثر، عمدا. الليل الذي أناخ بكلكله على الكون لا يسمح للعين بالرؤية المتروية. كنت أحسني اخترق الظلمة المضيئة لألقي نظرة فضية على الجبال والوهاد التي لا تكف عن التراجع، خلفا. كنت أحسني أخلف جزءا مني مع كل مشهد يمر بي ولا أمر به إلا لمحا. إزاء ذلك التراكم الكوني الهائل صرت أحسني طفلا شاخ على الرغم منه. شاخ دون أن يتمكن حتى من النظر البسيط على محيط كان يرده قبل أن يتراءى له الآن.من جديد اشترينا "قاتا" القات "العمري" طعمه طري وطازج. له نكهة حمراء تصعد النفس فورا. آه، الليل والظلمة التي غدت، سريعا، أليفة والطريق الضيق الذي وكأنه مسكون بايحاءات شتى والقات العمري الملتبس.. أنصل "عدن"؟ "يريم " ووهادها الغاطسة في ظلمة الليل. وحده قمرها الساطع يستقبلنا بحنان. لكأنه اعتلى السماء الكاشفة ليدلنا على الطريق أتراه حسبنا قافلة من الحرير والبخور؟ أم تراه "عارف الطريق الى عدن؟ أخذنا اتجاه "الضالع" ونحن نقصد "عدن" الجبال التي كانت تنبع من القاع بلا فواصل أو انقطاع سورتنا بظلمة فضية نهبتها من القمر لتلقي بها على الطريق، أمامنا. طريق لم نكن نسير عليها بل كانت تسير هي فينا، ودليلها الى نفوسنا.. واليمن في الليل قمر. من "الحقب" هبطنا الى "الحبيلين" الكيلومتر 11 عدن تقترب منا. في "الحبيلين" قعدنا. "علي" أكل خبزا وفولا وشايا أبيض (بالحليب). وأنا أكلت خبزا ساخنا فقط. خبز الليل الخارج رأسا من التنور. تنور بري يخبز عليه شاب يكاد ينكسر عندما يميل على النار. شاب عابس الوجه باستمرار.الرغيف الأول - الرغيف الثاني - الشاب ينظر الي بعجب. يراني ألتهم الأرغفة وأنا أكاد أكون سعيدا. أتراه استشف ذلك من خلال لهب الليل وعرقه ؟ أم تراني كنت استقبل ما أعطانيه بلهفة اللذة التي نسيت الجوع ؟ إنها المرة الثانية التي أتعشى فيها خبزا ساخنا يخبز أمام عيني. الأولى كانت في "حي القاع" في صنعاء الحي اليهودي القديم. وفي المرتين كان الوقت ليلا. بالقرب منا جلس رجلان شاحبا الوجه والقوام. مجرد النظر اليهما يكاد يؤذيهما. "علي بدا سعيدا وهو يكلمهما بلهجة متعالية ".. سألهما عن "مدير الناحية". وعن نائبها في البرلمان وعن مكان الهاتف وعن أحوال الناس. والرجلان يجيبان باهتمام وهما يتطلعان مرة اليه ومرة الي. دون أن يمتعضا. فجأة، قمنا ودخلناها. وبدأت السيارة البيضاء تلتهم الطريق بعصبية. كنت أسمعها تردد في أنينها المكتوم ذلك الليل عدن عدن عدنعدنعدن. الساعة الثانية بعد منتصف الليل. من جبال الشمال الشاهقة و"المخيفة" تلك الهامات الجبارة التي كانت ترتسم (أكاد أقول تبتسم) لي في ظلام الليل المضيء على الطريق، سقطنا، فجأة في السطح: في شعاع من الأرض المرملة، المنبسطة بلا حدود. وأبحث في ضياء القمر (الذي لم يتركنا) حولي. الأرض المنبسطة كالانسان البسيط: رؤيته في متناول البصر، لكن محاولة فهمه لا تستحق العناء. ماذا بقي غير أن نقطع الطريق حتى النهاية ؟ من الطريق تعلمت أهمية المرئي لا تكمن فيه فحسب، بل في العين التي تراه ايضا. وأصير أرى، في ضوء القمر المتواطيء رملا وأعشابا وشجيرات شتى تنحدر معنا الى الجنوب. فضاء فضي لامع وبلا خوف ،. صارت الأرض بحرا وصرت أبحث عن شواطئه في البعيد. بحر ليلي ملأني بالتوجس والحنين بحر من الضوء الموهي بكرم على الكون. أرض - بحر تدفع المسافر الى سفر أعمق وأشد. متى نصل عدن؟ الثالثة بعد منتصف الليل. أخيرا وصلنا "مدائن" عدن لا لن أستريح قبل أن أكتشفها هي الأخرى ليلا. عدن مدن لا مدينة واحدة. مدن وجبال يحيط بها البحر (أقصد تحيط بالبحر وتغريه): "خور مكسر، المعلا، النواهي، الشيخ عثمان، عدن الصغرى، جزيرة العبيد، كريتر، و.." ليل وجبال وبحر ومدن. مدن وبشر لطيفون يأكلون (ماذا يأكلون) في ضوء القمر العدني الآتي من الأعلى، المختلط بضوء البحر النابع من الأسفل. يأكلون ؟ أراهم يتمتعون بأكل لا أراه أنا، وهم ينبسطون على أتربة الطرقات الليلية الخالية إلا منهم.جمال لا يقهر. بكيت من النشوة في عدن. نشوة بكماء لا تفسير لها ولا تبرير لا لن أنام قبل أن أمشي المدائن كلها ليلا -قبل أن أنطلق في البحر بعيوني. لأول مرة أدركت أن الحركة المغامرة محدودة المتعة والادراك. وأن الرؤية الكاشفة، هي وحدها القادرة على كيهما. أعود من جديد الى البحر، البحر مضطرب بهدوء في عدن. الزبد الأبيض يتراكم بحياء على الحصى والتراب، أقف في عراء الليل لصقه صامتا وحزينا انظر.(الى أي الجهات كنت أنظر؟) ليس للبحر جهات. البحر كالصحراء(التي قذفت بي) تقصده وبه لا تقصد حدا. أقف فوقه، وأنام. عدن في النهار خائفة لكأنها نبعت من الجحيم. من جحيم مبلل بالرذاذ. رؤوس الرجال فيها حمر. عيونهم مكحلة بالأسى والشوق شوق تحسه دون أن تدرك مصدره أو منحاه. شوق الملقى على شاطيء بعيد ينتظر السندباد. أمشيها نهارا وأنا أغمض عيني حتى لا تختلف الصورتان: صورة النهار وصورة الليل. أمشي الأسواق والحويرات. أتشرب رائحة الأسماك والبحريات. عبر الفضاء الممتليء بالناس والحاجات أرى في البعيد حركة الحيتان التي لا تكف عن الخروج من البحر والغوص فيه. أرى وجوه النساء السمر المذعورة، ذوات الأجساد الملفوفة بالعصيان، والعيون المتسابقة الى المجهول، عيون تسبق الروح وتقود خطاها. رائحة الناس تمشي معهم، ولكن مستقلة عنهم، في عدن. عدن هي المدينة الوحيدة التي ترى فيها رائحة الكائن قبل أن تراه. وعندما تراه، ترى، في الوقت نفسه، رائحته وهي تقف الى جانبه. كائنات ثنائية الوجود، هي كائنات عدن. ماذا أفعل لتوحيدهما: لتوحيد الكائن ورائحته ؟ كنت أريد أن أغادرها، وفي الوقت نفسه أريد أن أبقى فيها. عدن تشدني وعدن تردني، في عدن لم أتوصل أبدا الى تحديد عاطفتي ولا الى تبديدها. صرت كائنا مواربا في عدن. أتواطأ مع نفسي وضدها في آن.. وكما رأيت رائحة كائناتها، كنت أرى "لوثتي" تقترب مني بإلحاح، رأسي صارت تنهج نهجا وجسدي نهجا آخر. خيوط سرية لا تقاوم صارت تربطني معها وفيها من يخلصني من عدن ؟ تريد أن نغادر؟ سألني ببساطة وبلا تعقيد "علي" وهو ينظر مبتسما الى الهرج المحيط بنا. وأحسست به مستعدا للسفر فورا. هو الأخر، يقطر عرقا وزيتا في صباح عدن الواطيء والمدفون. من منا سيغادر عدن، بعد الآن؟ [c1](4) من صنعاء جئت ظلمة وأعود اليها نورا. [/c]تركنا عدن "الخانقة" في الصباح متوجهين الى «تعز» تعز الرائعة ذات الجبال المرصوصة، والرقي المستمر الى الغيم. كيف يسكن الناس قمما لا يمكن الوصول اليها بلا أجنحة ؟ جبل "صبر" الهائل المحشو بأعشاش المساكن الراكب بعضها فوق بعض، يهيمن على فضاء ه تعز المملوء نورا ". "قلعة القاهرة " العظمي تتوسطها فوق جبل متوحد كعلم من اعلام الكون. "تعز" أو تعز على من يريد الاستيلاء عليها من يدري؟ ثمة أسماء لا تكفى حياة واحدة لادراكها، ومنها هذه الـ "تعز". الساعة الثالثة ظهرا. المدينة مليئة بالحركة والضوء. الجبال حولها تبدو هادئة وسعيدة. لكنها تخبي، نور الشمس للغروب، في مقابل «القاهرة » أقف. أقف منتشيا بلا حراك. لكأنني أدبر أمرا. أريد أن أتشبع بالمشهد العظيم قبل أن يسرقه الزمن من عيني … بعد جحيم عدن نسيم "تعز". إذا كانت عدن ساخنة وغاطسة في الأرض، فإن "تعز" منعشة وخارجة منها. لا، لم أعد أريد أن أرى شيئا. أغمض عيني على الطريق، بعد أن تركنا فضاء "تعز" لكن "علي" سيجبرني على فتحهما: " انظر. انظر". انظر أي شيء أجبت وأنا لازلت أغمض عيني. "إنها الساعة السادسة، وهذي هي مدينة "إب ". إب ؟ أهب من غمضتي المصطنعة على الطريق. أرى ولا أرى شيئا. كيف يمكن للكائن أن يستوعب الطبيعة من مجرد النظر اليها ؟ قمم وقمم أخرى أعلى وأعشاب وقرى معلقة في الريح. الطريق يتلوى كارها، وهو يصعد الى السماء، لمس الغيم يبدو في متناول اليد. وفعلا، أصير ألمسه ونحن نخترقه ذاهلين. كنا نصعد حقا الى السماء ولكن هل نهبط منها...؟! "الطريق طويل - طويل "، قال "علي" وأضاف "طويل على الصاعد، لا على النازل ". " طويل ؟" سألته. "سنظل نصعد حتى الغروب" أضاف. ولكن متى يحين الغروب ونحن في متناول الشمس؟ ولأنه حسب تعجبي خوفا، قال "سنظل نصعد حتى القمر، حتى طلوعه" ودون أن ينظر الى (وهل يسمح له الطريق بذلك) أضاف "وسنهبط من جهة الغيم الأخرى". لنخزن قبل أن نصل الى القمر قال "علي" وهو يقدم لي ربطة من "القات الصبري. الرائع ( نسبة الى جبل صبر). ويأخذ واحدة لنفسه. قات الجبل الذائق حيث لطعمه نكهة الأعشاب البرية. وسماحتها (صارت خضرته الندية تثير شغفي ولوعي). وفورا نبدأ التخزين. "انظر"، يقول "علي" من جديد ؟، متباهيا. يقول، وهو يشير أمامنا، تماما، حيث بدا القمر تحت مستوى النظر. "طبيعة عجيبة كانت تغمرني بوهجها ورؤاها. طبيعة تتمرد على نفسها قبل أن يصل شوقها اليك. طبيعة مسكونة بالتناقض والاحتدام. التناقض العميق بين الأعلى والاسفل، بين الناتيء والمدور، بين الهابط والصاعد، بين الهاديء والصاخب، بين الصامت واللاهج، بين المحكي والمسكوت عنه، بين المنظور والمستور، هو الذي يشحنها بتمرد غير معلن مع أنه يكاد يكون مرثيا. لابد أن التمرد الأول ولد هنا، وهنا فقط. ومن هنا انتقلت صورته اللغوية الى "وهاد الشام" و"سواد العراق". جذوره بقيت هنا، ولغوه صار هناك. عنجهية الطبيعة، هنا، والصلف في تشددها يجعلنا ندرك ما لا يمكن ادراكه بالتنظير. والطبيعة لا تفصح عن نفسها فحسب بل عن كائناتها أيضا. ماذا تنتج الطبيعة غير روح الكائن ؟ * روائي سوري، يقيم في فرنسا)
|
ثقافة
عشرة أيام في اليمن
أخبار متعلقة